مقالات

سوريا والتهديد التركي والدور العربي المنتظر

يتصدر المشهد السوري ثانية الأحداث الإقليمية والدولية بعد تغريدات ترامب الافتراضية على مواقع التواصل التي هي بالأصل افتراضية أيضاً، حول سحب قواته من سوريا وأفغانستان. هذه التغريدة التي قلبت موازين وحسابات ورهان وحتى مخططات ومشاريع الكثير من الدول والجهات المعنية بالوضع السوري إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة أننا نعلم أن أمريكا حينما تتدخل في منطقة ما لا تخرج منها بتلك السهولة التي نتابعها الآن.

بعد شهرين من الآن تقريباً وتدخل الأزمة السورية عامها التاسع وتترك وراءها ثماني سنوات مليئة بالمآسي والويلات والدمار والخراب الذي حل بالشعب السوري أولًا وبالجغرافيا والمدن السورية ثانياً، خلال هذه الفترة لم يتبق أحد ولم يحشر نفسه بالأزمة السورية تحت مسميات عدة، لكن بنفس الوقت كان لكل هذه الجهات والدول حساباتها ومخططاتها وأطماعها الخاصة التي تسعى لتنفيذها، والكل على حساب الشعب السوري الذي بالأصل كان يبحث عن قليل من الكرامة لا غير.

تركيا وبعض دول الخليج، خاصة قطر، اللتان نعلم جيدًا أهدافهما والتي أعلنت عنها منذ بداية الحراك الشعبي في سوريا على أنهما سوف تعملان على إسقاط النظام السوري ومرتكزاته، فكان أردوغان هو المتعهد الرسمي المكلف من قِبل الدول الرأسمالية في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو من تصدر الساحة وراح يصرح هنا وهناك بأنه من سيجلب الديمقراطية والحرية لسوريا، واعتمد على ذلك على تيار الإخوان المسلمين لتحقيق مخططه في نشر الفوضى في كل مكان في سوريا، وذلك عبر التيارات والفصائل الإسلاموية وراح يقدم لها جميع أنواع الدعم المادي والعسكري واللوجستي.

الدعم الذي كانت تقدمه تركيا لجميع الفصائل الاسلاموية لم يكن خافياً على أحد وكانت أمام مرأى الجميع، وفتح حدوده أمام جميع المتطرفين والجهاديين والإرهابيين والذين توجهوا إلى سوريا من حدب عميق، حتى وصل الأمر في نهايات السنة الثامنة للثورة اجتمعت جميع الفصائل الإسلاموية في الشمال الشرقي من سوريا في محافظة إدلب تحت الحماية والرعاية التركية، تم تجميعها بعدما انتهت صلاحيتها وفشلت في مهامها الموكلة لها في إسقاط النظام، بعد الكثير من المتغيرات الإقليمية والدولية، خاصة دخول إيران وروسيا على خط مساندة النظام السوري، والذي استطاع استرجاع معظم الجغرافيا السورية من سيطرة تلك الجماعات والفصائل المرتزقة والمدعومة تركيا.

كذلك دخلت أمريكا إلى منطقة الشمال السوري وتحالفت مع قوات سوريا الديمقراطية لمحارية داعش، الذي استطاع أن يسيطر على الكثير من المدن بفترة قصيرة جدًا، وذلك بفضل الأسلحة التي استولى عليها من الموصل والرقة ودير الزور التي تركها الجيش العراقي والسوري خلفه بعد تخليهما عن هذه المدن.

تحالف أمريكا وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية في معركة تحرير كوباني “عين العرب” كانت بداية نهاية داعش، وتركيا التي كانت تعتمد عليها بشكل كلي من أجل ضرب تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية الناشئة في تلك المنطقة، وبعد ذلك تتالت انتصارات تحالف القوات الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية في تحرير الكثير من المدن والقرى حتى تم تحرير الرقة العاصمة الافتراضية لداعش، والآن ما تزال المعركة الأخيرة مستمرة في آخر جيوب هذا التنظيم الإرهابي في ريف دير الزور، هذه الانتصارات التي حققتها قوات سوريا الديمقراطية لم ترق لتركيا أبدًا ولذلك تخلت عن هدفها في إسقاط النظام السوري وبات كل هدفها هو ضرب تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية وإفشالها خشية انتقالها للداخل التركي.

