ثقافة

عفرين؛ الحضارة والتاريخ الذي لا ينطفئ

عفرين؛ مدينة الورد والزيتون، مدينة الحضارة والآثار الخالدة في الذاكرة، يتلألأ اسمها عبر التاريخ، تضم هذه المدينة العريقة الكثير من المواقع الأثرية التي طُبعت في الأذهان، سنلقي الضوء على أحد تلك المواقع الأثرية لأهميتها التاريخية الكبيرة ألا وهي قلعة (النبي هوري) الأثرية.

تقع مدينة كورش (النبي هوري) شمال شرق مدينة عفرين مسافة 45 كم، يوجد في الموقع قلعة (النبي هوري) حيث كانت المدينة ذات يوم مركزاً دينياً وعسكرياً مهماً وذات شهرة كبيرة وبعدها أصبحت موقعاً أثرياً وسياحياً غاية في الأهمية ويعود بناؤها إلى القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد.

للموقع تسميات عديدة؛ فهناك من يقول أن سبب تسمية القلعة يعود إلى وجود دير قديم في المنطقة، ويقال أن أحد الرجال الصالحين (حوري) أقام فيه؛ وتحول الاسم إلى (هوري)، والبعض يقول أنه اسم شعب جبلي قديم سكن جبل زاغروس وطوروس وله تاريخ معروف في الشرق الأدنى، يغطي نصف الألف الثالث وكل الألف الثاني ق.م، وأسسوا الإمبراطورية الميتاهورية الكبيرة في أواسط الألف الثاني ق.م، والتي حكمت كامل القسم الشمالي من الشرق الأدنى القديم.

ويعرف اليوم بقلعة (النبي هوري)، أما الاسم اليوناني للمدينة فهو (سيروس)، كما سميت (أجيابولس) أي مدينة القرينين (كوزما ودميانوس)، وقد بنيت كنيسة حول قبرهم، وكنيسة سمعان الغيور التي بناها ودُفِنَ فيها بعد موته. وكتب بعض المؤرخون اسمها (قورش) وأحياناً (كورش) نسبة إلى الملك الفارسي (كورش) حيث تعود المدينة القديمة إلى أيامه.

وتقول بعض المصادر إلى أن التسمية اليونانية (سيروس) هو لفظ لاسم الملك (كورش) أو أنه من اسم المدينة (سيرهوس) في مقدونيا، وتقول رواية أخرى بأن اسمها يعود إلى (أوريا بن حنان) أحد قادة النبي داوود الذي قُتل في معركة جرت في الألف الأول قبل الميلاد ودُفِن فيها.

حول بناء المدينة تقول المصادر: بإنه في الفترة السابقة لليونانية كانت هناك مدينة في نفس المكان؛ وأغلب الاعتقاد أنها كانت موجودة من الفترة “الهورية”، وعلى هذا يكون لاسمها الحالي جذور مُوغلة في التاريخ الهوري، أما المدينة الحديثة (سيروس) التي نراها اليوم فقد بناها القائد اليوناني (سلوقس نيكاتور) مؤسس الدولة اليونانية السلوقية، كما مرَّت بفترات عديدة منها الفترة الرومانية والبيزنطية والإسلامية.

ففي فترة الحكم اليوناني (312- 64 ق.م) وبسبب موقعها الاستراتيجي الهام تمركزت فيها قوات عسكرية يونانية وازدهرت بسرعة كبيرة وكان يُضرب فيها النقود، إضافة إلى ذلك كانت مركزاً مهماً لعبادة الإلهين /أتينا/ حامية بلاد اليونان العظيمة و/ زيوس / إلهة الصاعقة، ويعتقد بأن معبد (زيوس ) كان يقع على قمة الجبل المجاور للمدينة، وازدهرت منطقة (سيروس)ازدهاراً رائعاً في أيام الحكم الروماني البيزنطي، وخاصة في الفترة التي تسمى بالسلم الروماني حتى أصبحت مفتاح منطقة الرافدين، ولكن بعد إنشاء الطريق الروماني المُعَبَّدْ بين / بيروا / ومدينة /منبج/ تحولت تابعاً إدارياً لها، إلّا أن أهميتها التجارية استمرت وظلت عقدة اتصال هامة في المنطقة طوال القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وكان يتفرع من (سيروس) ستة طرق إلى الأقاليم المجاورة.

يوجد في الموقع شارع رئيسي وحمامات ومدافن وفي الطرف الجنوبي الغربي للمدينة يوجد قبر لقائد روماني على شكل برج مسدّس وفي باحة المدفن مسجد مؤرخ في العام (1859م)، كان يزوره المصلّون من القرى المجاورة في صلاة الجمعة والعيدين، وفي العام (1140م) حدث زلزال مُدَمِّر في المنطقة أضرَّ بها كثيراً، ومن تلك الفترة هُجِرَتْ المدينة تماماً وتحولت إلى أطلال مندثرة إلى أن قام مدير المعهد الفرنسي للآثار في لبنان (هنري سرينغ) في العام (1952) بالتنقيب فيها سبع سنوات متتالية لكشف النِقَاب عن المعالم الأساسية وبعض ابنيتها، ولإلقاء الضوء على تاريخ هذه المدينة المهمة.

