مقالات

قضبان خلف أوجلان

محسن عوض الله*

لم يكن الأمر سهلا وإن بدا كذلك للكثيرين فما أصعب أن تبحث فى سيرة شخص يضعه أتباعه فى مصاف الأنبياء إن لم يكن الألهة فى حين يصنفه أعداؤه ومعارضوه فى خانة الإرهابيين والقتلة.

سمّهِ ما شئت ، قاتل ،إرهابي، زعيم عصابة ، نبي ، رسول السلام ، القائد ، مانديلا الأكراد ، اختلف معه كما يحلو لك ولكن يظل الزعيم الكردي عبد الله أوجلان حالة يجب الوقوف عليها ، شخصية تستحق تسليط الضوء عليها ، نموذج لزعيم يستحق الإعجاب ، قائد حزبي وعسكري وزعيم قومي يمتلك كاريزما خاصة.22

اليوم يكمل أوجلان 18 عاما خلف القضبان التركية ، بعد أن تم اعتقاله فى عملية مشتركة بكينيا بين المخابرات الأمريكية CIA والمخابرات التركية MIT والموساد الإسرائيلي وذلك بعد خروجه من السفارة اليونانية بنيروبي وتم نقله مخدرا فى طائرة خاصة لتركيا لمحاكمته.

لم يكن أوجلان شخصا عاديا فالرجل الذي تحشد تركيا قواتها العسكرية وتهدد باجتياح سوريا إذا لم يتم تسليمه لا يمكن أن يكون رجلا عاديا ، ففى أكتوبر 1998 فى افتتاح الدورة البرلمانية التركية أعلن الرئيس التركي سليمان ديمريل أنه إذا لم يسلم النظام السوري عبد الله أوجلان لأنقرة فإن تركيا ستدافع عن نفسها ، وتم حشد القوات العسكرية على طول الحدود السورية ووضعها على أُهبة الإستعداد لولا تدخل الرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي قام بجولات مكوكية بين أنقرة ودمشق أسفرت عن اتفاق يقضي بطرد عبد الله أوجلان من سوريا.

لا يمكن اعتبار أوجلان شخصا عاديا ، فالرجل الذي تتورط فى اعتقاله أجهزة مخابرات ثلاث دول كبرى لابد أن يكون ذا قيمة تدركها تلك الأجهزة كما أن مشاركة الموساد الإسرائيلي والمخابرات الأمريكية ربما تحمل رسائل ودلائل خاصة حول ذلك الرجل الذي يجهله الكثيرون وتلاحق جماعته اتهامات العمالة بواشنطن وتل أبيب.

ما القوة التي يملكها أوجلان لتجعل من عملية اعتقاله الحدث الأهم فى تاريخ الدولة التركية منذ تأسيسها على يد كمال أتاتورك كما وصفها الرئيس التركي السابق سليمان ديمريل ؟! ماذا يخيف تركيا من أوجلان ليخاطب القادة الاتراك شعبهم بعد اعتقاله بقولهم ” إن الأمة التركية لا يقف في وجهها أحد” ؟ !

ينظر الأكراد ليوم 15 فبراير من كل عام باعتباره يوما أسود فى تاريخ الحركة الكردية والشعب الكردي بشكل عام فى حين أن الأكراد هم أكبر المستفيدين من اعتقال أوجلان أو “آبو” كما يطلقون عليه بالكردية ،ألا يري الأكراد كيف أصبحت قضيتهم عالمية بعد اعتقال أوجلان ، ألم يدفع اعتقال “آبو” بالقضية لصدارة الصحف وانتقالها من أزمة داخلية بتركيا أو بدول كردستان إلى أزمة دولية.

النصر الذي توهمه الأتراك باعتقالهم للزعيم الكردي أعتقد أنهم تيقنوا بعد هذه الفترة الطويلة التي قضاها الرجل فى سجونهم أن اعتقاله كان أكبر خطأ ارتكبته الدولة التركية منذ تأسيسها وليس أكبر انجاز كما وصفه السيد ديميريل , ماذا جنت تركيا من اعتقال أوجلان سوي أنها منحت حزب العمال الكردستاني حق الثأر لقائده وفتحت الباب أمام صقور الحزب للسيطرة عليه وانتهاج الصراع المسلح كسبيل وحيد فى التعامل مع الحكومة التركية.

