المجتمع

دمج بلديات القرى أم وأد خدماتها ؟َ!

إعداد: ياسر خلف

تمهيد :

المجتمعات المؤسساتية التي تمتلك المعنى والقيم المبنية على درجة الوعي هي القادرة على تمهيد الأرضية لبناء مجتمع ديمقراطي حر

يعد النظام الخدمي عماد التنمية ضمن المجتمعات لِمَا له من أهمية في تلبية احتياجات المواطنين الحياتية والمعيشية وكذلك له أهمية بالغة في رفع سوية الوعي وترشيد المواطنين نحو تحمل المسؤوليات والانخراط في العملية الإنمائية وسبل تطويرها بحيث يمكننا القول: إن تنظيم المجتمع وتفعيل مؤسساته المدنية والخدمية  من أهم وأبرز الخطوات الأساسية التي يتوجب اتخاذها لرفع مستوى الوعي المجتمعي والرقي بها نحو الحقوق والواجبات؛  فالمجتمعات المدنية ذي البنية المؤسساتية والذهنية المتنورة هي التي يتم من خلالها دفع الإنسان تجاه تحمل وتبني القضايا المجتمعية المرتبطة بالمصلحة العامة وخاصة  الأمور المتعلقة بالجوانب الحياتية والدفع به تجاه تطوير قدراته ومدركاته ومواهبه الذاتية وخصاله الإنسانية التي من شأنها الدفع به  نحو التفكير والإبداع والنقاش والاهتمام بمواضيع  الكرامة والعدالة والحرية والمساواة والحقوق والواجبات  حيث يعتبر الضمان لهذه القيم  هو بناء وترسيخ  البنية المؤسساتية للمجتمع على كافة الأصعدة سواء كانت (السياسية أو الاقتصادية أو الخدمية  أو التربوية ……) والتي من شأنها النهوض  بالمجتمع ودفعه نحو الرقي والتطور, فالمجتمعات المؤسساتية التي تمتلك المعنى والقيم المبنية على درجة الوعي بقضايا أمتها هي الوحيدة القادرة على تمهيد الأرضية لبناء مجتمع ديمقراطي حر ينعم أفراده بالحرية والكرامة والرفاهية الاجتماعية وتؤمن لأبنائها حقوقهم المشروعة، ومن هنا فإن سنوات الصراع التي شهدتها سوريا بشكل عام وانحدار المنطقة نحو صراع مرير خارج عن إرادة الشعب السوري وتطلعاته التي خرج وثار من أجلها  حيث لم يعد هنا أي بارقة أمل تنقذه من أتون هذه المقتلة التي استهدفت بنيته المجتمعية ومنظومته القِيَمية  وفي ظل هكذا أوضاع مريرة كانت مبادرة المكونات المجتمعية في الشمال السوري بمثابة الشعاع المنبثق من دوامة الدم المظلمة حيث بات مشروع الإدارة الذاتية ولاحقا الفيدرالية الديمقراطية عبر مؤسساتها الديمقراطية هي البلسم الذي من شأنه إعادة سوريا إلى رونقها الحضاري  والتي بات من الواجب الأخلاقي والحس الوطني ترسيخ دعائمها المؤسساتية التي من شأنها إنقاذ سوريا أرضاً وشعباً وتطوير بنيتها المجتمعية عبر نظام مؤسساتي يكفل تطلعات شعبها وآماله المحقة والمشروعة.

مكامن القوة في مشروع الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا من الناحية الخدمية

لقد كانت تجربة الإدارة الذاتية في روج آفا وشمال سوريا طيلة سنوات الصراع من عمر المقتلة السورية بمثابة الشجرة التي صمدت أمام العاصفة الهوجاء التي اقتلعت كل شيء لم تكن جذورها راسخة وممتدة عميقاً في البنية المجتمعية ويعود الفضل في ثبات ورسوخ جذور الإدارة الذاتية إلى إصرار المكونات المجتمعية على تبني القيم والمبادئ الأصيلة وإجماعهم على صياغة عقد اجتماعي يكفل حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المشروعة, ومع إعلان مشروع الفيدرالية الديمقراطية انطلاقا من آليات الإدارة الذاتية وبمقتضى اتساع الرقعة الجغرافية لتشمل كامل الشمال السوري كان لا بد أن يتم تطوير نظام مؤسساتي يغطي كامل المساحة المحررة ووضع آليات تنظيمية من شأنها إيصال جوهر البنية المؤسساتية للأمة الديمقراطية إلى كامل تراب الشمال السوري وخاصة من النواحي الخدمية والتوعوية  وعلى هذا الأساس تم وضع الهيكلية الذاتية لنظام الفيدرالية الديمقراطية وتقسيماتها الإدارية كخطوة مفصلية لبناء المنظومة المؤسساتية لمشروع الفيدرالية الديمقراطية لشمال سورية والتي بموجبها تم موازنة النظام المؤسساتي من الناحية الخدمية عبر تمتينها بنظام الأقاليم والمقاطعات وتفرعاتها كالنواحي والبلدات المركزية وهي كانت خطوة جبارة وناجحة وخاصة من ناحية إنشاء البلدات المركزية وفصلها عن النواحي لرفع العبء عن كاهل المدن والنواحي المركزية التي كانت غير كافية لتغطية وتلبية الجغرافية التابعة لها من النواحي الخدمية لاتساعها وبُعدِها عن هذه المراكز حيث إن فكرة توزيع وتقسيم العمل الخدمي على الأطراف عبر إنشاء واستحداث بلدات وبلديات مركزية عبر انتخابات ديمقراطية  وتخصيص موارد وإمكانات وميزانية كافية لها خطوة ناجحة للإدارة الذاتية والتنمية المجتمعية وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي عبر التطوير والتحديث المستمر لهذا التجربة الفتية والرائدة

مكامن الخلل في التقسيمات الإدارية لنظام الفيدرالية الديمقراطية  من الناحية الخدمية:

ما يمكن التنويه إليه هنا هو أن إنشاء نظام البلدات المركزية عبر دمج بلديات القرى التي لم يتم اختيارها لتكون بلديات مركزية هي خطوة غير موفقة أو مدروسة ولا يحمد عقباها فهذه البلديات التي تم صدور قرار بشان دمجها في البلديات المركزية ضمن البلدات التي تم استحداثها  من شأنها إلغاء العشرات من البلديات في القرى ووأد خدماتها المقدمة للمواطنين.

قد يتساءل أصحاب القرار إن البلديات لم تلغَ، ولكن تم تحويلها إلى (مراكز خدمية ) ودمج طاقمها الإداري في البلديات المركزية !

ولكن بمجرد مراجعة بسيطة لهذا القانون أو القرار تجد أنها كارثية وغير محسوبة العواقب!!  فكيف لمؤسسة خدمية قائمة بذاتها أن تُدار من قِبَل موظف واحد وعاملي النظافة والجباية؟؟ والكل يعلم أن أي مؤسسة وخاصة الخدمية يجب أن يكون كادرها الإداري كاملاً ومدعوماً بالإمكانات والآليات وكذلك هذه البلديات التي صدر القرار بدمجها هي في الأساس مؤسسات موجودة ولها مخططاتها التنظيمية وسجلاتها الإدارية ومعاملاتها ومشاريعها الخدمية بالإضافة إلى أن هذه البلديات يُنظر إليها على أنها متهيئة لتصبح بلدة أو أنها فتحت لها لاستيفاء شروط كونها بلدة و تتبع لها العشرات من القرى التي في محيطها  وبنظرة إمعان بسيطة تجد إن هذه البلديات ألغيت خدماتها بِجَرَّةِ قلمٍ وتم وضع المواطن أمام روتين قاتل وجهد إضافي لإنهاء معاملته أثناء تنقله بين البلديات الملغية (المراكز الخدمية ) والبلديات المركزية في البلدات المستحدثة والنواحي هذا بالإضافة الى تجريدها من الميزانية وواردات الجباية والرُّخص التي ستحول مخصصاتها إلى البلديات المركزية ضمن البلدة رغم جميع المآخذ السابقة على تلك الميزانية وعدم فصلها عن كتلة الرواتب (الممنوحة) وليس التي يتقاضها العاملون بها كأجر وراتب  والتي يعتبر من أدنى الرواتب في مؤسسات الفيدرالية الديمقراطية  والتي تم رفعها تدريجياً لتصل مؤخراً  إلى أربعين ألفاً فقط كأعلى سقف للموظفين ضمن بلديات القرى  منذ قرابة الخمس سنوات من تفعيلها !؟ مع العلم أن أي شخص يتم توظيفه حديثاً  في المدن يتقاضى راتباً كاملاً يصل أدنى سقف له ستين ألفاً  رغم عدم اختلاف ساعات العمل والدوام بين المدن والقرى. هذا بالإضافة إلى أن تعيين موظف واحد لهذه البلديات التي تم دمجها يضعه أمام مسؤوليات يصعب عليه القيام بها لوحده ولا يمكنه التوفيق إطلاقاً بين واجباته تجاه المواطنين وبين مسؤولياته تجاه البلدية المركزية فإما أن يصبح ناطوراً يفتح بوابة البلدية ويجلس أو يكون كالأخطبوط يقدم التقارير الشهرية وينقل شكاوي ومعاملات المواطنين ويقدم المشاريع ويخالف غير الملتزمين ويتابع العمال ويقوم بجولات ميدانية وو……. إلى ما لانهاية من الأمور الخدمية التي يستوجب القيام بها هذا الموظف المسكين !

هذا وللتنويه إن البلديات المركزية التي تم استحداثها مؤخراً لن تستطيع خدمة بلداتها على المدى القريب لكثرة الخدمات المطلوب تقديمها للمواطنين فكيف بها أن تخدم وتسير البلدات والقرى  التي تم دمجها بها ؟؟!  .

الآراء والمقترحات  لتطوير الميدان الخدمي ضمن البلديات المركزية وهيكلتها المؤسساتية:

  • اعادة النظر في قرار دمج بلديات القرى والقيام بتطويرها عبر إرفادها بموظفين آخرين خاصة من الناحية الفنية (فنيين ومهندسين ) والخدمية والتنظيمية والتدريب
  • إقرار قانون مؤسساتي جديد يضمن تبعية بلديات القرى إلى البلديات المركزية المستحدثة مؤخراً دون المساس بهيكليتها الإدارية والاعتبارية كمؤسسة قائمة بذاتها
  • استحداث مراكز خدمية للمناطق التي يصعب إيصال الخدمات البلدية إليها وتطويرها لتصبح بلدية متكاملة مستقبلاً
  • تفعيل البلديات الخارجة عن الخدمة وتأهيلها أو تحويلها إلى مراكز خدمية وخاصة التي تم إخلاءها مؤخراً لضرورات عسكرية
  • بناء آليات للتواصل والتنسيق بين بلديات القرى والمراكز الخدمية وبين البلديات المركزية التي تتبعها
  • تزويد البلديات المركزية والبلديات التابعة لها ومراكزها الخدمية بالإمكانات المادية والمعنوية وخاصة من ناحية الميزانية والآليات وأكاديميات التدريب والتطوير
  • فصل الميزانية المخصصة للخدمات عن كتلة الراتب الشهري والمساواة بين رواتب الموظفين وتوحيدها وخاصة بين القُرى والمُدن

الخاتمة :

يقول القائد عبد الله اوجلان : (ولو خُيِّرتُ أنا مثلاً، لكنتُ انكبَبتُ على أعمالي في أيِّ مكانٍ أطأه، في قريتي، على سفوحِ جودي، على حوافِّ جبالِ جيلو، في محيطِ بحيرةِ وان، في أحضانِ جبالِ آغري ومنذر وبينغول، على شواطئِ أنهرِ الفرات ودجلة والزاب، وصولاً إلى سهولِ أورفا وموش وإغدر Iğdır؛ وكأني بالكادِ أنزلُ من سفينةِ نوح الناجيةِ لتوِّها من الطوفانِ المريع؛ أو أهربُ من الحداثةِ الرأسماليةِ كهروبِ إبراهيم من النماردة، أو موسى من الفراعنة، أو عيسى من أباطرةِ روما، أو محمد من الجهالة؛ مُتَّكِئاً إلى ولعِ زرادشت بالزراعة (أول امرؤٍ نباتيّ)، ورأفتِه بالحيوان؛ ومستوحياً إلهامي من تلك الشخصياتِ التاريخيةِ ومن حقائقِ المجتمع. ولَكانت أعمالي كثيرةً لدرجةٍ تستعصي على العد. ولَكان بإمكاني مباشرةُ عملي ابتداءً من بناءِ مشاعةِ القريةِ فوراً. ولَكَم كان تشكيلُ كومونةِ قريةٍ أو عدةِ قرى سيَغدو عملاً باعثاً على الحماسِ والحريةِ والصحةِ والسلامة! ولَكَم كان تكوينُ أو تفعيلُ كومونةِ حيٍّ أو مجلسِ مدينةٍ عملاً خلاّقاً ومُحَرِّراً! وما الذي لن يثمرَ عنه بناءُ كومونةِ أكاديميةٍ أو تعاونيةٍ أو مصنعٍ في المدينة! لَكَم هو منبعُ فخرٍ وإباءٍ وغبطةٍ عقدُ مؤتمراتِ الديمقراطيةِ العامةِ لأجلِ الشعب، أو تشكيل مجالسِها، أو التحدثُ في تلك المؤسساتِ والمنظمات، أو القيامُ بعملٍ ضمنها! ومثلما يُلاحَظ، لا حدود للحنين والأمل، مثلما ما من عائقٍ جادٍّ أمام تحقيقِ ذلك سوى الفردُ بذاتِ نفسِه. ويكفي لتحقيقِه التمتعُ بنبذةٍ من الشرفِ الاجتماعيّ، ونبذةٍ من العشقِ والعقل!)

هنا عند قراءة كلمات هذه القصيدة  بتمعن نجد أن عملية التنمية تبدأ من الأطراف باتجاه الداخل أي تنطلق من القرى نحو المدن فنجد مُنَظر وفيلسوف الأمة الديمقراطية يركز على الانطلاق من كومونة القرية لإحداث التغيير الديمقراطي وتطوير البنية المؤسساتية كسبيل لترسيخ قيم الأمة الديمقراطية وليس عبر إنهاء الحياة القروية بداعي التطوير والتحديث عبر دمج بلديات القرى وإنهاء خدماتها ودفع المواطن إلى الاغتراب والضياع عبر قرارات أقل ما يقال عنها بأنها فردية لا تنتج سوى البيروقراطية والطبقية وتنهي العلاقات الاجتماعية بفرض روتين قاتل على كاهل الكادحين من أبناء القُرى.

زر الذهاب إلى الأعلى