دراسات

في الذكرى الخامسة على تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية

الباحث السياسي: سيهانوك ديبو

في اشكالية المصطلح مدخل لا بد منه

أن نقول بأن شعب سوريا يتألف من شعوب وقوميات وثقافات؛ أمرٌ صحيح لا يتناقض مع مفهوم الوحدة الواحدة الموّحدة، وهو على صلح في علم الرياضة وعلم المنطق؛ وهنا فإن علم الحكمة يدعم ذلك. لا يتناقض علم الحكمة وعلم المنطق على طول الخط. حتى لو قال عكس ذلك مستشار الاسكندر الكبير/ المكدوني ومعلمّه أرسطو في النحو إلى تأسيس أول نظام هيمنة مدنية مدينية/ مركزية في العالم. يؤكد ذلك علم معجم اللغة العربية الذي يشرح معنى شعبُ والشعب. وبالأساس فإن في تعريف النكرة إنكار له حتى لو جاء معرّفاً. أي أن بعض الكلمات تبقى غير معلومة حفاظاً على معرفة من يكوِّنها وتداركاً لخصوصية الثقافات أو التكوينات على مختلف أنواعها؛ في أن تعريف الخصوصية والتأكيد عليه يعني تأكيد الإطار الكليّ. وهذا بدوره له علاقة رصينة ما بين الجزء والكل الذي يتألف بدوره من مجموعة من الأجزاء.

ولعله أفضل تمييز للإنسان عن عموم الكائنات الفقارية يغدو بأنه كائن/ حيوانٌ سياسي. من حيث أن الكثير من الحيوانات تنطق، وتفكر ولو بشكل محدود، وتمتلك ذاكرة وإن كانت بغير مقدورها أن تتوسع. أي أن المشتركات كثيرة ما بين الكائنات الحيّة الفقارية. وفي علم الميثولوجيا تأكيد غير مباشر على ذلك حينما كلف زيوس اثنين من التيتان هما بروميثيوس وأخوه ابيمثيوس بقضية خلق الكائنات. فكان التمييز الذي جرى للإنسان هو منحه صبغة السياسي وفن تدبر شؤون الحياة ما بعد التكوين الأول للإنسان. لذا نجد بأن زج فن الممكن، وتحقيق المصالح ولو كانت على حساب الكل والاجتماع؛ إنما بمسائل زُجَّت في علم السياسة؛ أو أن خلطاً متعمداً جرى ما بين السياسة في الهيمنة. علماً بأن السياسة ليست سوى تمكين الأخلاق والمعرفة وبالتالي تحقيق الخير والجمال الأنسي المستند إلى إنسانيته. وهنا فإن علم السياسة وفي استنبات المجتمع السياسي السوري وتحقيق العقد الاجتماعي السوري/ الدستور الديمقراطي  تأكيد إضافي بأن في سوريا شعب يتألف من شعوب وليس بالشعب.

الثورة؛ الحراك الثوري فالأزمة السورية ودواعي تأسيس الإدارة الذاتية

أقل من شهرين وتدخل القضية السورية عامها التاسع. بدأت ثورة مجتمع لها مطالب محقة ترفض طبيعة النظام السياسي السوري شديد المركزية فالاستبدادية، ومن الممكن القول بأن شعار ( سوريا تريد التغيير. شعبها يريد التغير) كان بمثابة ناموس الثورة وقانونها. ولكن سرعان ما تم تحوير مسار الثورة أو لنقل الحراك الثوري السوري من مساره التغييري الديمقراطي إلى بداية نشوء أكبر أزمة يشهدها العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، من المؤكد بأن ما يحدث في سوريا الحرب العالمية الثالثة ومن المفترض أن تنتقل إلى الجوار السوري وإن شهدنا ذلك فبصيغة أشد عنفاً. مثل هذا التحوير لما كان أن يحدث حدث سوى بفعل ثلاثية الطائفية أو التمذهب السياسي وفوضى السلاح كأهم عاملين في البعد الذاتي، بالإضافة إلى سيطرة البعد ما فوق الذاتي (الخارجي) وتمسكه بمفاصل المعارضة مؤدياً بدوره إلى التدخلين الإقليمي والدولي الذي أزّم الوضع السوري وفاقه تعقيداً. حين حدث ذلك باتت الشقوق ومستويات مرتفعة من التحاجز المجتمعي أكثر وضوحاً؛ ومن الشقوق تتسرب دائماً ظواهر وكينونات غريبة تأتي بالأساس مساندة للحفاظ على أوضاع الستاتيك فقط؛ بالأساس تنمو من خواصرها وهي في علاقة مقايضة مع الاستبداديات المحلية أو في صيغ الهيمنات العالمية؛ فكانت داعش والنصرة وعشرات التنظيمات والجماعات المسلحة المرتبطة كلها بفكر القاعدة أو الإخوان المسلمين. وهنا بدت علاقة المحسوبة على المعارضة في ارتباطية معلنة ومستترة وهذه التنظيمات، وهذا كان بمثابة الانزياح الأخير لتبدو اليوم والأمس بالمحسوبة على المعارضة.

