مقالات

مقاومة العصر تجديد لميراث كاوا وقلعة دمدم

يعد الميراث النضالي للشعوب أحد أهم السِمات البارزة لتاريخها ورقيها وحضارتها؛  فالذاكرة الجمعية للشعوب تقاس بمدى غناها النضالي وحجم التضحيات التي يقدمها أبناؤها في سبيل المحافظة على وجودهم كأمة؛ فهذا الإرث التراكمي لهذه الشعوب يجعلها دائماً في حالة شد وجذب متجدد؛ نحو تاريخها وماضيها النضالي ويكون سبباً في إعادة بلورتها وانعاشها بناءً على ما تمتلكها من قيم ومبادئ أصيلة نابعة من تجاربها الثورية المتجذرة في الوجدان والضمير الجمعي لتلك الشعوب، ويكون أحد أهم أسباب تماسكها الوطني والركيزة الأساسية الدَّالة على وجودها كشعوب حية تعي ذاتها ووجودها وتبني ثقافتها وأدبياتها على هذا الزخم النضالي المتوارث على امتداد مسيرتها التكوينية لتتحول إلى حضارة ورقي يعبر عن الجوهر الأصيل لتلك الشعوب والمجتمعات، ربما إن التمعن في ميراث الشعوب وأدبياتها الحياتية تجد فيها ثقافة وطقوساً وتقاليد متجددة ومتكررة على امتداد تكوينها وتبلورها كشعب؛ فعندما نجد تلك المجتمعات تخصص أيام بعينها في السنة كذاكرة جمعية يراد بها أن تبقى شاهدةً على لحظات من تاريخها ونضالها وصمودها، وتدل على صفات خاصة بهم كقوم أو شعب أو أمة؛ حينها يدرك المرء إن حيوية الشعوب والمجتمعات واستمراريتها كوجود يتوقف على مدى الوفاء والالتزام بميراثها النضالي الذي قدمه أبناءه في فترة من الزمن؛ من هنا يمكننا القول في هذا الصدد إنه ما من شعب من الشعوب له ذاكرة حيَّة متجددة كما الشعب الكردي؛ حيث لم يبقَ يوم في السنة إلّا ولهم بصمة فيها وذلك لِمَا مَرَّ به هذا الشعب من مآسي وإنكار بحقه كوجود قائم بذاته ولِمَا قدَّمَهُ من تضحيات جِسامٍ في سبيل الحفاظ على كينونته، وقد تكون الملاحم البطولية والروح المتمردة لدى الشعب الكردي والوقوف في وجه الظلم بمختلف أشكاله وأنواعه هي صفة جامعة لدى الشعب الكردي، وقد تكون المقاومة التي يبدونها على امتداد وجودهم كشعب؛ صفة ملازمة لكينونتهم وماثلة للعيان على امتداد تاريخهم وإرثهم كحضارة نقية خالية من الظلم والاستبداد بحيث يمكننا القول إن هذه الملاحم والمآثر تتجدد دون انقطاع كسلسلة مترابطة ابتداءً من كاوا الحداد إلى مقاومة العصر في عفرين وربما تتشابه هذه الملاحم البطولية في الكثير من تفاصيلها ومآثرها النضالية، وقد تكون متطابقة من حيث مجابهتها للطغيان والاستبداد رغم اختلاف الأعداء والفترات الزمنية التي حدثت فيها؛ وهنا يمكن سَوقُ ملحمة بطولية تتناقلها الأجيال إلى يومنا الحاضر كمقارنة من حيث التشابه لحد كبير وهي “ملحمة قلعة دمدم” وربما يمكننا القول بهذا الصدد إنها تجددت وتجسدت بشكل أكثر تراجيديةً في ملحمة العصر عفرين وقبلها في قلعة الصمود كوباني ومأساة العصر شنكال، فملحمة قلعة دمدم تقوم في تفاصيلها على حكاية الأمير ذو الكف الذهب والحسناء كولبهار

تُعد ملحمة ((الأمير ذو الكف الذهبية)) المعروفة باسم ملحمة (قلعة دمدم) من أشهر ملاحم البطولة الكردية التي يتناقلها الأدباء والشعراء والرواة إلى يومنا الحاضر وهي تروي قصة نضال أمير كردي شيَّد قلعة حصينة بهذا الاسم لحماية نفسه وأبناء عشيرته وإمارته من شرور الأعداء، والمعركة الدموية التي دارت بين الأمير وأبناء عشيرته من جهة وبين الشاه عباس الصفوي وجيشه من جهة ثانية حيث دافع حُمَاةِ القلعة الشجعان عن حياتهم وحريتهم واستقلال إمارتهم الصغيرة حتى آخر رجل؛ ولم يستطع الغُزاة من أسر أي مقاتل كردي ولم يجد الشاه وجنوده بعد دخولهم القلعة ((عن طريق المكيدة والخيانة)) إلّا الخرائب والأنقاض، حيث فضَّل الأمير ذو الكف الذهبية الموت بشرف وكرامة على حياة الذل والمهانة في ظل سلطة الشاه، وأغلب المصادر التاريخية تذكر أن هذه المعركة وقعت في عام 1605 م على الأرجح، قلعة دمدم تقع في شرق كردستان (روج هلات) الذي تحتله إيران حالياً.

