ثقافةمانشيت

التعايش وأسسه بين المكونات والأطياف المختلفة في سوريا

دوست ميرخان

تنطلق العلاقات الإنسانية في نهج وفلسفة الأمة الديمقراطية من رؤية تقوم على أساس إن الإنسان كأن اجتماعي لا يستطيع العيش وتلبية احتياجاته والتعبير عن كيانه وهويته بمفرده، لذا يميل الإنسان السويّ إلى التجمع والعمل ضمن مجموعة من اقرانه ومن هُم في الدائرة المحيطة به، من ثم يتطور هذا الميل كنتيجة للظروف التي تهيأ له إقامة علاقاته مع المجموعات الأخرى التي تختلف عنه، وهذه العلاقة تعتمد على مجموعة من الأسس هي:

-الاعتراف بالاختلاف، وتعني التنوع والتعدد ثقافة طبيعية، وهي عكس ثقافة التفرد والتفوق العرقي الوضعية،  ففي الكتاب المقدس عند المسلمين “القرآن” على سبيل الذكر هناك العديد من الآيات التي تشير إلى الحكمة الإلهية في هذا الاختلاف ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً).(…وجعلناكم شعوباً وقبائل لتتعارفوا..).  وهذا ردُ واضح على الذين يتخذون من الدين على سبيل الذكر أيضاً حجة لتفوقهم العرقي والأثني.

 الاعتراف بالأخر وبنظرية الاختلاف بين المجموعات الإنسانية سنة من سنن الطبيعية، يؤكد علماء الدين على أنّ  القيم الدينية تقوم على الاعتراف الإيجابي بالآخر.

-التسامح صورة للعيش المشترك

لا يمكن للإنسان أو لجماعة إنسانية معينة إن تقول أنها متسامحة إلا بعد عيشٍ مشترك لجماعة أخرى، تحمل أفكاراً إنسانية وتصورات متباينة ولها عاداتها وتقاليدها، والجدير بالذكر إن المجتمع السوري عرف بتسامحه تاريخياً في العالم عموما.

 حقيقة للتسامح كمبدأ من مبادئ العيش المشترك وكمنهج وسلوك إنساني تأثير على الفرد والمجتمع، وهي الخطوة المناسبة لرسم ملامح سوريا المستقبل بعد صراع عنيف كلف السوريين الكثير.

كيف نحقق السلام الوطني كمبدأ من مبادئ فلسفة التعايش وما تأثير التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية على السلم الأهلي في سوريا

تؤكد كافة التعاليم الإنسانية والدينية والأخلاقية التي تهتم بالإنسان، على أن السلام هو حالة ذهنية. بمعنى أن الإنسان الذي يحس بالسلام الداخلي مع نفسه، هو القادر والمرشح لأن يصل إلى السلام مع محيطه، والعكس صحيح، فالشخص الذي يفتقد إلى السلام الداخلي، لا يمكنه أن يعيش في سلام ووئام مع محيطه. وإذا فهمنا السلام على أنه حالة ذهنية ونفسية، وأنه لا يتحقق في الجماعة إلا إذا تم تحقيقه في الأفراد، ولا يمكن أن يتم السلام إلا في ظل نظام عادل يشرك الجميع في صنعه، فهذه من شأنها أن تشكل عمومًا الضمانات والشروط الأساسية لتحقيقه، والحفاظ عليه، وديمومته.

المجتمع المتعدد الثقافات هو المجتمع الذي يتحقق فيه السلام كقيمة ومبدأ أنساني يتوق إليها الفرد والجماعة، ولا تستقيم الحياة الطبيعية بدونه في أي تجمع بشري أو أي وطن من الأوطان. لما للسلام مكسب ومصلحة للجميع، ولا يتضرر من السلام إلا تجار الحروب بكل صنوفهم.  والسلام حالة ذهنية ونفسية تجد القبول لدى الطبيعيين من البشر (بمعنى أنه طبيعة بشرية)، ولا ينفر من السلام إلا من كان يعاني من مشاكل وعقد نفسية. وعندما نضيف إلى مفهوم السلام بأنه وطني، فالمقصود السلام بين مكونات المجتمع السوري السلام بين الدولة وشعبها أي حالة الوئام والوفاق بين مؤسسات الدولة والمجتمع بكل مكوناته وأطيافه، وهنا تسود العلاقات الطبيعية السوية التي ترتكز على قيم العدالة الإنسانية، مسنودة بمؤسسات تضمن استمراريتها، وبقضاء عادل ينصف الجميع، وبنظام سياسي يتسم بالديمقراطية والوطنية يتيح للجميع التساوي أمام القانون الديمقراطي.