كان هذا هو المشهد السوري العام؛ لكنه لم يكن الكليّ. ففي جزء مهم من الجغرافية السورية (روج آفا- شمال سوريا وكامل شرق الفرات اليوم) حدثت مقاربة مختلفة عما حدث في كامل غرب الفرات السوري. أمّا سبب المقاربة المختلفة فلحظي آني بأن الأكثر انسجاماً والأفضل ترجمة مع ناموس الثورة (سوريا تريد التغيير) وجد بالأكثر استعداداً لذلك في هذه الجغرافية. أما عن سبب الاستعداد فيرجع إلى النظرية الثورية المتمثلة بالأمة الديمقراطية التي من خلالها والقوى الديمقراطية السورية يحدث التحول والتغيير الديمقراطي. ومن دون شك فإن روّاد المشروع هنا من كورد الأمة الديمقراطية وعربها وسريانها على اعتبارهم لازمو ما بين مساري الدمقرطة السورية وحل القضية الكردية؛ من أجل ذلك نرى استحداث خط ثالث غاير الخطين الأول- السلطة في دمشق والثاني- المحسوبة على المعارضة.

قبل خمس أعوام من الآن أعلنت قوى وأحزاب وشخصيات وفعاليات مجتمعية ومؤسسات مجتمع مدني عن إعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية؛ مقرّين فيه عن عقد اجتماعي ناظم لأسس العلاقة ما بين تكوينات المجتمع القومية الاثنية والدينية في مناطق روج آفا وشمال سوريا وشرقها؛ محافظة من خلالها على مؤسسات الدولة الوطنية الموجودة، وبمثابة قرار جمعي لمنع أي اعتداء على الشعب وعلى إرادته، وبداية تم من خلالها بناء مئات المؤسسات والمجالس والكومينات في القرى والأحياء والمدن. وكإحدى أهم النتائج تأسيس مستوى متقدم في الحماية الذاتية بدأت ومؤسسة الآساييش ووحدات حماية الشعب والمرأة لتتحول إلى قوات سوريا الديمقراطية.

فيما لو تأملنا ديباجة العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية (نحن شعوب مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية من كورد وعرب وسريان (الآشوريين الكلدانيين الآراميين)، ومن تركمان وأرمن وشيشان، وبإرادتنا الحرة نعلن هذا العقد لتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية وفق مبدأ التوازن البيئي والمساواة دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو العقيدة أو المذهب أو الجنس، بهدف البلوغ بالنسيج السياسي والأخلاقي للمجتمع الديمقراطي إلى وظيفته المتمثلة بالتفاهم المتبادل والعيش المشترك ضمن التعددية، واحترام مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وضمان حقوق المرأة و الطفل، وتأمين الحماية الذاتية والدفاع المشروع، واحترام حرية الدين والمعتقد.

إن مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية لا تقبل مفهوم الدولة القوموية والعسكرية والدينية، والمركزية  في الإدارة والحكم المركزي ومنفتحة على أشكال التوافق مع تقاليد الديمقراطية والتعددية، لتستطيع جميع المجموعات الاجتماعية والهويات الثقافية والأثينية والوطنية أن تعبر عن ذاتها من خلال تنظيماتها، واحترام الحدود السورية ومواثيق حقوق الإنسان والحفاظ على السلم الأهلي والعالمي.

