حواراتمانشيت

حياةُ أحدِ أبناءِ قلعةِ الصمودِ تحتَ أعينكم

_ قدرة الإنسان على التعبير ضرورية مهما كان عرقه، دينه، أصله، طبقته.

_ نفسّ الإنسان هي كيانه وروحه؛ النفس يسليها البعاد فتنثني … ولا هي عما لا تنال تطيب…

_ هو ابن “كوباني قلعة الصمود وعفرين قلب حلب”؛…. هو الذي ألتقى بكبار الفلاسفة وبرع في الفضائل والآداب..

_ حركة تحرير كردستان من صَنَعَتْهُ … وتحّول من عميد الأدب العربي إلى كاتب سياسي كردي؛.

_ سعادتهُ كقائدٍ عظيم أنقذ بلاده هي تماماً نفس السعادة التي تشعر بها الفتاة عند رقصتها الأولى….

_ القراءة في مخيلة البعض حبرٌ على ورق، هذا فهم خاطىء، بالقراءة يصل الباحث إلى ما يبحث عنه في قضيته..  ابن حلب الذي قضى حياته بالسر في القراءة لمعرفة قضيته القضية الكردية.

 لهذا قُرّاءنا الأعزاء دعونا نُعَرِّفكم أكثر عن هذه الشخصية المثالية التي تُعْتَبَرُ رمزاً من رموز الكتابة:

_ في البداية حبذا لو تعرّفنا من هو صلاح الدين مسلم ؟

 بداية أرحّب بأسرة مجلّة (الاتّحاد الديمقراطيّ) التي أعتبر نفسي جزءاً منها، بما أنّني أكتب في زاويتها الثابتة (بصراحة) منذ ما يقارب أربع سنوات حتّى الآن، وأشكركم على إجراء هذا الحوار معي.

لقد ولدت في حلب عام 1974 في حيّ عربيّ، لأبوين كرديين، الأب من كوباني والأم عفرين، فحملتُ في داخلي صلابة كوباني وعنادها ونعومة الزيتون العفرينيّ، بين شيران الكوبانيّة وكفروم العفرينيّة عشت الذاكرة، وكأنّ حلب مؤقتة، فكلّما ذهبت إلى كفروم أو شيران شعرتُ أنّني ولدت من جديد.

نشأتُ وترعرت في حيّ الشيخ طه الواصل ما رحلة الكرديّ ما بين الشيخ مقصود أو جبل سيدى الذي أنظر إليه بحنين لا أعرف معناه كلّما نظرت إليه من الشرفة الغربيّة المطلّة على القطار، درست الابتدائيّة والإعدادية في حيّ مسيحيّ مقابل جامع التوحيد الذي بني ما بين الكنائس، وكنّا نسمّيه جامع جكارة، وهناك عرفت الفرق ما بين المسلمين والمسيحيين، ودرستُ الثانويّة والجامعة فيها، وأنهيت دراستي في اللغة العربيّة عام 1998، وفي عام 2001 استقررت في كوباني وتزوّجت وصرت مدرّساً لمادّة اللغة العربيّة في مدارسها.

فشرق كوباني هناك ضيعتي شيران، الضيعة التي تئنّ من وطأة اسم أرسلان طاش الذي لا يلفظه سكّانه، وبعدها استبدلوا الاسم بالفرزدق، فتصوّروا أنا من أرسلان طاش وابني من الفرزدق وكلانا من شيران!!! تلك هي الحقيقة الكاذبة، وكوباني التي زرتها أوّل مرّة عندما ركبنا قارباً لنقطع الفرات، وتعرّفت إلى الفرات في عام 1983 وبعدها كلّ صيف كنت أزور كوباني وقريتي شيران شهراً، وأزور عفرين وكفر جنّة وكفروم وغزّاوية شهراً. فامتلأت ذاكرتي بأشجار الزيتون والتوت العفريني، وبالمنجل الكوباني وعبق خبز الصاج في شيران.

لم أعلم أنّ هناك قضيّة اسمها قضيّة كرديّة إلّا عندما قال لي بعض الأصدقاء الكرد في الصفّ التاسع: سنذهب غداً إلى عيد نوروز، ولم يكن حينها 21 آذار عطلة رسميّة بمناسبة عيد الأمّ، ولم يكن عيداً للأمّ أيضاً عند الكثير من العائلات، حتّى أن الناس تعلّموا كيف يحتفلون بعيد الأمّ في ذلك اليوم بعد أن أصبح عطلة رسميّة! أيضاً ما بين عيد الأمّ الذي اصطنعوه وعيد نوروز حقيقة كاذبة.

