مقالات

ثورة التاسع عشر من تموز هي ثورة انبعاث المجتمع وإعادة قيمه

عدالت عمر

لكل ثورة ناجحة؛ فلسفة وفكر ثوري حيث تهدف الثورة إلى التخلص من الشكل القديم الموجود وتطرح أفكاراً جديدة أو فلسفة جديدة، والتحول الذي يحدث هو انعكاس لفلسفة يستند إليها الفعل الثوري، فالثورة ضرورة مجتمعية لإحداث التغيير في الأفكار والأيديولوجيات المتفسخة، والتي تم فرضها على المجتمعات من قبل الأنظمة السلطوية الدولتية الحاكمة.

فالثورة الفرنسية والثورة البلشفية والفيتنامية والعديد من الثورات التي ظهرت في التاريخ، أحدثت تحولاً مُهماً في المسار التاريخي.

لكن عند تناول ثورات الشرق الأوسط، من تونس مروراً بمصر وليبيا إلى سوريا، نرى أن ما من فلسفة أو أيديولوجية معينة لإحداث تغيراً في المجتمع الثائر وتحولاً في بنية النظام وهيكليته المترهلة، لذا وبعد موت الآلاف من الشعوب والقتل والتهجير، تم تسليم الثورات لمستبدين وسلطويين جدد وأعادوا للشعوب قيودهم وأتوا بأيديولوجيات سابقة بعيدة عن المنظومة الأخلاقية للمجتمع، وبشكل أكثر تشدداً من النظام الذي ثار عليه.

وما رأيناه في بدايات انطلاقة الأحداث في سوريا وخروج الشعب إلى الساحات وتطلعاته إلى الحرية والعدالة والمساواة، وارتطامه بأيديولوجيات وأفكار قوموية ودينوية مرتبطة بأجندات ومخططات الدول المهيمنة والدول الإقليمية الطامعة في بسط نفوذها على حساب الدم ومعاناة الشعب السوري، خير دليل على ذلك.

إلا أن ثورة التاسع عشر من تموز في روج آفا وشمال وشرق سوريا، استطاعت وعن طريق نهج الخط الثالث، أن ينطبق عليها الثورة، ثورة لها فلسفة ثورية وبراديغماها في مجتمع ديمقراطي إيكولوجي ومتحرر جنسوياً.

إن الشعب الكردي الثائر، الذي مورس بحقه مختلف سياسات القمع والانكار منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، ومنع الآلاف من الكرد من حق الجنسية السورية ومن جميع حقوق المواطنة، بالإضافة إلى مشروع الحزام العربي وتغيير التركيبة السكانية ومنع كافة المظاهر الثقافية واللغة والأسماء الكردية، وتصاعد هذه السياسات بعد توقيع اتفاقية أضنة مع الدولة التركية وحملات الاعتقالات التي شملت العديد من الناشطين والمدنيين، أسفرت بعضها عن فقدان المعتقلين حياتهم جراء التعذيب، ومع نهب وسلب ممنهج لاقتصاد المنطقة، استطاع وبتبني الفلسفة الأوجلانية إحداث تغيير مجتمعي وإخراج بقايا النظام البعثي من المنطقة بدءاً من كوباني مروراً بعفرين والجزيرة، واستطاع تأسيس نظامه من الكومينالي والمجالس وتشكيل وحدات حماية الشعب وقوات الأمن الداخلي وإعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية التي هي بمثابة النواة المجتمعية الحقيقية لإحداث التغيير الشامل والجذري في هيكلية السلطة و الدولة، وترسيخ قيم ومبادئ الأمة الديمقراطية، والعيش المشترك الذي يشكل صلب الفلسفة والايدلوجية المتبنى في العقد الاجتماعي الذي توافق عليها جميع شعوب ومكونات روج آفا وشمال وشرق سوريا من كرد، عرب، سريان، آشور، كلدان، شيشان، والأرمن، وشكلت كل من هذه المكونات كوميناتهم الخاصة بهم.

كما أن المرأة ومنذ بداية الثورة استطاعت أن تحدث تغيراً ملحوظاً وملموساً في مشاركتها في كافة المجالات وتنظيم نفسها ضمن حركة خاصة بها وفتح مؤسسات وأكاديميات خاصة بها، ومعرفة حقيقتها ودورها الحقيقي في البناء المجتمعي والمشاركة في صياغة القرارات، والتسلح بأيديولوجية المرأة التحررية وحماية نفسها ضد كافة الهجمات الأيديولوجية للذهنية الذكورية المهيمنة وكتابة تاريخها من جديد.

حيث خطت المرأة خطوات هامة، وبرزت بدورها التنظيمي، العسكري، السياسي، الدبلوماسي، الاقتصادي، والاجتماعي، وأصبحت مثالاً تقتدي به كل نساء العالم، وما الانتفاضة الإيرانية وشرق كردستان وشعارها “المرأة – الحياة – الحرية” إلا دليل صارخ بأن الثورة التي تكون فيها المرأة ريادية مصيرها الحتمي ستكون النصر.

كما أن الشبيبة وبعد إقصائهم من قبل الدولة من الحياة العامة والسياسية، استطاعت تنظيم أنفسهم للقيام بدورهم الطليعي في المجتمع، بالإضافة إلى افتتاح العديد من المراكز الصحية وتقديم الخدمات اللازمة للأهالي، وتأسيس الكثير من الجمعيات التعاونية الاقتصادية، وتأسيس مشاريع كثيرة لاستثمار خيرات المنطقة لصالح أبنائها إلى جانب تأسيس العديد من التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وتحرير الكثير من المناطق من داعش كمدينة الرقة والتي كانت العاصمة المزعومة لتنظيم داعش،

إلا أن كل هذه الإنجازات التي اكتسبتها ثورة التاسع عشر من تموز لم يرقَ للدول والقوى المعارضة للشعب الكردي وشعوب المنطقة، وخاصة الدولة الفاشية التركية والتي من بداية الأزمة السورية تدخلت في المنطقة وأطالت عمر الأزمة، حيث أرسلت عناصر جبهة النصرة وفيما بعد تنظيم داعش والكثير من المرتزقة إلى المنطقة لاحتلالها، وفتحت حدودها أمام عبور هذه العناصر واستقبلت جرحاهم في مشافيها وأمدتهم بالأسلحة الثقيلة والذخائر والتقنيات والأجهزة المتطورة، كل ذلك لإفشال مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية.

وعلى الرغم من احتلالها للكثير من المناطق واستهدافها بالمسيرات للقياديين والقياديات العسكرية والمدنية، ورغم الكثير من المؤامرات لكن الشعب في روج آفا وشمال وشرق سوريا ومع قواتهم قوات سوريا الديمقراطية، أبدوا مقاومة بطولية تاريخية ضد هذه الهجمات، هذه المقاومة وبروح الشعب الثوري المناضل ستستمر، إلى أن يتم استعادة كافة الأراضي المحتلة، وفي مقدمتها سري كانيه وكري سبي وعفرين.

وستستمر هذه الثورة، ثورة الحرية، ثورة الكرامة، ثورة انبعاث المجتمع وإعادة قيمه وحقوقه المغتصبة، ستستمر حتى النصر، ونعلم بأن أية ثورة إن استندت إلى فلسفة وفكر ثوري فمن المحال أن تفشل، هكذا علمنا التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى