حواراتمانشيت

مصطفى بالي بتجربته الإعلامية؛ صفحات كتاب مفتوح بين أيديكم

– بالي هو طفلٌ أربعيني، ما زال يشعر بالأمان لمجرّد أنّ أمه تقاسمه الأوكسجين في هذا الكون.

– حقلُ الإعلام والعمل فيه كان يستهويني منذ طفولتي.

– انتقلتُ مع مجموعة من الزملاء لتأسيس صحيفة روناهي، كأول صحيفة كردية غير حزبية علنية في روج آفا.

– معظم العاملين في الحقل الإعلامي حتى الآن يحصرون تعريف الإعلام في نشرة إخبارية أو تقرير خبري.

– صادق كوباني هو الذي رتّبَ عجينة تكويني وأعادَ صُنعي لأكثر من مرة.

– نحن الآن في كوباني وبشكل عفوي، عندما نتحدث عن ميلاد أحد أو وفاة أحد أو أي حادثة أخرى، نتحدث عنها حسب تقويم معركة كوباني.

– كل لحظة عندما كنا نلتقي أو نتوادع، كنا نعتبره اللقاء الأخير أو الوداع الأخير.

تحييّه، فيردّ عليك بلكنته الكوبانية الأصيلة بكل لباقة ولطف في حين أن شخصيته لا تخلو من حس الدعابة، لكن مثلما تعامله يعاملك ذاك الذي يحمل عيوناً عسلية مائلة للخضرة، بقامته الفارعة ومنكبيه العريضين، ما إن تشاطره الحديث حتى تجد الابتسامة ارتسمت على ثغره. أما عائلته فهي ضربٌ من ضروب الوطنية، هو أخٌ لقيادي في الدفاع الشعبي الكردستاني استشهد قبل سنوات ليست ببعيدة على ذرى جبال جودي. 

هو أحد الأناس الذين يمتلكون أرضية خصبة في حقل الإعلام الكردي، يعلو المنبر بقلمه، ولربما لسانه أهم ما يملك، فهو فصيح طليق في اللغتين الكردية والعربية.

دعونا أعزاءنا القراء نقدمه لكم في هذا الحوار الذي نتمنى أن ينال إعجابكم: 

– مَن هو مصطفى بالي؟

هو طفلٌ أربعيني، ما زال يستيقظ كلّ صباح ليتكوّر عند أقدام جدته وهي تخضّ اللبن، ليحصل على نصيبه من زبدتها. يعدو في حقول الفرات، حد اللهاث المرهق، ويتماهى مع تماوج حقول القمح أمام نسمات الربيع الفراتي، في صيفه صداقة مزمنة لأسماك النهر المخيف، وفي شتائه ارتباطٌ غير مفهوم بالبرد والرذاذ والثلج، ببساطة؛ الاخضرار، حقول القمح والقطن، أشجار الحور والفاكهة، وتدفق الفرات بتلك الانسيابية هي الهوية البصرية التي أنجبت مصطفى بالي. وإذا ما أضفنا إليها نشيج <باقي خدو> وهو يشجو على مصطبة الجد في صيف القرية الفراتية، تتكامل الهويتان السمعية والبصرية التي يتكوّن منها هذا الطفل الذي ما زال يشعر بالأمان، لمجرد أن أمه تقاسمه الأوكسجين في هذا الكون الفسيح.

كيف بدأ مسيرته في الإعلام؟

بدأتُ العملَ في الإعلام في العام 2007 بانضمامي إلى أسرة مجلة صوت كردستان، طبعاً قبل ذلك كانت لدي محاولات كتابية في بعض المواقع الإلكترونية، وكذلك نشاطات طلابية في جامعة حلب، ذلك أنني كنت أدرس في كلية الآداب بجامعة حلب.

في الحقيقة إن حقلَ الإعلام والعمل فيه كان يستهويني منذ طفولتي، بإمكاني وصفه بأنه كان حلماً، ومجلة صوت كردستان بالذات، هي أول مجلة إيديولوجية لعبتْ دوراً أساسياً في تفتح وعيي القومي والفكري، وبصراحة كنت أعتبر العمل في أسرة تحرير المجلة، أو صدور كتابات لي في صفحاتها حلماً صعب التحقيق، نظراً للأسماء الكبيرة التي كانت ولا تزال، تعبر أسماءها في قائمة كتاب هذه المجلة.

