تقارير

القصّة كاملة … الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد شيخ الشهداء معشوق الخزنوي

تحقيق: حسينة عنتر

مقدّمة:

 كان خلافاً لإخوته يرى في الإسلام المعتدل خلاصاً للبشرية إذا مورست تعاليمها بعيداً عن التسيس، حيث أنه كان دائماً يتحدث عن مرونة المعايير الإسلامية، عن التسامح، الحق، العفو. لذا كانَ مصيره كمصير غيره من الشيوخ الذين حاولوا أن يتقربوا من قضايا شعبهم. نعم كان هذا مصيره كمصير الشيخ محمد سعيد البيراني وسعيد نوري الكردي وسيد رضا وغيرهم ممن ضحّوا بأرواحهم فداءً لوطنهم.

 تعدّدت الأقاويل واختلفت الآراءُ حولَ سبب اختطافه وحول هوية المختطفين له، والأهم هو تغيب الشيخ الجليل عن شعبه وعن محبيه. بمسرحيةٍ مخابراتية، شيخنا الجليل كان في سوريا عندما تم اختطافه من دمشق مخدراً ومن ثم اقتادوه إلى حلب ليقتلوه هناك، وبعدها إلى دير الزور ليدفنوه، إنه الشيخ الجليل محمد معشوق الخزنوي

من هو معشوق الخزنوي….؟؟؟

هو محمد معشوق، الابنُ الثالث للشيخ عز الدين بن أحمد بن ملا صوار الخزنوي، الذي ينتمي لعائلة كردية هاجرت  في النصف الثاني من القرن الماضي من قرية بايزيد إحدى قرى باكور كردستان إلى روج أفا كردستان. وسكنت هذه العائلة قرية خزنة لذا سميت بالعائلة الخزنوية نسبة لتلك القرية.

 كان جده الأول ملا صوار- الذي تنتسب إليه العائلة- متصوفاً، بنى جامعاً في القرية وبدأ بنشر الإسلام، ومن ثم اتخذ من المناطق التابعة لتلك القرية ممتلكات له، وبعدها انتقل قسم من أولاده ومنهم أحمد الخزنوي إلى قرية تل معروف وأنجب كل من علاء الدين ومحمد معصوم وعبد السلام، واستقروا في تل معروف التي تبعد حوالي 2 كم عن قرية خزنة والتي تبعد 30 كم جنوب شرق قامشلو.

ولادته ودراسته:

ولد معشوق بقرية تل معروف في الخامس والعشرين من كانون الأول لعام 1958 هو الابن الثالث من بين الذكور لوالده من أمٍ ثانية. درس مبادىء العلوم الشرعية على يد والده عز الدين، ثم أتم المعهد الشرعي الذي أسّسه جده أحمد الخزنوي إلى جانب دراسته النظامية في مدارس الدولة. نال الشهادة الإعدادية عام 1974 والثانوية الفرع الأدبي عام 1977 وبعدها انتسب إلى معهد العلوم الشرعية بباب الجابية بالعاصمة دمشق ونال شهادتها بامتياز، لذلك رشحته إدارة المعهد لاستكمال دراسته في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث حصل على إجازة جامعية في العلوم والشريعة الإسلامية، ثم أكمل دراسته حيث نال درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية عام2001 من كلية الإمام الأوزاعي بلبنان عن أطروحته (لأمن المعيشي )، وكذلك نال درجة الدكتوراه في الدراسات والعلوم الإسلامية بجامعة كراتشي بباكستان عن أطروحته واجتهاده في مشروعه ( التقليد وأثره في الفتن المذهبية).

هيئته … علاقته مع عائلته:

كان معشوق طويلَ القامة نحيف الجسد، ذا عينين جاحظتين، متلفحاً بعباءته التي كانت تتميز بطولها حتى قدمية، وبكوفيته التي كان بين حين وآخر يعدلها بيده كأنه يريد أن ينتعش رأسه بنسمة هواء، وبلحيته التي خالط بياض الشعر سواده.

 كما تميز بخطواته السريعة حين يمشي، وكان متواضعاً بسيطاً، خلاف إخوته الذين عندما يتواجدون في مكان ما تجتمع حولهم حاشيتهم. وكان أكثر ما يثير سخطه تقدم العديد من الأهالي لكي يقبلوا يده حباً به وبمكانته وخشوعاً لشخصه وعلمه.