أطلال مدينة (نبي هوري) القديمة تقع على السفحين الشمالي والشرقي لمرتفع جبلي؛ أقيمت عليه قلعة /النبي هوري/ ويتحدد الموقع من الجنوب بهضاب قليلة الارتفاع مغطاة بأشجار الزيتون، أما الجهة الشمالية تمثل الإطلالة الخلابة للقرى الكردية في المنطقة، ويقابل موقع القلعة من الغرب قمة جبلية أخرى عليها أطلال لآثار حصن تابع للقلعة نفسها ويقال انه كان يصل بينهما نفق.

قامت مدينة (نبي هوري) بالحفاظ على العديد من عناصرها المعمارية مما ساعد على فهم شكل المدينة خلال العصور المتلاحقة؛ إذ تم إجراء العديد من الدراسات الأثرية في عدة نقاط من أسوارها والتي أظهرت بأدلة واضحة على تاريخ بنائها في العصرين الهلنستي والبيزنطي كما بينت أن الأسوار جاءت على شكل غير منتظم تتماشى مع طبوغرافية الموقع ذات الطبيعة الهضبية.

ولابد للإشارة بأن هذه المدينة قد فقدت أهميتها العسكرية في العصر الروماني، حيث أهملت الأسوار وتعرضت للتخريب، واستمر ذلك حتى العصر البيزنطي لذلك فإن مخطط المدينة في العصر البيزنطي جاء مطابقاً للمخطط العائد على العصر الهلنستي.

أما تخطيط المدينة من الداخل فقد خططت وفق نظام شبكة تربيعية مستطيلة الشكل، وتحتوي على منشآت مهمة كالمعبد الروماني الواقع جنوب المسرح، ومجموعة من البيوت العائدة إلى العصر الروماني، كما يوجد ثلاثة جسور تعود إلى نهاية العصر الروماني أو بداية العصر البيزنطي ولا يزال جسران منها قائمين؛ أحدهما على نهر عفرين والآخر على نهر صابون، وتم الاستفادة من الطبيعة الهضبية للموقع، إذ تم بناء مدرج ب25 صفاً على سفح هذه الهضبة.

بالنسبة لخشبة المسرح والبوابات فقد بنيت بالحجارة، كما اكتشفت قناة من الفخار توصل المياه من المدينة العليا إلى هذا المسرح بغية تنظيف المدرج وترطيبه، ويقوم وسط الموضع المخصص للفرقة الموسيقية مذبح يحمل صوراً لبعض الأرباب يصعب تعريفها، بسبب التشويه الذي تعرضت له في العصور القديمة.

إضافة إلى العناصر المعمارية المذكورة سابقاً يوجد مبنى جنائزي مهم (يتألف من طابقين)، يتميز الطابق العلوي بوجود فتحات على شكل منافذ ضخمة وسقفه مبني على شكل هرم، ويُعَدُّ هذا الضريح من المباني الجنائزية المهمة في سوريا ويمكن مقارنته بالعديد من المباني الأثرية المماثلة، ولكن هذا الضريح الجنائزي في (سيروس) ينفرد بخصوصيات عديدة كشكل الفتحات والهرم ونوعية الزخرفة المستخدمة.

وكان يزور موقع قلعة (النبي هوري) آلاف السياح سنوياً من سكان المنطقة ومن المناطق الأخرى وخاصة الأجانب منهم، وذلك للتعرف على آثار عفرين والتمتع بمناظرها الخلابة، ولكن انعدمت الحركة السياحية بسبب الأحداث التي تمر فيها سوريا وغرب كردستان.

في الآونة الأخيرة وخلال قصف الاحتلال التركي لمدينة عفرين طالت يد ارهابهم هذه القلعة التاريخية الأثرية، والتي تشبه مدينة تدمر، وتضم ثاني أكبر مدرج روماني في سوريا بعد مُدرَّج بُصرى، ليس هذه القلعة فحسب بل تم قصف بعض المواقع الأثرية الأخرى وهو استهداف واضح للتراث في مدينة عفرين.

بالرغم من تلك الهجمات ومهما حاولوا تشويه التراث والتاريخ الكردي لن يصلوا إلى أهدافهم، فستبقى عفرين الخضراء صامدة وستبقى مواقعها الأثرية خالدة عبر التاريخ.

إعداد: دلناز دلي

 

زر الذهاب إلى الأعلى