تشهدت سوريا منذ ثماني سنوات صراع دموياً وهذا الصراع كان نتيجة أزمة بنيوية واضطرابات سياسية، وظروفاً اقتصاديةً قاسية، تكاثفت الأحداث وتداخلت الأسباب وكانت النهاية المحتومة لهذا الواقع المتردي، تحول الصراع من أزمة داخلية  بحتة إلى صراع إقليمي ودولي دفع ثمنها الشعب السوري.

في شمال سوريا تمكن مكوناتها والقيادة السياسية من تجاوز تبعات مرحلة العنف والفوضى والصراع على الأرض، وخلال فترة قصيرة صاغوا عقداً اجتماعياً مبيناً على فلسفة العشي المشترك بدءاً من أصغر وحدة مجتمعية “الأسرة” إلى أكبرها وهو النظام الإداري والسياسي المتكون.

 ويتساءل البعض كيف نجح هذا المشروع المجتمعي  وكيف استطاع الكرد والعرب والسريان وغيرهم من المكونات مسلمين ومسيحين وإيزيديين وعلمانيين من فرض إرادتهم على كل محاولات الاقتتال والتصادم في ظل الصراع القائم، فعلى مدار السنوات الماضية لم تعرف عدد من المناطق في شمال وشرق سوريا الاستقرار والأمان، نتيجة الهجمات الارهابية المتكررة والتي عاثت فساداً وقتلاً، واستطاع اهلها وبمساندةٍ من كافة المكونات من تحريرها واعادة الحياة إليها و غرز روح التعايش والتآخي بين جميع سكانها، وان تؤسس نظاماً إدارياً من صلب هذه الثقافة الجامعة لشمال وشرق سوريا.

أن التعايش وروح التآخي الحاصل في الشمال السوري (والذي حَوَّل أردوغان قسمه الغربي إلى مستعمرات تعيث فيها مجموعاته الإرهابية المرتزقة نهباً وشراً، ويحاول اليوم أن ينقل تجربته الاجرامية واللا إخلاقية إلى القسم الشرقي) خيارٌ استراتيجي بالنسبة للمجتمع الذي أصبح الإدارة الذاتية والديمقراطية منهجاً لإعادة تنظيم حياته وفق مبادئها، كذلك بالنسبة للنخب الفكرية والسياسية، في ظل غياب أي منهج أو توجه نحو حلٍ سياسي ديمقراطي للأزمة، وتبين لهم بأن نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية  تعد من أرقى النظم السياسية والإدارية في عموم المنطقة.

-إذن الفشل الذي تشهده بعض المناطق الأخرى من سوريا في تجسيد التآخي والتعايش الإنساني مرده عدم قبول سكان تلك المناطق بعضهم بعضاً فكل مجموعة مرتبطة بفصيل سياسي أو عسكري مرهون لقوى إقليمية، هدفه تحقيق مكاسب مادية وسياسية معينة، على حساب بقية الاطراف الاخرى، كما إن عدم توفر رؤية سياسية واضحة بناءة تناسب مفهوم التعايش للنسيج السوري المتنوع سبب من اسباب حالة  ديمومة الفوضى وعدم الاستقرار، فالتنكر لحق الأخرين بغية الحفاظ على مكتسبات ومصالح مادية ربحية لفئة تحتكر السلطة والهوية الدينية والقومية والمذهبية.

-لماذا نتبنى فلسفة التعايش فكراً ومنهجاً.. ؟

في وقت عاثت فيه الجماعات الارهابية والمرتزقة فساداً في سوريا ، وتصاعدت خطر الجماعات المتطرفة التي  سعت وتسعى إلى إثارة الصدام بين الثقافات المختلفة في سوريا، وتبني بعض الدول والانظمة في سبيل تحقيق اطماع ومكاسب فردية وفئوية استراتيجيات خاطئة في تغذية النعرات الاثنية والدينية، ونشر ثقافة الكراهية، والتمييز العرقي والديني والمذهبي، فسالت الدماء، وتناثرت الأشلاء، وفقد الناس استقرارهم، وتم تهجيرهم من ديارهم ، ودمرت منازلهم  وبساتينهم ، وأصبحوا لاجئين مشردين، يعاني العالم من إيوائهم، وتوفير ملاذ آمن لهم، وتقديم الإغاثة العاجلة لضروريات حياتهم.