ربما للوهلة الأولى عند قراءة أو سماع قصة أو رواية قلعة دمدم يتبادر إلى الأذهان إنها كبقية القصص والروايات في الأدبيات الشعبية نسج من الخيال ومزيج من الأحداث الدراماتيكية يصعب تصديقها وتبيان حقيقتها، ولكن حين تكون شاهداً حياً وتعيش تفاصيل واقعية مماثلة لشعبٍ يُعد امتداداً أصيلاً وورثةً حقيقيين لأبطال ومقاومي قلعة دمدم حينها تدرك ودون شك أن البطولة والفداء والتضحية هي صفة متأصلة في الشعب الكردي؛ وتدرك بكل وضوح أن مقاومة العصر في عفرين وقبلها في كوباني وشنكال هي امتداد  لسلسلة البطولة المتوارثة جيلاً بعد جيل، وهنا يمكننا الاستنتاج والبرهان استنباطاً من مقاومة العصر في عفرين أن معركة قلعة دمدم ليست من نسج الخيال، وإنما تستند إلى وقائع حقيقية هزَّت مشاعر ووجدان الأدباء والشعراء الكرد على مرِّ الأجيال المتعاقبة فنظموا فيها القصص والملاحم الشعرية وكتبوا القصص النثرية التي تُمجد أبطال المعركة كما ذاعت بين أبناء الشعب الكردي فحاكوا حولها الروايات الفولكلورية تماماً كما حدث ويحدث في مقاومة العصر في عفرين وأخواتها كوباني وشنكال وسري كانيه.

وعلى هذا النحو نرى أن هذه الملحمة البطولية قد نالت أكبر قدر من العناية والاهتمام بين ملاحم البطولة الكردية لأنها تجسيد رائع لطموحات الشعب الكردي ونضاله الطويل من أجل نيل حقوقه المغتصبة وتمسكه بالحرية والعدالة والكرامة كما أن هذه الملحمة اقترنت بأنبل المعاني والقيم الإنسانية؛ واستعداد لا حد له للتضحية والفداء من أجل المبادئ السامية.

وهنا أيضاً ينبغي القول أن ملاحم البطولة والمقاومة التي لم تقبل الهزيمة يوماً كان لها جانبها المأساوي الذي كان سبباً في انتكاستها وتراجعها، وهو فصل الخيانة والعمالة والارتزاق من جانب الطبقات النفعية وشخوصها المهزوزة أخلاقياً والمتضررة من قيم ومبادئ الثورة وزخمها النضالي النقي المبني على إرادة الشعوب، وهي أيضا موروث تراكمي متغلغل في البنية الطبقية الأرستقراطية التي تدعي دائماً العلو والمكانة المرموقة المتوارثة وصاحبة الأحقية في امتلاك القرار والسلطة على كاهل المجتمع  مستخدمة في سبيل تحقيق مصالحها أكثر السبل قذارة وانحطاطاً وانحداراً وصولاً لحد الخيانة والعمال لعدو شعبه وبني جلدته.

فقصة ورواية قلعة دمدم وأميرها ذو الكف الذهبية تقول في أحد فصولها المأساوية: رغم بسالة أبناء قلعة دمدم ومناعة قلعتهم حين تزوج الأمير الكردي ذو الكف الذهبية من أجمل فتاة في خانية (مه ركة) استشاط الخان غضباً لأنه أراد الفتاة لنفسه وليس لغريمه فأخذ الخان يُحِيكُ الدسائس والمكائد ضد الأمير الكردي ويؤلب الشاه ضده, وقال الخان للشاه: إن الأمير الكردي قد شيد قلعة عظيمة ومنيعة وأعلن الاستقلال ولا يعترف بسلطة الشاه فجُن جنون الشاه وأمر بهدم القلعة على رؤوس ساكنيها, وأرسل جيشاً جراراً لهذا الغرض بقيادة زعيم (خان) مه ركه، ولكن محاولات جيش الشاه باءت بالفشل الذريع حيث لم تكن لأسلحة الجيش الفارسي ومن ضمنها المدافع أي تأثير على القلعة؛ فقرر الشاه قيادة الهجوم على القلعة بنفسه وحاصر القلعة لعدة أشهر ولكن حظه لم يكن أفضل من حظوظ قُوَّادِه واستمر حصار القلعة طويلاً لكن الحياة في القلعة كانت منظمة؛ والروح المعنوية لسكانها كانت عالية حالت دون سقوطها واحتلالها، وفي أحد فصول ملحمة قلعة دمدم التي كانت شاهدة على أكثر الأسباب لانتكاستها هي الخيانة؛ حيث تقول القصة: كانت كولبهار فائقة الجمال وقد أنجبت للأمير ذو الكف الذهبية وَلدَينِ؛ وكان سائس خيول الأمير مغرماً بجمالها؛ وكان يمعن النظر فيها من بعيد ويطيل التفكير دون جدوى؛ ونبتت في ذهنه فكرة جهنمية قذرة وهي إفشاء سر الجدول الذي يزود القلعة بالماء إلى الشاه إذ ربما يجازيه الشاه فيهبه كولبهار حيث تمكن هذا السائس الغادر بطريقة خادعة من اللجوء إلى الشاه وإفشاء سر الجدول، وجاء الشاه وجلس قرب النبع مسروراً ونهل من مائه بكأس من الذهب وشربه ثم نادى ذلك الخائن وسأله:

ما الذي دفعك إلى الخيانة ؟ فقال هذا الخائن بخنوع أريد أن أخدم شاهي وأن أحقق حلمي في الزواج من كولبهار!!

حينها رمقه الشاه بنظرة ازدراء وأمر بقتله سحلاً وذلك بربطه بذيل حصان جامح كما أمر بذبح قطيع من الماشية وإراقة دمائها في الجدول لتأخذ طريقها إلى القلعة واضطرب سكان القلعة حينما شاهدوا الدم يجري في الجدول عوضاً عن الماء، ولكن الأمير الكردي طمأنهم بأن الأحواض والجِرار مليئة بالماء وأن موسم الأمطار قريب حيث تمتلأ الأحواض بالمياه من جديد لحين وصول النجدات إليهم من أشقائهم الكرد في الإمارات الكردية الأخرى ولكن طال أمد الحصار ولم تصل النجدات وأخذ الماء يشح وحينها قرر الأمير ذو الكف الذهبية المقاومة حتى الرمق الأخير مخاطباً شعبه وأبناء أمته المقاومين: علينا أن ندافع عن وجودنا بشرف ونموت ونحن مرفوعي الرؤوس ومنتصبي القامة، وبالفعل تم إجلاء الأطفال والنساء إلى أماكن آمنة في الجبل عبر ممرات سرية صُمِمَت خصيصاً لذلك لتبدأ بعد ذلك أعظم ملحمة حدثت في حينها حيث لم يتمكن العدو إلى الدخول إلى القلعة حتى آخر رجل مقاوم ولم يتمكن من أسر أحد من المدافعين؛ فالجميع استبسل في الدفاع عن وجوده وكرامته حتى آخر نقطة من دمائه لتبقى ملحمتهم ومأثرتهم شاهدة على أعظم مقاومة خاضها أبناء الشعب الكردي ضد الطغاة والمحتلين ولتصبح ماثلة للعيان ومتجددة في وقتنا الحاضر لتتجسد في ملحمة العصر عفرين والتي لا يختلف كثيراً أبطالها وأبناؤها في القيم والمبادئ التي يحملونها وربما بشكل أكثر نضوجاً وإصراراً على نصرٍ محتَّمٍ بات يلوح في القريب العاجل.

فهل سيذكر التاريخ الحديث بأن حضارة كردية نشأت في بلد الزيتون قام أهلها بتشكيل إدارة ذاتية مستقلة من هيئات وإدارات ومؤسسات تربوية وقضائية واقتصادية وإعلامية ودفاع وانشأت جمعيات واتحادات مهنية متنوعة وقد استمر إرادتها ومقاومتها أمام أعتى قوَّة إرهابية محتلة هاجمتها من أحفاد المغول والتتار بالتعاون مع شذاذ الآفاق من رعاع منغوليا وعقارب الصحراء وأن الجِرَاء الكردية المارقة (أصحاب نهج الكردايتية الارستقراطية المتعالية) تهافتت على المحتل صاغرة رؤوسها ومباركة احتلالها فقط شماتةً بالأخ الذي قدّم أنهاراً من الدماء في سبيل الحفاظ على طهارة الأرض الكردستانية ولم ينل الصاغرون سوى الذلّ والعار من ولي أمرهم الطورانيين، وهم يعلمون أن مصيرهم لن يختلف عن مصير سائس الأحصنة لدى الأمير ذو الكف الذهبية، وأن مأواهم المحتوم ستكون مزبلة التاريخ ليلعنهم الجيل تلو الجيل ؟؟.

زر الذهاب إلى الأعلى