وتحقيقاً لمبادئ ميثاق العقد الاجتماعي، وبناء المجتمع الديمقراطي من خلال الإدارة الذاتية الضامنة للعدالة الاجتماعية، وإقامة مجتمع  متمدن، فقد توحدت أهداف كل مكونات مجتمع الإدارة الذاتية الديمقراطية، من كرد وعرب وسريان وأرمن وشيشان وغيرهم على أساس قاعدة الوحدة في التنوع، واتفقت مع إرادة بقية مكونات الشعب السوري لتكون مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية ضمن سوريا التعددية الديمقراطية كنظام سياسي وإداري للمجتمع وتجسيداً لهذه الإرادة وتحقيقا لهذه الأهداف، وضعنا وبينّا هذا العقد).

لنجد بأن ضرورات اعلان الإدارة الذاتية متعددة بنيوية ومعرفية وسياسية؛ طالما كانت أزمتنا السورية كمثال للأزمات الممرورة بها الشرق الأوسط بنيوية وليست سياسية طارئة. وأن أسباب معينة دفعت لاتخاذ هذه الخطوة التاريخية؛ أهمها:

1- تمكين نظرية العقد الاجتماعي السوري في أن الإنسان السوري بحاجة مستديمة إلى تفعيل السمة الغالبة المتميّز بها المجتمع السوري به وبالتحديد التنوع القومي والمذهبي والإثني، مرجع قوي ونمطية أقوى تجعله بحاجة مستمرة أن الإنسان بحاجة قصوى إلى نظيره وبغض النظر عن اللون واللغة والقومية والدين، فالانتماء هنا مرتبط بالمرجعية العامة للانتماء لشكل السلطة أو الإدارة التي ينتجها الفرد وتعبر عن المجتمع السوري، فيتخلص الفرد السوري وفق نظرية العقد الاجتماعي السوري عن اللون الواحد واللغة الواحدة ليجد من يمثل إرادته ومطالبيه عن طريق إدارته المتشكلة المعبرة عن كل الألوان.

2- المنطلق النظري الآخر في مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية هي إعادة التوازن بين عناصر المعادلة السورية (القومية- الوطنية- العالمية )، والتوازن المتحقق في المجتمع الديمقراطي الأعلى يسبب ضبطا مجتمعياً في الانسياب اليومي والمحقق للذات المتوحدة والمنتمية مع الكل مما يسبب وبشكل أُنسي عدم الانزياح والتفرد والقوقعة.

3- المنطلق النظري الآخر وهو مأسسة المجتمع الاقتصادي الديمقراطي المحقق لمبدأ وضرورة الاكتفاء الذاتي، وتحقيق التنمية المستدامة. بتحويل الفرد المنتمي إلى منتج ضمن تشاركيات اقتصادية من خلال المجتمع الزراعي العضوي، وتحويل الكومين والقرية المتوازنة إلى أول خلية فاعلة تحقق للقرية الشرقية “السورية نموذجا” استقلالية اقتصادية بوجود المزارعين المثاليين والمتخصصين أو من هم بحاجة إلى تخصص، تحقق هذه الخطوة توازنا ايكولوجيا مرتين: مرة بين المدينة والريف ومرة أخرى الحفاظ على الإيكولوجيا، فالبيئة والطبيعة حتى تكون في خدمة الفرد الذي يعيشها يجب أن يكون خادماً للطبيعة وحاميا بإرادة لها. والمدينة باقتصادها المتكون والتي تمتلئ بشركات مجتمعية تشاركية أيضا: من غير المعقول أن لا تكون ما يعبر عن تحقيق اكتفائها الذاتي والإرادة النوعية المستوجبة في إدارة مجتمعية برؤى الاقتصاد التشاركي وخلق الكادر المتخصص وفي كل المجالات.

4- المرأة وهي العنصر الأكثر فعالية في مجتمع الإدارة الذاتية، فحالات القمع المستديمة بحقها تخلق لها ردة الفعل الأبرز في تولي مهامها، والدفاع عن حريتها وترسيخ فاعليتها في المجتمع.

5- الشباب وهم الحاملون الأساسيون للتغيير، وعلى عواتقهم يتم التغيير المنشود. وهم كفئة ذات استقلالية وخصوصية في الوقت نفسه لهم الاهتمام الأكبر لأنفسهم وللمجتمع الذي يتطلع إليهم كقدرة نوعية ومتمتعة لهذه المهمة أساسا.