صنع اعتقال أوجلان من الرجل زعيما ملهما لأنصاره ، أصبحت كلماته نبراسا لشباب الأكراد وشيوخهم ، صار رمزا مقدسا فى مرتبة الأنبياء والقديسين ، أصبح مرشدا للكرد ونبياً لهم ورمزاً لقضيتهم ، وهكذا أرادت تركيا إبعاد أوجلان عن الأكراد فأسكنه الأكراد قلوبهم وعقولهم ، تخطت شعبية أوجلان وأفكاره حدود قضبان السجون لتصبح تلك القضبان شعاعاً للفكر الأبوجي الذي انطلق ليجذب المزيد من الأنصار للزعيم الكردي.

فجّر اعتقال أوجلان المجتمع الكردي وحوّله لكتلة من نار، داخل وخارج تركيا، ليظهر أوجلان في قاعة المحكمة، داعيًا إلى التهدئة والسلام والحوار وطيّ صفحة الحرب وسفك الدماء، معتذرًا لأمّهات الضحايا الجنود الأتراك ، وأطلق أوجلان مبادرة لوقف اطلاق النار بين العمال الكردستاني وتركيا ونجحت هذه المبادرة فى وقف اطلاق النار لمدة عامين تقريبا ، كما فتح قنوات “الدبلوماسية” من داخل سجنه مع أنقرة منذ عام 2012، في محاولة لإنهاء حركة كردية مسلحة بدأت قبل ثلاثة عقود وأودت بحياة 40 ألف شخص وأضرت بالاقتصاد التركي.

في مارس عام 2014 ، طالب زعيم حزب العمال الكردستاني الحكومة التركية بضرورة التوصل إلى إطار قانوني لعملية السلام في البلاد واتخاذ خطوات تضمن استمرار المفاوضات، كما أعلن فى رسالة نقلها عنه شقيقه فى سبتمبر الماضي أن الصراع المستمر بين الاكراد والدولة التركية يمكن حله فى 6 أشهر فقط إذا استؤنفت المفاوضات.

أعتقد أن السيد أوجلان هو الوحيد القادر على إنهاء حالة العنف ووقف سلسال الدم بين الدولة التركية والفصائل الكردية المسلحة مثل حزب العمال الكردستاني وصقور كردستان وغيرها من الجماعات الكردية المسلحة بتركيا ، فتأثير “آبو” على شباب الكرد وشيوخهم يجعل من خروجه من سجون تركيا فى ظل تبينه مبادرة وقف العنف ضرورة لإيجاد حل سياسي للأزمة التي سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى.

إذا أردت أن تعرف قيمة أوجلان فى نظر الأكراد فانظر إلى كيفية تعامل تنظيم مثل الإخوان مع مؤسس الجماعة حسن البنا مع الإختلاف الأيديولوجي بين العمال الكردستاني والإخوان وإن كنت أعتبر أن شعبية أوجلان تخطت مرحلة الحزبية الكردية وصار هو نفسه حركة مستقلة حيث يطلق أتباعه على أنفسهم لقب “الأبوجية” نسبة إلى آبو التي يُكنى بها أوجلان.

أعتقد أن خروج أوجلان من محبسه قد يمثل مكاسب كبيرة فالرجل قادر على مقاومة أى اعوجاج بالحركة الكردية وتقويم تحالفاتها السياسية ، ففى محبسه تطور فكر أوجلان وبدا يتبنى مبدأ أخوة الشعوب والنضال المشترك ودعا للتواصل الكردي العربي المسيحي الإسلامي وكل الشعوب الأخرى من أجل نجاح الثورة السورية وهو ما يحتاجه الفرقاء السوريون الذين فرقتهم منصات المعارضة وعواصمها المختلفة بصورة أبقت بشار الأسد على رأس السلطة بعد 6 سنوات من الثورة.

مكاسب تركيا من إطلاق سراح أوجلان قد تفوق مكاسبها من إبقائه سجينا إن كان لها مكاسب من وراء ذلك ، على النظام التركي أن يراجع نفسه وسياساته تجاه الأكراد فسياسة القتل والإقصاء والإعتقال لن تجدي نفعا والعنف لن يولد الإ عنفا والدم سيجلب المزيد من الدم، والضحايا دائما أبرياء من الجانبين.

على الرئيس أردوغان أن يعمل على إيجاد حل سياسي للقضية الكردية وهو الأمر الذي سيذكره له التاريخ وعليه أن يدرك أن خير شريك يمكن أن يتعامل معه لحل هذه الأزمة الممتدة منذ 40 عاما هو عبد الله أوجلان نظرا لمكانته “المقدسة” فى قلوب الأكراد .. الحرية لأوجلان .. الحرية لصاحب أى فكر .. الحرية للشعوب ..

*محسن عوض الله. صحفي مصري متخصص فى القضية السورية وباحث فى الشئون الكردية

نقلا عن صدى البلد

زر الذهاب إلى الأعلى