دراسات

الأسلوب ونسق الحقيقة (4)

تكملة دراسة الكاتب والباحث السياسي يوسف خالدي الأسلوب ونسق الحقيقة . 

الحلقة الرابعة

جرى الحديث عن  الأسلوب وتعريفه كما تم التطرق إلى عدة أساليب , ومن خلال تناول تلك الأسليب بالتحليل والنقد , يننتهي أوجلان إلى خلاصة تقول :

بأن تلك الأساليب التي أدت إلى نشوء نسق للحقيقة في كل مرحلة زمنية بدءاً من الحقائق التي سادت في المرحلة الميثولوجية , ثم الميتافيزيقية والوثوقية الدينية , ثم الحداثة الرأسمالية بوصفها وليداً للأسلوب العلمي . إحتوت جميعها على جوانب ساهمت في تشويه الوعي إلى جوانب أخرى إيجابية نم التطرق إليها سابقاً . وإرتكاب الإنسان لأخطاء , أبعدته في بحثه عن الحقيقة عن الهدف الرئيسي للإنسان وهي الحياة الحرة العادلة بوصفها غاية .

فالنسق هو :

كل شيء كان على طريقة نظام واحد عام , حيث لا يجوز تعارض أي جزء مع غيره ضمن ذاك النظام , وبمعنى آخر .:

هو إنتظام الأجزاء في وحدة كلية . وبهذا المعنى فإن أسلوباً واحداً , أو عدة أساليب , أو طرق تسعى إلى تحقيق غاية ما , تشكل بمجموعها نسقأ . أو نموذجأ منسجمأ ومؤتلفأ لعناصره التي عليها أن لا تتعارض مع العناصر الأخرى المتسقة معها ضمن وحدة تسمى بالنسق , ونسق الحقيقة لدى أوجلان هو ما سيتم تناوله في هذه الدراسة . بعدما تبين لنا في الحلقات التي سبقت أنه لا يرفض تلك الأساليب ولكنه يطالب بإعادة النظر فيها , وإخضاعها للتقد والتحليل .

يفترض أوجلان بأن الحداثة الرأسمالية أقيمت على بنى إجتماعية مزيفة تحت أسماء ومصطلحات بعيدة تمامأ عن معانيها الحقيقية , لاقت عبر التاريخ مقاومة باسلة ورفضاً وصداً , لكن الواقع المعاش ينبؤنا بالنتائج التي إنتهت إليها تلك المقاومات من جهة . وتقدم لنا الدليل على إفلاس أنساق حقيقتنا القائمة من جهة أخرى .

يتسائل اوجلان هل هذا العالم هو نهائي وأبدي وفق النسق المعاش كما يدعي نظام الحداثة اليوم كما ذهب إليه يوكوهاما , الا يمكن قيام عالم أكثر جمالاً وأكثر إنصافاً وعدالة وأكر تمثيلاً لقيم الإنسانية التي دفع من أجلها الكثير من العظماء في التاريخ , حياتهم ثمناً لتحقيق تلك القيم لأجل غد أفضل كان غايتهم الأولى .

ألا يتطلب كل ذلك عدم إنصرافنا عن التعلق بالشكل دون التعرف على حقيقة مضامين المعاني داخل مصطلحات , قد تكون مزيفة ومضللة , تقود البشرية إلى نهايات خاطئة . بدءاً من الوقوع في الأخطاء التي يتضمنها الأسلوب , أو عدم الدقة في تحديد الضوابط العلمية , أو من وعينا وإدراكنا الخاطىء المشوه لمفهوم السلطة والإقتصاد , وتلك المفاهيم المتحكمة بقضايا الحقوق والحريات .

هذه الأسئلة المطروحة على الساحة وتتطلب إجابات , يحاول أوجلان البحث عن أجوبة لها . مع حذره من الوقوع بمصيدة االوثوقية التي تحمل طابع الحتمية النافي لمبدأ النسبية .

كتمهيد لهذه المحاولة يشير إلى .

إن التقسيمات الثنائية التي تتحكم بفكر الإنسان قد حرفت أذهان البشر من خلال معاني سقيمة إنتهت إليها كل المصطلحات المنبثقة عن تلك الثنائيات مثل ذاتي – موضوعي و مثالي – مادي , ديالكتيكي
أخطاء الإسلوب الجوهرية والأساسية , التي أدت إلى ظهور الحداثة الرأسمالية .