وإزاء هذه التطورات المأساوية وتداعياتها الخطيرة  لابد من البحث عن أفضل السبل لحماية الحقوق والحريات الأساسية وحفظ الكرامة الاساسية لمختلف المكونات في سوريا وذلك لتعزيز التعايش السلمي والتفاهم المتبادل، واحترام الكرامة الإنسانية.

للتعايش المشترك في سوريا والشرق الأوسط تاريخ طويل وعميق فالمكونات المجتمعية تعايشت جنباً إلى جنب منذ آلاف السنين وتخالطت وتزاوجت الثقافات فيما بينها مكونة ثقافة شرق أوسطية لطالما تميزت بجمالياتها على الصعيد المادي والمعنوي، فالكرم والإقدام والعمل المشترك والتسامح كلها صفات تميّز بها الانسان الشرقي الحر الغير متأثر بثقافة السلطة.

لماذا نحتاج إلى السلام في ظل الأزمة الراهنة؟

 الأزمة السورية كشفت العديد من مواطن الضعف والقوة بالنسبة للنظام والدولة والمجتمع، كما ألقت بمؤثراتها العميقة على كل جوانب الحياة في سوريا خاصة الجانب الاجتماعي والسياسي، فبعد ثماني سنوات من الحرب والدمار والتهجير لا بد من تهيئة الظروف وخلق بيئة مناسبة ليتصالح فيها السوريين بين بعضهم البعض ولينال المظلوم حقه ويحاسب المجرمون على أفعالهم حينها يتحقق العدل الذي يُرسي بدوره دعائم السلام، بعد ثمان سنوات من الأزمة تبين لنا بأننا كنا نفتقر إلى السلام  وهنا يتسأل البعض “كيف؟ وسوريا كانت تتمتع بالأمن والأمان قبل الأزمة”.

الحقيقة والجواب تَكمن في إن الدولة السورية لم تستطع أن تحقن الدماء حتى يومنا هذا، كما أنها لا تمتلك أي مشروعٍ وطني حقيقي ينهي به الأزمة البنيوية، ويوفر حياة كريمة لمكونات الوطن الواحد. من هنا يستلزم تحقيق السلام السوري إن كنا نسعى إليه فعلاً مشارك كل مكونات الدولة الواحدة في صنعه وارساءِ دعائمه، فلا يمكن أن يتوفر السلام في ظل نظام سياسي غير ديمقراطي، مبني على أساس هوية واحدة في بلدٍ متعدد الهويات والثقافات.

 ولوعُدنا إلى الوراء قليلاً ففي السابق كان يفهم من السلام على أنه عدم وجود حالة حرب بين الدول والجماعات، لكنه وبعد الحرب العالمية الثانية، وخروج دول أوروبا الغربية على وجه التحديد من الحرب في حالة شبه مدمرة أصبح التفكير في السلام يأخذ أبعادًا أخرى، دون الانتقاص من العلاقة القائمة والمباشرة بين المفهومين المتعاكسين الحرب/السلام، وأنشئت المؤسسات التي تحفظ الأمن والسلام بين الدول مثل الأمم المتحدة.

إذًا، التحول الكبير الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية هو أن السلام أصبح مفهومًا ثقافيًّا، وبالتالي بدأ الاهتمام بتنمية ثقافة السلام.

