تقاريرمانشيت

 القس الأمريكي يثير القضايا التركية الأمريكية المتأزمة

تثار هذه الأيام وبقوة قضية القس الأمريكي المسجون في تركيا منذ عامين دون أن تحرك أمريكا ساكناً للمطالبة الفورية بالإفراج عن القس هذا من جانب، أما من جانبٍ أخر فقد لوحت أمريكا بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا ومضت في فرض عقوبات عليها جعلت الليرة التركية في أدنى مستوياتها منذ نشوء الجمهورية التركية، وأوقفت من جانبها صفقة f35.

 ما يدعوا للتساؤل عن الأسباب التي تكمن وراء تحريك هذا الموضوع من قبل أمريكا بعد هذه الفترة الطويلة من سجن القس في تركيا بتهم زائفة ووضع فرضيات تلامس الواقع السياسي الراهن بين تركيا وأمريكا والتي تجعلنا نطرح في بادئ الأمر:

هل تستغل تركيا هذه القضية لفرض أجنداتها وتثبيتها إلى جانب الأجندات الأمريكية والروسية بالضغط على الرأي العام الأمريكي وبالتالي تدويل القضايا التركية الأمريكية العالقة بين الطرفين خاصة تلك المتعلقة بشمال سوريا؟

هل تركيا تحولت إلى إسلام راديكالي بعد الصلاحيات الرئاسية التي تمتع بها بل استلبها أردوغان من البرلمان؟

هل تركيا تحاول التملص من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران وعدم الاستجابة لها والتقيد بها؟؟

هل تركيا تحاول مقايضة القس برانسون بالداعية غولن المقيم في أمريكا إذ أشارت مصادر مطلعة على ذلك ولكن قوبل هذا الطلب برفض تام من السلطات الأمريكية؟؟؟

في هذا السياق يقول الكاتب الصحفي نورالدين عمر:

فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على وزيرين تركيين هما وزير العدل عبد الحميد غول ووزير الداخلية سليمان سويلو على خلفية قضية احتجاز أنقرة القس الأمريكي أندرو برانسون.

وقد تم اعتقال القس برانسون منذ ما يقرب من العامين بسبب صِلات مزعومة بجماعات الداعية فتح الله غولن، لكن من الغريب أيضاً أن يتم اتهامه بوجود علاقات له مع حزب العمال الكردستاني.

القرار الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية وحسب تأكيدات المسؤولين الأمريكيين يتم بموجبها حظر جميع الممتلكات والمصالح الخاصة بالوزيرين التركيين تحت الولاية القضائية الأمريكية ويُحظر بشكل عام على الأشخاص الأمريكيين الدخول في معاملات معهم.

القس الأمريكي برانسون معتقل منذ عامين لكن العقوبات أتت في هذا الوقت بالذات ولها أسبابها وتتعلق بمجمل قضايا المنطقة، والعلاقات الأمريكية- التركية، والعقوبات الأمريكية على إيران.

حسب اعتقادي إن فرض العقوبات الأمريكية على وزيرين تركيين هي رسالة امريكية لتركيا مفادها: “على تركيا الالتزام بما يتم فرضه من عقوبات على إيران، وأي علاقة مع إيران تعني تعرض الاقتصاد التركي لضربات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية”، وبالفعل من جراء العقوبات الأمريكية على الوزيرين التركيين انهارت قيمة الليرة التركية أمام العملات الأخرى.

طبعاً ملف العلاقات الأمريكية-التركية هو ملف شائك تتداخل فيها مختلف القضايا التي تهم الجانبيين، وهناك مصالح مشتركة ومصالح متباينة وأحياناً مضادة بين الجانبين، وقد مرت تلك العلاقات منذ تأسيس الجمهورية التركية وحتى الآن بفترات ومراحل صعبة ومتأزمة، لكن تلك العلاقات ما تزال مهمة للطرفين ولا يمكن القول إن أحدهما مستعد حالياً للتخلي عن الآخر نهائياً.

فتركيا تحاول الضغط على الولايات المتحدة وتدعو إلى تسليم الداعية فتح الله كولن المتهم من أنقرة بأنه وراء الانقلاب الفاشل في عام 2016رغم أنها لم تقدم أية أدلة تثبت ذلك، وكذلك تطالب تركيا بأن تقطع الولايات المتحدة الأمريكية كل علاقاتها مع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، وتطالب بوقف كل المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية للوحدات وقسد، وأنقرة تطالب الولايات المتحدة بتقديم الدعم والمساعدات للمجموعات والفصائل الجهادية الموالية لأنقرة بدل تقديمها للوحدات وقسد.