6- المنطلق النظري الآخر هو حق الحماية الذاتية في حق الدفاع المشروع، لن يكون لأي مجتمع قائمة تتغير وتطور حتى يؤمن جميع أفراده أن الإنسان ومنذ تشكل المجتمع الزراعي الأول أي قبل حوالي 13000 سنة، كان أبرز عوامل استمراريته هو الحاجة والاقتناع أن الإنسان وفي كل المراحل كفرد وجزء مجتمعي يتوجب عليه ممارسة الحماية الذاتية الطبيعية وحق الدفاع المشروع الوطن.

سوريا كجزء من محيطها الإقليمي فالدولي

هذه المنطقة تعتبر قطعة جغرافية بتاريخ مشترك واحد. من الاستحالة تناولها جزء فجزء. هكذا هي تاريخها وهكذا نشأت وهذا ما يثبته الواقع، أما بالنسبة لمستقبل تاريخها فلا يُظّن بأنها تكون عكس ذلك. دون الحديث عن التوقيت في تحقيق ذلك. بالأساس هو تحصيل حاصل. يذكر التاريخ بأن 18 مسمى مرّ على الشرق الأوسط كانت أفضلها الامبراطورية الميدية 612 قبل الميلاد التي ضمنت 23 ولاية تدير شئونها ذاتياً وأسوئها السلطنة العثمانية التي خالفت فيها أمر الطبيعة والتطور الطبيعي للمجتمعات فكان نصيبها التخلف والفساد. أما الأمر المشترك ما بين كلها فإنها تناولت الشرق الأوسط كقطعة واحدة. أمّا خرائط سايكس بيكو وبالرغم من احكامها سوى أنها فشلت بدليل عدم الاستقرار وبدليل الأزمة التي نعيشها كسوريين أو ككورد أو كأبناء للشرق الأوسط. وفي الأزمة السورية نجد بأن مسيرة السلام ما بين أنقرة وأوجلان في أعوام 2012 و2013 ومنتصف 2014 نجد بأن الهجومات التركية والتهديد التركي كان في أدنى مستوى له على سوريا وعلى عموم المنطقة إلى حد ما. أما تعثر تلك المباحثات فمن المؤكد كانت بإحدى الأسباب التي أدت كي لا يستقر أردوغان في السواكن السودانية وحدها وإنما يتهيأ أبعد من ذلك إلى جنيف مرة أخرى لو استطاع. أي أن في رصد مؤشر الخطر ومن يحدثه كما في حاله اليوم النظام الفاشي العثماني إيجاد الأجوبة إنْ لم نقل القطبة المخفية. وعليه فإن حل القضية الكردية في الأجزاء الأربعة (تركيا، إيران، العراق، وسوريا) بات بالمطلب الحيوي وبمثابة صمام الأمان وفاعلية الاستقرار المهمة في عموم المنطقة. وإذا ما أخذنا اليوم اضراب المناضلة الكوردية والسياسية في حزب الشعوب الديمقراطية ليلى كوفين الذي يدخل شهره الثالث فإن هذا الاضراب في الوقت الذي يمثل أعلى درجات الرفض المضاد للنظام الفاشي التركي فإنه ليس بالمقتصر على زاوية معينة أي حل القضية الكردية والديمقراطية في تركيا بقدر ما هو قضية الشرق الأوسط الذي يستحسن أخذه كقطعة واحدة. والقضية السورية وحل الأزمة السورية ليست بالمحصورة وليس حلها المنشود متعلق فقط بالسوريين إنما بعموم المنطقة والعالم؛ بالأساس متدخل في أزمتها اليوم أغلب بلدان المنطقة والعالم.

تكثيف في نتيجة

سوريا ديمقراطية لا مركزية تدار عبر إدارات ذاتية ديمقراطية –كما في نموذجها في شمال سوريا وشرق الفرات- أفضل بكثير من النظام المركزي في حلة 2011. في ذلك يتفق السوريين ما هي صلاحياتها التي تختلف عن صلاحيات المركز المعهودة المعروفة. في ذلك إدراك لهوياتنا وانتماءاتنا الأولية التي ننتقل من خلال تحقيقها بشكل غير منقوص وبشكل كامل إلى إدراك ماهيتنا وهويتنا الديمقراطية. ولتبدو في ذلك الذكرى الخامسة للإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال سوريا وشرقها بالرغم من ما اعتراها من أخطاء ونواقص وحاجة قصوى في تصويب ما نتج عن فعل الممارسة بالمسؤولية والمطلب الكوردي السوري الإقليمي.

زر الذهاب إلى الأعلى