بالطبع لم أدرك لماذا يأتي الطلاب الكرد من الشيخ مقصود إلى مدرسة ابن رشد التي كانت قريبة من الشيخ طه؟ لكنّها بعيدة كثيراً عن الشيخ مقصود، ولم يكن في حيّ الشيخ مقصود على الرغم من كبر حجمها إعداديّة ذكور أو ثانوية، فكلّ الطلاب كانوا يذهبون إلى الحارات المجاورة، لذلك بدأت التساؤلات في مخيّلتي بعد أن هدّدنا الموجّه بالعقوبات الصارمة إذا تغيّبنا في 21 آذار، مثل ما معنى أن تتغيّب يوماً لتحضر عيداً؟ لماذا نخاف من الغياب؟ ولماذا يرعبوننا هكذا؟ وما علاقة الموجّه بهذا الشيء؟ وحينها عرفتُ أنّ هناك تمايز ما بين الكرديّ والعربيّ، ما بين المسلم والمسيحيّ.

لقد تعرّفت على حركة تحرير كردستان في الصفّ العاشر، عندما قال لي أحد أصدقائي الكرد من عفرين: أنت مدعوّ إلى مشاهدة فيديو في بيت في الشيخ مقصود، سيُلقي القائد فيه خطاباً في البقاع، لقد ذهبتُ ولم أفهم كلّ هذه السرّية وهذا الحذر والخوف من مشاهدة فيديو يلقي فيه القائد عبد الله أوجلان خطاباً، فمن هو عبد الله أوجلان؟ وما هو حزب العمال الكردستاني؟ وماذا يريد؟…

لم أستطع أن أخبر أسرتي بنشاطاتي واجتماعاتي السرّيّة بأعضاء من حركة حرية كردستان حينها، وكنت أقرأ سرّاً مختارات القائد، وكتاب المقاومة حياة، ومجلة صوت كردستان وبيانات… وكنت أتأخّر في المجيء إلى البيت أحياناً؛ فقد كانت هناك نشاطات ثقافية واجتماعيّة ورياضيّة وغيرها، حتّى علِمت أسرتي التي لم تكن راضية عن الحركة الآبوجية كثيراً، هذا الأمر واستطاعت أن تضيّق الخناق عليّ كثيراً حينها.

_ ما الذي شدّ صلاح الدين مسلم إلى الكتابة؟ وكيف بدأ مسيرته في مجال الكتابة؟

أستطيع القول: إنّني أحببت الكتابة بشغف منذ الصفّ السابع، أي في عام 1987، عندما أشاد بي مدرّس اللغة العربيّة حينها في مدرسة ابن رشد في حلب من خلال مواضيع التعبير التي كنت أكتبها، وأيضاً زرع أبي فيّ حبّ المطالعة، كان محاميّاً وكان يقرأ كثيراً، وكان في البيت جرائد ومجلّات وكتب دائماً، وكان يستمع إلى الأخبار في الراديو والتلفاز، فكنّا في جوّ من المعلومات والمتابعات السياسيّة العالميّة، وكنت أهتمّ بقراءة الكتب الدينيّة كثيراً، وبعد تعرّفي على الحركة الآبوجية ازداد عندي الشغف بقراءة الكتب اليساريّة، وفي الجامعة اهتممت كثيراً بكتب الأدب حتّى أنّني أهملت المقررات المطلوبة، وصرت أقرأ المراجع والمصادر وأمّهات الكتب العربيّة، وقد أحببت الشعر ونظمه، وأرسلت نتاجاتي الأدبيّة والنقديّة إلى مجلّات عربيّة عدّة منها مجلّة الكفاح العربيّ والموقف الأدبي وبعض الجرائد السوريّة…

وفي عام 1999 نشرت مقالات أدبية نقديّة في مجلة سورغول وقلم نامه، وأصدرت كتيّباً صغيراً مشتركاً مع جان بابر يحمل عنوان (قرارات الخطيئة) عملت على نشر قصص وأشعار وكتابات فكريّة في منتدى شباب كوباني الذي كنت فيه أحد المؤسّسين وأيضاً في موقع كوباني كرد، وصرت رئيساً لتحرير مجلة (سبا) بالعربية والكرديّة، في ستة أعداد فحسب، وفي عام 2011 أصدرت مجموعة شعريّة بعنوان (ترّهات) وفي عام 2008، وهناك مجموعة شعريّة قد أنهيت منها في 2016 وهي قيد الطبع بعنوان (كوباني رحلة السواد والبياض).