في العام 2007 سنحت لي الفرصة بالانضمام إلى أسرة المجلة وبقيت ضمن هيئة تحريرها حتى العام 2012، وفيما بعد انتقلت مع مجموعة من الزملاء لتأسيس صحيفة روناهي كأول صحيفة كردية غير حزبية علنية تصدر في روج آفا. وما زلت احتفظ بصفتي أحد كتاب الزوايا فيها حتى تاريخه، طبعاً عدا الصحافة المكتوبة كانت لدي تجارب محدودة في الإعلامين المرئي والمسموع من خلال قناة روناهي وكذلك راديو كوباني إف إم.

– أبرز الصعوبات التي اعترضته عند دخوله للمجال الإعلامي، لاسيما أن أرضية الإعلام ضعيفة في مجتمعنا؟

في تلك الفترة الأولى، كان الإعلام الكردي، يمارس نشاطاته بسرية، وبالأسماء المستعارة تفادياً للملاحقات الأمنية، ونتيجة ذلك فقد كانت الصعوبات مزدوجة، تقنياً وذهنياً، فالإعلام كان يفتقر إلى الأدوات التقنية التي تعتمد اللغة البصرية، بالإضافة للنقص الكبير في الكوادر الإعلامية المختصة التي تستطيع أن تعطي منتج إعلامي متميز يزاحم الإعلام الدولتي بلغاته المختلفة.

للأسف هذه الصعوبات ما زالت مستمرة، بالرغم من خروج الإعلام الكردي من نفق السرية إلى فضاء العمل العلني، ورفده بالعديد من الكوادر الإعلامية التي تلتمس طريقها وإن ببطء، لكن العقبة تكمن في آلية التعاطي مع الإعلامي، أو مقاربة تعريف الإعلام بالنسبة للعاملين في حقله، أو حتى بالنسبة لعقلية السبونسر الإعلامي.

فمعظم العاملين في هذا الحقل وحتى الآن يحصرون تعريف الإعلام في نشرة إخبارية أو تقرير خبري بينما الحقيقة هي أن نشرة الأخبار، أو التقارير الإخبارية هي حصوة في جبل من الحصى.

هذه المعضلة، عائق أساسي أمام تطور العمل الإعلامي، ويستلزم لتجاوزها، أن يدير دفة الإعلام، بكل مفاصله، كوادر متخصصة، تفهم كواليس الإعلام، وتقنياته، وظائفه، ودوره في بناء المجتمع، وتوحيد الرؤى الاجتماعية، بعيداً عن التنميط أو التكرار العبثي للأفكار المجردة.

– هل كان لـ صادق كوباني شقيق مصطفى دورٌ في انخراطه بثورة روج آفا ليكون رسولاً للحقيقة؟

صادق كوباني ……..

لا أعرف إن كانت هناك لغات قادرة على تجسيد الأحاسيس والمشاعر كما هي، هو ببساطة ابني الذي يكبرني بثماني سنوات وقضية، وأبي الذي أصغره بخيبة الفقدان، كان مهذباً لنزق طفولتي، ومروضاً لطيش مراهقتي، هكذا وفجأة غاب من أمام ناظري ذات شتاء فاصل بين مراهقتي وشبابي، ولم يترك لي خلفه سوى رسالة مقتضبة بخط يده –صادرها الأمن السوري في إحدى هجماته التفتيشية على منزل أهلي- يخبرني فيها أن عينيه تبحث عما هو أجمل، وأذنيه ترغب سماع ما هو أعذب.

هكذا غاب عشرون عاماً دون أن يهيّئني لذاك الغياب، وهكذا فجأة عاد مرة أخرى دون أن يهيئني لرؤيته، ومرة أخرى عادة إلى الجبال، واختتم كل ذلك بنبأ استشهاده في جودي.

في كل هذه اللوحة، لم أتخيل حياتي بدونه، كان هو دائماً الحاضر الأقوى في كل تصرفاتي، في كل مواقفي، في كل قراراتي، لم يغب عن مخيلتي أنملة واحدة، وما زال هو الموجه لكل سلوكي.

يحدث أحياناً أن يضعف الإنسان أو يفقد البوصلة مؤقتاً، لكن عندما يكون الربان قائد بحجم صادق كوباني، فأنا مطمئن بأنني سأكون قوياً أمام الصعاب التي تعترضني، ولذلك فبالتأكيد كان له الدور الأبرز ليس على صعيد انخراطي في الإعلام فقط، بل هو الذي رتب عجينة تكويني وأعاد صنعي لأكثر من مرة في حياتي.