هناك مسألة مهمة أخرى أثرت في تعقيد العلاقات التركية الأمريكية، وهي العلاقة التي جمعت تركيا مع تنظيم داعش لسنوات عديدةــ وهذا المسار الذي سيسلكه تركيا في الخمس سنوات القادمة بعد الصلاحيات الرئاسية التي حصل أردوغان بعد تحويل تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي والتخوف من انزلاق تركيا نحو النهج الراديكالي الأكثر تطرفاً وتشدداًــ فالجيش التركي كان على علاقة جيدة مع تنظيم داعش ولم يحدث بينهما أي اشتباكات خلال سيطرة التنظيم المتطرف على الشريط الحدودي الممتد من تل أبيض إلى اعزاز من عام 2012 إلى 2016، بل ما فعله سلطة العدالة والتنمية هو تقديم الدعم والمساعدة لذلك التنظيم المتطرف، تلك المساعدة التي انكشفت وانفضحت عبر العشرات من التقارير الصحافية والاستخباراتية، ورفضت سلطة العدالة والتنمية الدخول في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش بحجة إن هذا التحالف يجب أن يستهدف كذلك نظام بشار الأسد ووحدات حماية الشعب، ولم تتحرك أنقرة ضد التنظيم المتطرف إلا بعد أن تأكدت إن وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية ستسيطر على كامل الشريط الحدودي، حينها فقط بدأت التحرك وكانت سيطرتها على مناطق جرابلس والباب أشبه بعملية الاستلام والتسليم من تنظيم داعش.

ما يقلق الولايات المتحدة الأمريكية هو العلاقات التركية مع التنظيمات التي تعتبرها هي منظمات إرهابية ومارقة، وكذلك علاقات أنقرة مع إيران وروسيا، ومقاربات أنقرة من قضايا الشرق الأوسط عامة والأزمة السورية خاصة، أما تركيا التي تخضع حالياً لسلطة العدالة والتنمية هناك عدة أمور تقلقها في السياسة الأمريكية، لعل أهمها وعلى الاطلاق هي علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، والتي تنظر إليها إنها اعتراف بالنظام الفيدرالي في شمال سوريا، واعتراف بالإدارات الذاتية والمدنية في المناطق التي حررها قوات سوريا الديمقراطية من تنظيم داعش، وترى أنقرة أن الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية للوحدات وقسد يشكل خطراً على أمنها القومي، فهي ترى في مشروع الفيدرالية والإدارات الذاتية والمدنية بداية لتغيير حقيقي ليس في سوريا فقط بل في منطقة الشرق الأوسط عموماً وأولها في تركيا، ولذلك تحاول الضغط بكافة الوسائل لقطع كافة المساعدات عن مناطق الإدارات الذاتية والمدنية في شمال سوريا وتحاول فرض حصار سياسي واقتصادي محكم على المنطقة وتقدم التنازلات تلو التنازلات للولايات المتحدة الأمريكية ولروسيا ولإيران، في سبيل ضرب هذا المشروع، وبالأساس تدخلت تركيا في سوريا بشكل مباشر بعد فشلها في السيطرة على السلطة في سوريا عبر دعم المجموعات الإسلامية كجماعة الاخوان المسلمين ومحاولة إشراك تلك المجموعات في السلطة مع النظام، وكان تدخلها العسكري المباشر لسببين أساسيين هما: “أولاً- ربط جزء من الأراضي السورية بالدولة التركية على غرار دولة قبرص الشمالية الملحقة بالدولة التركية، وثانياً: ضرب مشروع الإدارة الذاتية والفيدرالية بشمال سوريا”.

هذه هي الرؤية التركية التي تتناقض مع الرؤية الأمريكية في مسألة الأزمة السورية.

ومن المرجح أن تستمر الخلافات بين الدولتين على مختلف القضايا، وقد تكون مسألة اعتقال القس برانسون بداية جديدة من تأزيم العلاقات بينهما، ورغم التهديدات التركية الاعلامية ضد الولايات المتحدة الأمريكية إلّا أنها في الواقع مجبرة على تقديم التنازلات وإلّا ستواجه عواقب سياسية واقتصادية قد تؤدي إلى انهيارات تمس كل المجالات في تركيا.

إعداد: بدران الحسيني

زر الذهاب إلى الأعلى