مقالات

العيش بدون دولة

لقد دأب النظام الدولتي ومنذ ولادته على زرع فكرة أساسية في ذهن الانسان فرداً ومجتمعاً, ألا وهي (( استحالة العيش خارج منظومة الدولة )) وأن هذه الفكرة كانت ولازالت وببساطة إجابةً على السؤال التاريخي؛ هل يمكن للإنسان أن يعيش بمعزل عن الدولة أي خارج مظلتها, خارج سلطتها, خارج وجودها وكينونتها؟ فكانت الإجابة (( لا, يستحيل ذلك )) هذه الإجابة والتي ومع مرور الزمن أصبحت مُسلّمة غير قابلة لإثبات العكس ولا حتى مجرد نقاشها أو مجرد التفكير فيها, ويمكننا أن نقول بأن التفكير أو محاولة التخيل بأن يعيش الانسان خارج منظومة الدولة والتدوّل مثله مثل التفكير بأن يولد طفل من أم عذراء أو كبناء بيت سقفه معلق في الهواء بدون أعمدة ترفعه, أي وكأننا عندما نتحدث عن إمكانية عيش الانسان بدون الدولة فكأننا نتحدث عن معجزة أو ضربٍ من الخيال.

لقد أمضى المجتمع البشري أكثر من 95% من تاريخه بدون دولة (منذ ظهور الانسان وإلى يومنا هذا), فكانت هناك حياة منظمة وكان الناس يعيشون بحرية وسلام وكان كل فرد في التجمع البشري يعرف واجباته كما يعرف حقوقه ولم تكن هناك حاجة لدولة / لسلطة تعلو الناس لكي تنتظم حياتهم ولكي تتأمن سبل عيشهم, بل على العكس من ذلك تماماً, فالمجتمع البشري قد عاش أوج الديمقراطية والسعادة والرفاه قبل ظهور الدولة / السلطة / رأس المال, ولم تتدهور حياته إلا بعد ظهور الدولة, فالدولتية لم تجلب سوى المآسي والحروب والمجازر, ولم يظهر الاستعباد أصلاً إلا مع ظهور الدولة, ولم يظهر الظلم إلا مع ظهور الحدود الحديدية والسلطة الحاكمة على البقعة الجغرافية الموجودة ضمن تلك الحدود وتحوّل ْالشعب / المجتمع  الذي يعيش في تلك البقعة إلى عبيد وخدم للسلطة الحاكمة.

ولقد ألغت السلطة من ذاكرة المجتمع كل التاريخ السابق على ظهورها, وبذلك مسحت كل القرون الزمنية التي عاش فيها الانسان بخير وسلام, وجعلت السلطة من نفسها البداية المطلقة للتاريخ, وجعلت من قيم الخير والجمال تلك القيم المتوائمة مع معاييرها هي وجعلت الشر متجسداً في كل ما يتعارض مع معاييرها الموضوعة.

ومنذ ظهورها ولليوم تدأب الدولة على جعل نفسها ووجودها ومنظومتها الحقيقة المطلقة غير القابلة لإثبات العكس, وارتكبت في سبيل ترسيخ هذه الحقيقة أفظع المجازر والانتهاكات التي قد تخطر ببال, وجعلت من نفسها الرب الأعلى, والهواء الذي يتنفسه الناس والماء الذي يشربونه, بل والروح التي يعيشون بها, لدرجة أن الانسان يولد ويحيا ويموت لكي تُستثمر كل حياته من بدئها إلى منتهاها في خدمة وجود واستمرارية الدولة وثبات أركان قيامها.

لقد نجحت الدولة في ما سعت إليه وأصبح وجودها أمراً لا مفر منه لأن النظام الدولتي بات هو النظام الأوحد الموجود في الكرة الأرضية, ولكن؛ المقاومات المناهضة للظلم المُمارس من قِبل الدولة, هي أيضاً حالة موجودة ولا مفر منها ومستمرة في الوجود لأنها هي التي تسعى إلى إعادة الأمور إلى نِصَابِها, فإن كانت الدولتية هي التي تفرض نفسها كحقيقة فإنه وبالطرف الآخر توجد المقاومة الهادفة إلى إعادة المجتمع البشري إلى حالته التي كان عليها قبل ظهور الدولة ولكن بشكل عصراني.

في ظل ما سبق سرده والذي يمثل إيجازاً شديداً يلقي الضوء على خطوط عريضة جداً مملوءة بالتفاصيل التي أفرد لها القائد أوجلان مجلدات, نكون أمام أمور لا بد من التسليم بها في الواقع العملي, وهي: – من المحال الحديث في يومنا الراهن عن إلغاء الدولة – من جهة أخرى يستحيل العيش في ظل النموذج السائد للدولة في الشرق الأوسط. فما الحل؟

إن الحل الوحيد هو بترسيخ مفهوم الأمة الديمقراطية, وتقليم مخالب النظام الدولتي من خلال تحول نظام الحكم السائد فيها إلى نظام لامركزي سياسياً وإدارياً واقتصادياً, وسيؤدي هذا التطبيق إلى تخفيف حدة الصراع الموجود بين المجتمع والسلطة, وليس إلى إلغاء الدولة.

زر الذهاب إلى الأعلى