– ماهي معركة كوباني بالنسبة لـ بالي، خاصة أنه كان شاهداً عليها؟

كوباني، قرية كبيرة، تعاند التمدن وتأبى إلا أن تبقى قرية، موقعها على تخوم الحسابات الدولية منذ قرن منحها الكثير من النزق والعناد، وتحالف عشائرها عبر التاريخ أمام ثقافات الغزو الرعوي منحها الكثير الغرور والكبرياء، آخر مآثرها أنها أفشلت مخططات جمال عبد الناصر في آخر قراها من جهة كري سبي حينما أفشلت مشروع مصادرة أراضي الكرد وتوزيعها على الفلاحين العرب.

بهذا الغرور، كانت كوباني وما زالت تفاخر كبريات المدن الكردية، وداعش لم تكن جاهلة بهذه التفاصيل، بل أكاد أجزم أن داعش لم تهاجم كوباني إلا لكسر هذا الغرور وهذا الكبرياء.

هذه المعركة تحولت لمفصل تاريخي للكرد عموماً، ولأبناء كوباني خصوصاً، نحن الآن في كوباني وبشكل عفوي، عندما نتحدث عن ميلاد أحد أو وفاة أحد أو أي حادثة أخرى، نتحدث عنها حسب تقويم هذه المعركة، فلان توفي قبل بدء المعركة وفلان تزوج بعد المعركة، فلان سافر قبل استكمال التحرير وفلان تخرج من الجامعة بعد استكمال التحرير، ببساطة، هذه المعركة التي صنفناها بأنها مقاومة القرن، أصبحت هوية تاريخية لنا، عشنا كل تفاصيلها، كل آلامها ومآسيها، وكذلك نشوة انتصارها وكسر شوكة التنظيم الإرهابي.

– موقف أثّر في بالي أثناء معركة كوباني ولا زال معلقاً في مخيلته؟

كل لحظة من لحظات الحرب في كوباني كانت علامات فارقة أما الذاكرة لا يمحوها تقادم الزمن، وفي كل لحظة عندما كنا نلتقي أو نتوادع، كنا نعتبره اللقاء الأخير أو الوداع الأخير، هكذا كانت مقارباتنا كأشخاص يعيشون في عين العاصفة، وأتون الحرب، لكن مع ذلك ثمة ذكريات تزاحم ذكريات.

في اليوم الثالث لبدء الهجوم بالجبهة الغربية، عشت مفارقة ثلاث أشخاص في مكان واحد، رجل ثمانيني قادم من المدينة إلى الجبهة مع بندقيته وجعبته ويطلب تكليفاً من قائد الجبهة بالمشاركة في القتال، قلنا له: “عد إلى المدينة أيها العم”، فرفض العودة وقال: “لم يبق في العمر الكثير يا بني، إنني أبحث عن مسكن لي في مقبرة الشهيدة دجلة، ذلك أفضل ما يمكنني الظفر به في ختام العمر”.

طفل في حدود السادسة عشر من العمر أيضاً يطلب الأذن بالمشاركة في القتال، وعندما سأله قائد الجبهة عن عمره، قال: “أنني بلغت التاسعة عشرة من العمر”، ابتسم قائد الجبهة، لأنه اكتشف كذبة الطفل والطفل أيضاً كان يعلم بأن كذبته مكشوفة، لكن الجميع صمت، قال له قائد الجبهة: “ستشارك في القتال حين يأتي دورك، لا تستعجل على عمرك يا فتى”.

رجل في الخمسين كان يبكي، مسكني من كتفي وهزني، قال: “لماذا يحدث هذا؟؟” قلت له إنها الحرب وقلة الإمكانات، قال لي ناهراً منزعجاً: “أنا متأكد بأن قواتنا لو رغبت فبإمكانها أن تغزو العالم وتنتصر، لكن لم أفهم لماذا نعاني من كل هذا الألم هذا اليوم”، وأجهش باكياً، كل ما في الأمر كان الرجل يحاول أن يبقي على ثقته بالقوات وبأن النصر سيأتي، لكنه كان يبحث عن تلك اللحظة التي سيأتي فيها، هو ببساطة لم يرغب أن يفقد إيمانه رغم ما كان يعيشه من هواجس الانكسار.

هذه الذكرى الثلاثية عشتها في ساعة واحدة في اليوم الثالث للهجوم في الجبهة الغربية ولا زالت عالقة في ذاكرتي عصية على النسيان.

زر الذهاب إلى الأعلى