وفي عام 2013 بدأت بقراءة مرافعات القائد عبد الله أوجلان التي أحدثت تغييراً جذريّاً في مسيرتي الفكريّة والكتابيّة والحياتيّة برمّتها، فما كنت أعرفه عن القائد هو عبارة عن الفكر اليساريّ اللينيني، وقد كنت منقطعاً عن هذه الثورة الفكريّة التي بدأت بذورها الأولى في عام 1995 والتي اختتمت بهذه المرافعات، وكان أهمّها المرافعة الخامسة من مانيفستو الحضارة الديمقراطيّة.

لقد بدأت بتنقيح المرافعات عن طريق المترجمة (زاخو شيار) التي ترجمت المرافعات من اللغة التركيّة إلى اللغة العربيّة، وبدأتُ بكتابة المقالات بعد سنة ونصف من قراءتي النهمة لها، وتغيّر مسرى الكتابة لديّ، من الأدبيّة والشعريّة والقصصيّة إلى الكتابة السياسيّة والفكريّة، وتفتّحت براعم الفكر لديّ، وصرت أعيد قراءة هيغل ونيتشه وسبينوزا…، وتعرّفت إلى كتّاب جدد بالنسبة لي مثل فوكو وسمير أمين وحنّه أرندت ووالرشتاين… وصرت أرسل المقالات إلى موقع حزب الاتّحاد الديمقراطيّ وجريدتها جريدة الاتّحاد الديمقراطيّ، حتّى قرّرت تخصيص زاوية أسبوعيّة أكتب فيها بعنوان (بصراحة) في عام 2014، وزاوية أسبوعية ثقافيّة في جريدة روناهي بعنوان (ومْضات)، وكتبت أبحاثاً في المركز الكرديّ للدراسات، ومجلّة الشرق الأوسط، وحتّى الآن كتبت ما يقارب 300 مقالاً و20 بحثاً.

وباتت القراءة والكتابة بالنسبة لي كالهواء الذي أستنشقه، وأرى أنّي أقوم بمسؤوليتي تجاه هذه الثورة التي لن تتكرّر أبداً، على الأقل ما دمت على قيد الحياة، ولو قام كلّ شخص بمسؤوليته لاستطاعت هذه الثورة أن تسرّع نفسها لتصل إلى غاياتها المنشودة؛ في إنقاذ حُطام الديمقراطيّة والمجتمعات التي غُلب على أمرها.

_صلاح الدين مسلم كإداريّ في مجلة الشرق الأوسط الديمقراطيّ، كيف ينظر إلى مسألة سوريا عامة والكردية خاصة في ظل الظروف الراهنة؟ وكيف تبلورت لديه هذه الفكرة؟

لقد كتبت عدّة أبحاث مطوّلة في مجلة الشرق الأوسط الديمقراطيّ، ورأيت أنّ هذه المجلة منبرٌ للكتّاب الذين ينظرون إلى الشرق الأوسط، سواء الليبراليين أو اليساريين أو من مؤيّدي البراديغما الأوجلانيّة، ومن خلال قراءتي لهذه البرايغما صارت الصورة واضحة بعد أن كانت قاتمة جدّاً للحداثة الرأسماليّة، وأنموذج الحلّ في الحداثة الديمقراطيّة.

ما أراه في سوريا هو ساحة حرب بكلّ معنى الكلمة، وحلبة لتصفية الحسابات، وإعادة الخارطة الذهنيّة والمعرفيّة، ومن سوء حظّ سوريا والشعب السوريّ من ناحية أنّها اختيرت رغماً عنها ساحةً للحرب العالميّة الثالثة، وهي خطّة جديدة للحداثة الرأسمالية؛ من خلال نقل معاركها إلى مكان ما، بدأت في يوغسلافيا فالعراق فأفغانستان فاليمن إلى أن وصلت إلى سوريا، ويبدو أنّ الحرب في سوريا قد راقت للجميع، سواء المركز المهيمن أو الأطراف أو أطراف الأطراف.