بدأ الأمر منذ بدء تشكل الحضارة المدنية وبالتحديد في سومر , حيث كان يقف وراء إنتشار تلك المفاهيم والقيم والعقائد التي إنتشرت , اصحاب النظم السلطوية والإستغلالية القائمة , بهدف تأمين المنافع وشرعية بقاء وديمومة تلك النظم التي كانت قائمة بالفعل , ثم لتصل تلك العلاقات والقيم ذروتها في زمن الحداثة الرأسمالية .

نسق الحقيقة هذا المتحدر من جذور تاريخ نشوء الحضارة المدنية الأولى , هو الحامي الأمين لنظام الإستغلال السياسي والإجتماعي في كل العصور .

ما العمل إذأ ؟ .

الإجدابة تكون بالتخلي عن نسق الحقيقة هذا . هذا التخلي والإنصراف عنه لا يجب فهمه على أنه موقف العدو من خصمه . ويعد هذا تحولأ كبيرأ في الرؤى الأوجلانية بإتجاه نظام الحداثة .

يرى أوجلان أن يكون هذا الرفض كمن يمثل المعارضة وليس الخصم المشاكس المعادي , وإنما موقف المعارض له من خلال تحليله و تفكيكه , ليعاد تركيبه من جديد , وهذا لن يتحقق ما لم يتم دعم وتطوير تلك الجهود للمجموعات المعارضة وتطويرها بإتجاه بؤر الإستغلال في كافة ميادينها وليس إتجاه السلطة فقط .

إن كل مراحل التطور والبنى الهامة للمدنية في جانبها الإستغلالي , ظهرت كثمرة من ثمار الإرادات والذهنيات المؤثرة على جوانب الحياة والتطور أولاً , وقد كانت إحدى أخطاء الإسلوب الماركسي يكمن في تلك الذهنية التي كانت تتوقع من الإنسان بوصفه بروليتارياً معدماً , خاضع للقمع والإستغلال اليومي والإضطهاد المستمر ثانياً .

بناء المجتمع الجديد المنشود الخالي من الإستغلال , مع إستمرارية بقاء العامل , عبداً مغزواً ومستعبداً من جديد في دولة البروليتاريا , حينما تم ترديد , سفسطة العامل الحر في مجتمع وليد لم يتحرر فيه العامل , الذي كان يتحرك ضمن إطار ذهنية البورجوازية الصغيرة والمتوسطة وفي ظل غياب شبه كامل لذهنية البروليتاري الذي لم يتم إنشاؤها في دولة تم بناؤها , على أنقاض دولة أخرى مع الإبقاء على تلك الأساليب ذاتها وعدم إكتمال نمو تلك الطبقة كتلة ولا ذهناً , دون أي جهود حقيقة وجذرية تهدف , إلى توفير مقومات بناء الذهنية بما يتوافق مع التغيرات الإجتماعية الحاصلة على صعيد البناء التحتي .

كيف يمكن بناء الذهنية تلك ؟

أولأ :

إيلاء المزيد من الجهود للكشف العميق عن أثار المفارقات التي خلفها التمييز بين الذات والموضوع في أذهاننا .

فالموضوعانية , ليست تعبير عن قوانين الطبيعة والعلم كما يتم الزعم بذلك , بل سيتبين للفاحص الدقيق , بأنها الصيغة العصرية لكلام الرب ذاته في العصور القديمة , فالقوى الخارقة التي كان يتم نسبها إلى الرب , باتت تنسب بموجب هذه الموضوعانية إلى العلم وبمزيد من الجهد سيتبين أيضاً أن هذا الصوت هو صدى للحاكمية , والطغاة الجبابرة والمستغل المستبد , فكل الاصوات المعارضة تم ترويضها لصالح النظم القائمة , والخارج عن المألوف يتعرض لغضب آلهة النظام كما تعرض له الكثير من الحكماء والفلاسفة والمتنورين والمتصوفة منطلاب الحقيقة ومحبيها .
يمكن إستخلاص نتيجة ذات إتجاهين في تحليل أوجلان للموضوعانية أو الموضوعية :

أولاً الإتجاه الذي يمثل النظام الحاكم المتأسس .

الإتجاه الذي يمثل الحقيقة ثانياً.

الفكر الموضوعي العائد للفكر التحليلي ويقصد به أوجلان أحكام العقل وإخضاع العناصر إلى التجربة وهي سمة للموضوعانية , سيتحول إلى وحش يفتك بالمدنية والحضارة , ما لم يتم ربطه مع الأفكار الحسية والحدس والذكاء العاطفي للإنسان , تلك اللحظات الآنية كلحظات إشراق في النفس وعلى شكل ذكاء عاطفي يميز الإنسان العاقل المالك للضمير , ستنتهي البشرية إلى تلك اللوحة السوداء التي مرت معنا فالإله الصاعد هنا , ينبىء عن نفسه من خلال الدولة القومية الذي يتبختر بنفسه كما كان يراه نابوليون .