تركيا وكل الدول الشوفينية والديكتاتورية تخشى من أي تجربة ديمقراطية قريبة منها، لأنها بالأساس تعتمد على إنكار الآخر لاستمرارية بقائها على السلطة وتحكمها بالمجتمع، لكن تجربة الشمال السوري عرت جميع الأنظمة وأظهرتها على حقيقتها في أنها ليست لها أي علاقة بتنمية المجتمعات واحترامها للمكونات الأخرى التي تعيش فيها، وأثبتت التجربة في شمالي سوريا أن تعدد المكونات المجتمعية هو مصدر قوة أي نظام إداري يمكن إنشاؤه والقوة تكمن في الاختلاف وليس العكس الشوفيني الذي ترعاه تركيا، والتي حاولت عن طريق المرتزقة والإرهابيين ممن بقي من المعارضة السورية في احتلال جرابلس وعفرين.

الدول العربية التي بقيت تراقب ما يحدث في سوريا وكأنه لا يعنيها أبدًا على أساس أنه شأنٌ داخلي، هذه الحسابات البسيطة أثرت بشكل مباشر على الدول العربية التي تركت الساحة السورية كي تعبث فيها تركيا وإيران، اللتان بالأساس لهما أطماع ومصالح في سوريا، فمن جهة تركيا تسعى لتحقيق الحلم العثماني من جديد على أساس الميثاق الملّي وإيران تسعى جاهدة لبسط نفوذها وبات كأن الصراع في سوريا هو صراع سنى – شيعي، والشعب السوري بكل أطيافه غريب عن هكذا صراع بالأصل.

معظم الدول العربية استفاقت من أحلامها الوردية على كابوس تغريدة ترامب في سحب قواته من سوريا، والكل من العرب يدرك تمامًا أن أطماع إيران وتركيا لن تقف على أعتاب الشمال السوري، بل ستتخطاها كثيراً، خاصة أن لإيران نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وتنظر نحو السودان وليبيا ومصر، كذلك تركيا عينها ليس فقط على الشمال السوري، بل قالها أردوغان علنًا في خطابة الأخير إنه لن يرتاح البال حتى يرى بغداد ودمشق ومكة والقاهرة تحت سيطرته عن طريق الإخوان المسلمين طبعاً.

الآن ما ينتظر الدول العربية مسؤوليات كبيرة وتاريخية، وعليها أن تدرك أن حماية أمنها يبدأ من الشمال السوري والشمال العراقي وأن تقطع الطريق أمام عنجهية وفاشية وعنصرية تركيا وأردوغان، وإلا الثمن سيكون كبيرًا في المستقبل وعلى الجميع.

مصر ومنذ بداية الأزمة السورية كان لها موقفها الواضح والحازم في وحدة الأراضي السورية، إن جميع الخلافات الموجودة يمكن حلها بالحوار الداخلي، وكذلك رفض مصر بشكل قاطع لجميع التدخلات الخارجية، خاصة حينما احتلت تركيا عفرين وبعض المناطق الأخرى، والكل يدرك أن لمصر دورها الإقليمي الكبير نظرًا للعلاقات التاريخية وكذلك لوزنها في المنطقة، وكذلك محاولة الإمارات العربية والبحرين في فتح سفارتهما في دمشق يعتبر رسالة واضحة بأن الدول العربية تعمل على أن يكون لها دور إيجابي في الساحة السورية وقطع الطريق على تركيا وإيران وغيرها ممن لهم أطماعهم الخاصة فيها، ويبقى الكل عينه على الدور العربي والذي إن بات أمرًا واقعًا سيغير جميع موازين القوى وسيقلب مشاريع تركيا وإيران على أعقابها.

زر الذهاب إلى الأعلى