مقالات

الـ15 من آب في تاريخ الحركة الكردية التحررية

دلبرين فارس

يتطلب البحث في تاريخ الحركات والثورات الكردية؛ معرفة الظروف الذاتية والموضوعية التي نشأت ونمت خلالها تلك الثورات، سواءً كانت هذه الثورات والانتفاضات والحركات مسلحة أو سياسية أو حتى ثورانٌ لحظيُّ محلي كفعلٍ وردة فعل.

من هنا يمكن القول بأن نقاط تحولٍ وتغييرٍ جذري نجم عن كل حركة وثورة، شكلت ركيزة النهوض والديمومة في الانطلاقات الكبرى، وعلى كافة الأصعدة خاصة على صعيدي المقاومة المسلحة والسياسية لتلك الثورة؛ وبالتالي مضيفة لرصيدها الثوري والشعبي القوة والمساندة.

القرار الذي اتخذته حركة التحرر الكردستانية في شهر  آب عام 1984 ببدء الكفاح المسلح ضد الفاشية التركية لم يكن وليد اللحظة، ولم يكن الهدف منها تحرير بعض المناطق آنذاك، بل كانت نقطة تحولٍ استراتيجي في تاريخ الثورات والحركات الكردية.

بالنظر إلى الظروف الموضوعية لتلك المرحلة نلاحظ وبشكلٍ جلي  إن التيار القوموي  الفاشي قد صَعَدَ لسدة الحكم بعد انقلاب 1980(انقلاب العسكر) بقيادة مجموعة من الجنرلات المتغطرسين قادهم كنعان إيفرين، وما شهدته تركيا بعد ذلك من حالات تعسف وقتل واغتيال وفرضٍ للأحكام العرفية، وبذلك فقد ضاق الخناق على كل الحركات والتيارات والمنظمات السياسية والمدنية؛ خاصة دعاة اليسار والديمقراطية، والذين كانوا ملاحقة أيضاً من نظام التيار الإسلاموي الحاكم قبل إن ينقلب القومويون والعسكر عليهم فيما بعد، هذا وطال التعسف كل ميادين الحياة، وحكم أيفرين البلاد بقبضة من حديد خلال فترة الثمانينات.

أما من جانب آخر فقد تلقى نظامه  ضربةً موجعة بعد مقاومة السجون في الـ14 من تموز

عام 1982، والتي أشعل فتيلها جمهرة من رعيل الحركة التحررية الكردستانية في تركيا وشمال كردستان، ولعل هذه المقاومة هيأت الظروف الذاتية لحركة التحرر من ناحية تبنيها  لخيار المقاومة التي لا رجعة فيها، والتي هيأت بالتالي انطلاقة حملة 15 آب لتكشف الستار عن مدى ضعف النظام التركي المتسلط.

وشكلت هذه الحملة الأرضية والمسار الذي سلكته الحركة التحررية الكردستانية فيما بعد في معظم أجزاء كردستان وعلى كافة الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية ، فالنضال والمقاومة وخيار القيام بكفاح مسلح من على ذروة جبال كردستان وإلى سهولها وهضابها  قد أرفد الحركة التحررية بآلاف الأبطال ومن كافة أنحاء كردستان.

هذا وقلبت موازيين القوى والتفاوض للمراحل التي  تلت قفزة الـ15 من آب.

ولم يكن خيار أخذ زمام المبادرة في الكفاح المسلح كَرَدَ فعلٍ على سياسة النظام الفاشي فقط، بل كانت انطلاقةً لثورة من أجل الحرية والتي لطالما كانت تقمع بأبشع الأساليب الوحشية من قبل الطغاة والمستبدين.

و في حديثٍ  له عن حملة 15 آب يقول  القيادي في حركة التحرر الكردستانية جميل بايق ” لم يكن العدو وحتى الصديق يتوقع بأن نقوم في هذه الظروف بحملة بهذا الشكل، إنهم تأخروا في فهم من قام بهذه الحملة…..، بعضهم كان يقول إن “الأشقياء” قاموا بها”.

ويتابع في حديثه قائلاً :” بالطبع إن الذي ينتظر الفرص لا يستطيع إن يقوم بتنفيذ حملة “الهدف” ويقود مقاومة، يجب إن تقوم بخلق الفرص بنفسك، …يجب الاستفادة من الفرص التي تقوم بخلقها أو التي يقوم العدو بخلقها، فإن لم تقم بالاستفادة من الفرص المتحققة وجعلها في خدمة الحركة والشعب حينها سيستفيد منها العدو وسيواجهك بها”.

لا شك إن من نتائج تلك الانطلاقة الثورية إرباك جيش الاحتلال التركي الذي تشتت قواه وأصابه الذعر هو ومرتزقته.

لقد كان لحملة 15 آب تأثيرٌ بالغ الأهمية حتى على صعيد النظام في تركيا آنذاك، والذي أضطر إلى الأفراج عن الألاف  من المعتقلين، وأوقف عمليات الاعدام بحق المئات من الأتراك والكرد المناهضين لسلطة إيفرين القومومية الفاشية، كما وأعادت الحياة السياسية فيما بعد إلى مساراها ولو بشكلً غير كامل وبنسبة ضئيلة، بعد أن شهدت انغلاقاً تاماً نتيجة الملاحقة والتعذيب والتعسف.

أكسبت هذه الحملة الحركة التحررية الكردستانية القوة والصلابة والمشروعية الثورية في مقاومتها، كما واضفت عليها الطابع الأممي كونها حملت وعملت بشعار الحرية والديمقراطية والتي تعبر عن الإنسانية ومنطلقها.

على الصعيد الكردستاني فقد شكلت حملة  الخامس عشر من آب النقلة النوعية في تاريخ الشعب الكردي خاصة والكردستاني عامة، لقد أصبحت البنية والركيزة لأي انتفاضة أو ثورة كردستانية، تستمد منها الإرادة ومبادرة المقاومة وخيار الثورة، وهذا ما تحقق في روج آفا من خلال انطلاقة ثورة 19 تموز ومن ثم خيار التحرير والذي تكلل بتحرير أراضي روج آفا وشمال سوريا من يد تنظيم داعش الإرهابي، ولاشك إن تحرير مدينة منبج في الـ15 من آب  2016 أيضاً لها دلالاتها ومؤشراتها الثورية على صعيد خيار القوى الشعبية الثورية في روج آفا وشمال سوريا لنهج المقاومة، بقدر قفزة 15آب، حيث أنها أصبحت أمل الخلاص للملايين من المضطهدين والمقموعين على يد التنظيمات الإرهابية والقوى الداعمة لها، وأصبحت سنداً للقوى الديمقراطية والمجتمعية التي تسعى للتحرر والخلاص وبناء نموذجها الإنساني الأمثل  في الإدارة والتنظيم والتعايش الديمقراطي.

من هنا فأن قفزة الخامس عشر من آب لم تكن حملة عسكرية فقط، بل كانت مساراً وحركة إيديولوجية كردستانية أممية لما كانت تحمله من مضامين جوهرية تمس صلب المبادئ الإنسانية في الحرية والمقاومة والعدالة والديمقراطية، وما أضفتها من إرادة ونهوضٍ شعبي على  كافة الجوانب السياسية والتنظيمية والثقافية والاجتماعية على الصعيد الكردستاني، كما أنها أثبتت للنظام التركي الفاشي بأن إرادة المقاومة لم تعد تقهر مهما تغطرس في تسلطه واستبداده.

زر الذهاب إلى الأعلى