أما الذاتانية :

فتعني قدرتها على الوصول إلى الحقائق عبر الإدراك الحسي دون حاجة إلى الوجود الموضوعي . كالطبيعة والمجتمع حتى تتحقق , فالجانب الثبوتي والوثوقي ظاهر فيها من خلال إدعائها , بأن الحقيقة موجودة بقدر ما نحس بها وندرك هذا الوجود من خلال تلك الأحاسيس والإدراكات .

الفردية كنزعة تمهد لبروز الانانية بديلاً عن الأنا السليمة المنتمية إلى المجتمع , وهي مسؤولة أيضأ عن الفكر الدوغمائي المنحرف الذي يتمحور حول فكرة , بقدر ما انا موجود , تكون الحقيقة موجودة .

هذا النمط من الفكر الذي بسط سيطرته على مساحات واسعة وكبيرة من الميادين الفنية وعلى رأسها الأداب والنشاطات الرياضية . إنتهى في أيامنا إلى بسط الهيمنة التي تؤمن المشروعية للنظام , ¸وصل مؤخراً , إلى إبتداع عالم إفتراضي يعيشه الإنسان , أضعف لديه القدرة على التفكير أوالإنصراف إلى قضاياه الإجتماعية الحقيقة في عالم الواقع , حتى كاد الشبيه يحل مكان الواقع في أذهان الناس الي باتت خاضعة لكل مؤثرات هذا التقسيم الخطير , على مستوى المصطلح فيما يتعلق بالذاتانية والموضوعية كنسق للحقيقة نعيشه , إن محاولات تحقيق قدر ممكن من الوفاق والتآلف بين المجتمع والطبيعة , عبر أساليب الإدراك الحسي , كما هو في المذاهب الصوفية عبر التاريخ وفي كثير من المجتمعات , كان لها دور كبير في تطور وإزدهار الحكمة في الشرق الأوسط , يمكنها أن تقدم لنا عونأ اليوم في معالجة القضايا الأخلاقية , إتجاه الطبيعة والمجتمع أمام الموضوعانية التي لا زالت تفتك بتلك العلاقات وتشوهها .

الموضوعانية لها مكانة كبيرة اليوم , تكتسبها من خلال الجامعات والمعاهد والمؤسسات العلمية .

في حين تحتل الذاتانية المكانة ذاتها ضمن المؤسسات الروحية والدينية , فهما بذلك تقدمان معأ دوراً وظيفياً , الا وهو تأمين الشرعية لمؤسسات العنف , إتجاه الطبيعة والمجتمع ضمن مؤسساتها المتكاملة , حيث ثالوث رأس المال – العلم – السلطة . وكل ما يتحرك خارج هذا الثالوث , فهو مصنف على أنه .

إما عدو للنظام ويجب القضاء عليه , أو أنه خصم لا بد من ترويضه وصهره في بوتقة الحداثة والنظام القائم .

أمام حصار المدنية هذا في أعلى وأرفع مراحلها وهي الحداثة الرأسمالية , إيمكننا فهم تلك المعاني التي نطق ببها فلاسفة الحرية , كنيتشه الذي رأى أن المجتمعات قد تم إخصاؤها . وميشيل فوكو الذي تنبأ بموت الإنسان . والنظر إليها بأنها كانت صيحات تحذير للإنسانية من هذاالإخصاء والموت , ومن مجتمعات النمل كما في اليابان وكوريا .

لقد شهدت اعوام السبعينات مرحلة سقوط وتهاوي بعض اركان النظام الرئيسية الأمر الذي طرح على الساحة الفكرية مسألة فقدان الثقة به ومهد لظهور الفكر الإيكولوجي البيئوي , والتيارات الفامينية التي تجعل من المرأة محورأ للقضايا الإجتماعية , والحركات الإثنية -الثقافية . علامات و أشارات إلى أن هناك إمكانية وجود عوالم مختلفة تعطي الحياة معاني الحرية وتحذر من الفوضى أمور كلها تدفعنا إلى ضرورة التعامل مع هذه على أنها بؤر مقاومة نشأت وتنمو في أحشاء جميع بؤر السلطة .

يتبع ….

زر الذهاب إلى الأعلى