لكن لم يكن بحسبان الحداثة الرأسماليّة هذه النهضة في روجآفا، فهي ثورة ونهضة بآن واحد، وقد غيّرت المعادلات جميعها، وصارت القوى العالميّة تكيّف نفسها مع هذا النفًس الجديد؛ (البراديغما الأوجلانيّة) التي تعتمد على حرّيّة المرأة والتوازن ما بين المجتمع والدولة ومبدأ الديمقراطيّة المجتمعيّة والتوازن البيئي وحلّ القضيّة الكرديّة على أنّها مفتاح الحلّ في الشرق الأوسط… وهذا كلّه مقابل عُقم الحلول التي لجأت إليها الحداثة الرأسماليّة والبديل غير المتوافق مع هيمنة الحداثة الرأسماليّة بعد التخلّي عن القوميّات؛ العائق الكبير أمام مدّ الحداثة الرأسماليّة الماليّة التي تريد إلغاء الحدود القوميّة، لتسهّل عمليّات السوق المفتوحة للرأسمال المالي الذي حلّ محلّ الرأسمال الصناعيّ.

_كيف ترون مستقبل سوريا ومستقبل القضية الكرديّة فيها وفي منطقة الشرق الأوسط؟ ومن أين تستمدّون هذه الرؤية المستقبليّة؟

إنّ هذا المشروع المطروح في الشمال السوريّ هو المشروع الوحيد ضمن غياب المشاريع الأخرى التي أنتجت تغوّل الإرهاب، وقوّت نفوذ إيران وروسيا في المنطقة التي باتت خطراً على الغرب، وصار البحث عن البديل مستحيلاً دون استيعاب تجربة الشمال السوريّ، وما يجري حالياً هو دراسة الغرب لهذا المشروع والبحث عن آليات التوافق معه، وإن كانت هناك حربٌ فكريّة ما بين الحداثة الرأسماليّة والحداثة الديمقراطيّة، إلّا أنّها حرب تختلف عن حرب الإبادة التي تنتهجها الدولة التركيّة الحاليّة بقيادة حزب العدالة والتنمية.

إنّ مستقبل سوريا مرهون برضوخها لمشروع الأمّة الديمقراطيّة في الشمال السوريّ، وكلّ تمدّد للشمال السوريّ عسكريّاً وسياسيّا واجتماعيّا ودبلوماسيّاً هو انتصار لهذا المشروع على حساب مشروع الدولة القوميّة في سوريا وتركيا والعراق وإيران على المدى القريب.

إنّ الدولة القوميّة في سوريا المركز لفي فترات ضعفها الشديد على الرغم من المساندة الإيرانيّة والروسيّة المباشرة لها، وبالمقابل نرى قرب انهزام التيّارات الإرهابيّة التي لم يبقَ أيّ سيطرة للجيش السوريّ الحرّ عليها، وبعد أن صار إجماع إسلاميّ بقيادة ترامب على محاربة الإرهاب، فأميركا وحدها تستطيع أن تقرّر من هو الإرهابيّ، بعد نقل مركز الإسلام السنّي إلى الرياض، وانتزاع اللقب من إسطنبول، وبذلك ضعف الدور التركيّ في سوريا لا سيما بعد انتقال القرار السياسيّ إلى السعوديّة بعد أن خيّبت تركيا ظنّ أميركا بعنادها؛ بتفضيل قضيّة محاربة الكرد على محاربة الإرهاب.

لقد انتهت الصفقات الكبرى ما بين الدول المتصارعة ما بعد الصفقة الرأسماليّة العظيمة لترامب في السعوديّة، لهذا لم تعد تستطيع تركيا محاربة هذا المشروع بالآلية السابقة وبوسائلها القديمة، لكنّها ستلجأ إلى وسائل جديدة، ومن يرد أن يقرأ المستقبل فعليه استيعاب حركة تحرير كردستان منذ أربعين عاماً حتّى الآن، وأن يدرك تمام الإدراك أنّ الثورة لن تفنى، وسيظلّ الصراع الذهنيّ محتدماً، وإن خفّ الصراع العسكريّ في سوريا أو انتهى بعد أمد ليس بقليل.

حوار: أفين يوسف

زر الذهاب إلى الأعلى