 أما بالنسبة لعلاقته بوالده وإخوته، فكان دائماً على خلافٍ معهم بسبب علاقاتهم مع الناس، فكانوا يسيّرون الفلاحين في أعمال عدة للعمل في مزارع الشيخ أو جمع الحطب للتكية أو يعملون كخدم في قصورهم، وفي بعض الأحيان كان يُستعمل الضرب لمن يرفض ذلك. وبسب هذا التباين الواضح بين أفكاره وبين فكر والده وعائلته، وكذلك السبب الأهم وهو نقل والده المرجعية أو الخلافة إلى ابنه محمد الخزنوي وعدم تسليمها لشقيقه عبد السلام الذي هو أحق بها بعد وفاة الوالد( أحمد الخزنوي) مما أثار حفيظة معشوق، ولكن لم يستطيع فعل شيء أمام قرار والده مما دفعه إلى مغادرة مدينته والتوجه إلى محافظة إدلب ليعمل خطيباً و مدرساً في مساجدها لفترة بالإضافة إلى التدريس في الثانوية الشرعية.

مكانته ..صيته الاجتماعي:

وبعد وفاة والده عام 1992 عاد من إدلب واستقر في مدينة قامشلو، وعمل منذ الوقت خطيباً في مساجد المدينة. وكان دائماً يسعى إلى رفع مستوى الوعي لدى كل طبقات المجتمع وحضهم على المواطنة، مما نشأ لدى جماهيره حبٌ قوي لشخصية معشوق. وتنامت شعبيته بين أبناء مدينته وخاصة بين الأوساط الشعبية والطبقة المتوسطة من الأهالي. وكان عندما يلقي خطبة الجمعة في جامعٍ، كان يتسابق أهالي مدينة قامشلو للحضور، فكان يتعالى في خُطبه الإخلاصُ للوطن والتمسّك بالحقوق لأنه المعيار الوحيد للتفاضل بين أبناء قومه وليعيش أبناء البلد الواحد بسلام مع جميع مكوناته سواء كانوا عرباً أم كرداً أم أي مكون آخر.

الخطابُ التاريخي…. خطبةُ الوداع:

بعد انتفاضة 12 آذار عام 2004 بقامشلو، أخذ على عاتقة عملية إيقاظ الكرد من خلال الخطب في الجوامع والمشاركة في الندوات أو المحاضرات المناهضة لسياسة الظلم والاضطهاد التي كان يمارسها النظام آنذاك ضد الكرد.

في خطابه الذي ألقاه بعيد النوروز وبعده الخطاب الناري الذي ألقاه في سنوية الشهيد فرهاد بتاريخ 8/4/2005 أي قبل اختطافه بخمس أسابيع لربما كان السبب المباشر لاختطافه واغتياله.    

ولكم أيها القراء مقتطفات من الخطاب :

أيها الأخوة ..أيها الأحبة.. أيها الحضور

 يعلم الجميع أنني ما شاركت في مأتم موت أحد. اليوم أقول إننا عازمون أن نحيي من أمتّموهم وعازمون أن نبني ما هدمتموه وعازمون أن نعمّر ما خربتموه، وإن فرهادَ وأمثاله سيكونون حباتنا التي ستنبتُ سبعَ سنابل، في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء ؛ نساءنا سيلدن آلافاً أمثال فرهاد وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون؟
لذلك اليوم: أنا بينكم ليس من أجل سنوية فرهاد سنوية موته ومأتمه، إنما أنا معكم من أجل سنوية حياته ؛وسنوية حياة شعبه وأمته؛ فرِحٌ جداً أن أقف معكم وأنا أحتفل بحياة هذا الرجل؛ لكنني أيضاً حزين جداً لأن عشرين و نيفاً من شهدائنا مرت عليهم سنة على حياتهم ولم تحتفل أمتهم بحياتهم.

وعلى الصعيد الاجتماعي والوطني كان الشيخ دوماً يطالب بالحقوق المسلوبة وإعطاء الحرية للمجتمع وإشراكهم في العملية السياسية السلمية بعيداً عن القمع والظلم.

الخطفُ ومسرحية الاغتيال:

بعد الكلمة التي ألقاها معشوق في 8/4/2005 ألقي القبضُ عليه من قبل أشخاص مجهولين. البعض قال أزلام النظام ومنهم من قال من بني عائلته. المهم أن الشيخ الجليل بعد ذلك الخطاب بخمسة أسابيع اختطف إلى جهة غير معروفة 10/5/2005 وانتشر خبر الاختطاف بين الناس ودبت حالة من الرفض الشعبي،  وخرج الناس إلى الشوارع للتظاهر. ومن وجهة بعض المحللين وذوي النظرة المخالفة لآراء الشيخ التي اجتمعت مآربهم مع مآرب الأجهزة القمعية بضرورة التخلص من الشيخ، حيث جاء في تقرير أمني صادر عن الاجتماع الأمني في محافظة الحسكة ، أن معشوق الخزنوي أصبح ظاهرة مقلقة ويجب التخلص منها! ولكن بعيداً عن محافظة الحسكة حيث أوعزت الأجهزة الأمنية إلى أزلامها بمراقبة الشيخ الشهيد إلى أن تم اختطافه في العاشر من أيار 2005 في دمشقَ يوم الاثنين ليلة الثلاثاء بطريقة عصابتيه. حيث قامت مجموعة مجهولة الهوية بالسطو على مقر إقامة الشيخ العلامة معشوق الخزنوي بدمشق وأجبروه على الذهاب معهم واقتادوا الشيخ إلى مكان مجهول بعد الاطمئنان بأن العملية تمت بكامل جوانبها وأوجهها المسيّسة.

ثم أودع  الشيخ معشوق في سجن صيدنايا السياسي قرب دمشق. على إثر ذلك خرجت الجماهير إلى الشارع في مظاهرات بمدينة قامشلو لتعم جميع مناطق سوريا وخارجها، مطالبة السلطات والجهات المعنية بالإفراج عن الشيخ الخزنوي، كما أدانت منظمات حقوقية وأحزاب سياسية ودولٌ هذا العمل الخسيس وطالبت بالإفراج الفوري للشيخ معشوق. إلا أن السلطات السورية لم تستجب لذلك و أصرت على احتجاز الشيخ عندها مستجوبة إياه مستخدمة الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى. هذا ما انتشر بعد اغتياله.

ونظرا لعدم استسلام الشيخ معشوق لطلباتهم الدنيئة تعرّض للترهيب الشديد وشتى أنواع  الظلم والتعذيب، على إثرها أدخل إلى مشفى تشرين العسكري بدمشق في يوم 28/5/2005 كما صرح بذلك أحد الأطباء الذين أشرفوا على إعطاء الشيخ الإسعافات التي قدر عليها لمداواته وإنقاذ ما ألحق به من آذى إلا أن الطبيب لم يؤكد آنذاك على هويته وفضل الكتمان والسكوت خوفاً من بطش النظام وجبروته، ولكنه أكد مغادرة الشيخ المشفى بعد ساعات بمعية الفرقة الأمنية التي جاءت بصحبته، إلا أنه غادر وهو على قيد الحياة رغم الحالة السيئة والمنهكة التي كان عليها من شدة التعذيب.

نهاية المسرحية والكشف عن اغتيال الشيخ:

في يوم 31/5/2005 ليلة 1/6/2005 قامت الإدارة العامة بإخبار عائلة الشيخ بأنهم لقوا جثة حديثة بمقبرة في دير الزور، وتم اصطحاب نجلي الشيخ الشهيد الشيخ مراد والشيخ مرشد بطريقة أمنية بحتة والمغادرة بهما إلى دمشق ثمّ الى مدينة دير الزور، حيث سلمت لهما جثمان الشيخ بعد أن ادّعاء تمثيلية  أنه كان مدفوناً، بينما أكد نجلا الشهيد أنهما شاهدا قبراً مفتوحاً أخرجت جثت الشيخ منها وهي بحالة جيدة وغير متسخة وأنهما لم يشاهدا القبر وهو يفتح. وأكد نجلا الشيخ الشهيد وجود علامات التعذيب والتشويه الواضحة على جثة شيخ الشهداء.

وعندها قامت أجهزة الأمن أيضاً بممارسة قمعية مع نجلي الشيخ حيث أن المشهد انتهى عند الساعة السابعة صباحا من يوم 1/6/2005 بينما لم يسمح لهما بالإعلان عن مصير الشيخ إلا عند الساعة الثانية عشرة ظهراً 0
بعدها توجه نجلا الشيخ بكل ما يحملاه من أسى وحزن بصحبة جثمان والدهم شيخ الشهداء الطاهر إلى مدينة قامشلو التي عشقها الشيخ الشهيد ليدفنَ في مقبرة الشهداء بقدور بك بصحبة فرقة أمنية 0
إثر وصول الخبر إلى مدينة قامشلو، انتشر انتشارَ النار في الهشيم، وسرعان ما توافدت على قامشلو الجماهير من المدن والقرى وخرجت إلى مدخل مدينة قامشلو منتظرة جثمان الشهيد، في مظاهرة مليونية.

وصل جثمان الشيخ من المدخل الجنوبي لمدينة قامشلو، الساعة الرابعة عصراً واستقبل الأهالي وسكان قامشلوكا أفين شيخهم ليودعوه وهم يهتفون بحياته وحياة أبنائه، ومشوا سيراً على أقدامهم حيث جامع الشيخ في حي حلكو للصلاة عليه.

 تأخر وصول الجثمان بسبب الجماهير المليونية التي خرجت لوداع الشيخ والازدحام الذي عم مدينة قامشلو، حيث كان الجثمان الملفوف بالعلم الكردي محمولاً على الأكتاف رغم معارضة الفرقة الأمنية التي كانت تصطحب جثمان الشيخ، وطافت الجموعُ في شوارع قامشلو وصولاً إلى منزل الشيخ الشهيد الذي غرق بالبكاء والعويل حزناً على فراق هذا البطل.

وبحنكة من نجل الشهيد الشيخ مرشد حاول إقناع العائلة بعدم دخول الجثمان إلى المنزل نظراً لتأخر الوقت وتعب الناس حيث الوقت الساعة الحادية عشرة ليلاً توجه المشيعون بشيخهم إلى مقبرة الشهداء بقدور بك حيث وري الثرى في مشهد مهيب و قامشلو تبكي والمشيعون يرددون ( قامشلو فارغة و شيخ معشوق غير موجود )

” Qamişlo valaye ,şêx ma’şûq nexweyaye”
ومنظر آخر أشعل فتيل الغضب والغيظ لدى الجماهير، فأثناء مواراة الشيخ الشهيد في مرقده علا صراخ طفل في التاسعة من عمره وهو يبكي فوجئ الناس بالشيخ مرشد وهو يهدئ الطفل ويقول له كفى يا قتيبة إنه قتيبة مدلل  وصغير الشيخ الشهيد.

واختتم تشيع الشيخ الشهيد بكلمة نجله الشيخ مرشد بعد إلقاء كلمات التأبين من قبل بعض الأحزاب والمنظمات والكتاب شكر الشيخ مرشد الناس على ما بذلوه معاهداً أباه الشهيد أن يكونوا على طريقه ويكملوا المشوار الذي بدأه. وعلى مدى ثلاثة أيام أقيم عزاءٌ أمام منزل الشيخ الشهيد شاركت فيه مدينة قامشلو بصغيرها وكبيرها برجالها ونسائها، مستقبلة وفود المعزين برحيل شيخ الشهداء من المدن والقرى وكافة المحافظات السورية، ومحبيه من باكور وباشور. فكان مشهداً مهيباً سيبقى في ذاكرة قامشلو وأبنائها.

المقابلة التلفزيونية بعد رحيل الشهيد:

 استشهد البطل معشوق وتم استدعاء الجرمين، على شاشة التلفزيون السوري.

 كانوا ثلاثة أحدهم من دمشق والآخر من حلب والثالث من الحسكة، كانوا أنيقين لا تبدوا عليهم علامات السجن، وكانوا أمام المذيع يحتسون الشاي وهم يتكلمون بحرية مطلقة دون ارتباك كأنه درسٌ تم حفظه مسبقاً، ويسردون القصة المفبركة الخيالية وكأنهم ينتظرون جائزة لقتل رجل تم اختطافه من دمشق وقتل في حلب ودفن في دير الزور. هؤلاء الأشخاص الذين مثلوا الجريمة أمام مشاهدي التلفاز كانوا مأجورين وفيها غموض من ناحية التحقيق معهم وكيفية اعترافهم بجريمتهم.

كلمة المحرّر:

لقد رحل الشيخ معشوق، ولا أحد يعلم كيف وبأيدي مَن. مع تأكيد المصادر الرسمية إن الجريمة جنائية فإن هذ التوزيع لأسماء المتهمين يبعث على الحيرة والسؤال كيف التقى هؤلاء على قتل الخزنوي.

 كما وأن شقيق الشهيد محمد عارف رفض وبشدة أن يكون القاتل من آل الخزنوي ومستحيل أن يكون الإرث سبب القتل، لأنه أكد إن الميراث قد تم تقاسمه منذ سنيين طويلة. ولكن السؤال الأهم: ألسنا بحاجة لمثل هذه الشخصية الوطنية الصادقة في هذه الظروف الراهنة؟ ولربما كان لوجوده في مثل هذه الأوقات أهمية كبرى، ولربما استطاع أن يجمع الكرد ويعزز التقارب الكردي – الكردي.

ولا يسعنا إلا أن نقول: رحمك الله يا شيخنا، شيخ قول الحق، شهيد المنبر والمحراب. فسلام عليك يوم ولدت ويوم قولك للحق ويوم استشهادك، وتحية مجد وخلود لروحك الطاهرة الوفية.

زر الذهاب إلى الأعلى