في سوريا وفي الشرق الأوسط عموماً هناك حاجة ملحة وضرورية إلى إدخال مفاهيم جديدة في حياة شعوبنا ومجتمعاتنا وفي ثقافتنا العامة تعزز وتقوي هذه الشعوب وتعزز التعايش فيما بينهم وتتعزز مفهوم الدولة القوية بشعبها وليست بترسانتها العسكرية وآلة استبدادها، ولأن الشرق الأوسط عموماً تعتبر من أكثر مناطق العالم التي شهدت حروبًا ونزاعات وصراعات، وتركت هذه النزاعات والحروب الكثير من الجوانب السلبية على المجتمعات، وفي السنوات الأخيرة تفجرت العديد من الأزمات، لذا على الشعوب والحكومات أن تتعلم درساً مما حصل ويحصل في الشرق الأوسط، وأن تسرع في تحقيق عملية سلام على المستوى الداخلي أولاً ثم على المستوى الخارجي الاقليمي والدولي ثانياً، والسؤال هُنّا؛ ما الخطوة الأولى لتحقيق ذلك؟

يقول المثل “طريق الألف ميل يبدأ بخطوة”

نحتاج بداية أن نقر ونعترف ببعضنا البعض كما خلقنا الخالق بعيداً عن النظريات الوضعية المتعلقة بالتفوق العرقي والإثني وبالمفاهيم السلطوية التي عفى عليها الزمن ولازالت تسْري بقوة في شريان الدولة،  يجب فهم السلام على إنها ظاهرة طبيعية فيها توازن للنفس مع الجسد وبالتالي توازنٌ بين الفرد والجماعة وبين المجتمع والدولة، فلا يمكن تحقيق السلام بالظلم والاستبداد ولا بفرض الاحكام العرفية وخلق الفوضى، السلام ترمز إلى الحرية بدل القهر، والعدل بدل الظلم، بها، والعلم بدل الجهل، والديمقراطية بدل الديكتاتورية، والتعددية بدل المركزية، أي نحن بدل الأنا.

فالإقرار بالتعددية السياسية، والاجتماعية، والثقافية يقودنا إلى الحاجة لوضع الأسس السليمة لتأمين وضمان التعايش بين هذه المكونات.

التعددية نعمة وليست نقمة

 كثيراً ما يتم الحديث عن التعددية السياسي الفعلية، كأولوية من اولويات السلام في أي بلد يشهد حرباً وصراعاً وهذه حقيقة خاصة في الخطوة الأولى نحو السلام، لأنها تؤثر بشكل مباشر على أداء القوى السياسية والمجتمعية، والواقع السياسي هو الذي سيؤثر بشكلٍ كبير ومباشر على الواقع الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي.

فكما هو واضح من خلال الأزمة الراهنة في سوريا على سبيل المثال فأن السلوك السياسي للسلطة الحاكمة هو الذي أدخل البلاد وشعبها في حربٍ كارثية وفتحت الابواب أمام تدخل القوى الخارجية التي تستغل الفوضى وعدم التوازن بين المجتمع والنظام الحاكم “الحكومة”، التي غالياً ما تنتهج أسلوب الحسم العسكري لحل الخلافات السياسية التي يمكن إرجاع خلفياتها إلى القضايا الاجتماعية والثقافية الخلافية مستغلة السلطات التي تمتلكها.

التعدد الثقافي:

المجتمع السوري مجتمع متعدد اللغات والأديان وأنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي مجتمع متعدد الثقافات. هذا التعدد الثقافي يشكل العقبة الكبرى أمام حالة السلطة الفردية التي تعتمد في أساسها على فرض هوية واحدة على كل الهويات الأخرى وهذه الهوية ليست متعلقة بالمجتمع بالرغم من صياغتها على أنها هوية الأكثرية،

إن الاحترام المتبادل لكل الهويات يرسخ الهوية الوطنية وبالتالي يعزز من مفهوم الانتماء وينبي لاستقرارٍ مستدام، والعكس ينجم عنه بالضرورة غياب الاستقرار الذي يؤمن التعايش بين مكونات الدولة المختلفة.

 بالطبع الاختلاف لا يعني الخلاف فهناك قضايا اختلافية بين السوريين  في المجال الثقافي، وهذا أمر طبيعي، كموضوع اللغة او اللغات الرسمية، وموضوع هوية الدولة، والتوازن الطائفي، ودور المؤسسة الدينية في الدولة الديمقراطية-المدنية، وطبيعة القوانين التي تحكم الأحوال الشخصية في المجتمع وغيرها من القضايا، ولابد أن تبحث هذه القضايا على مائدة تفاوض مفتوحة، بعيدًا عن عقلية الهيمنة، والتسلط، والوصاية، لأن ذلك ينافي أسس الدولة المدنية الديمقراطية المتعددة الثقافات.

فالحوار بين الثقافات يؤدى بالنتيجة الى تلاقح الثقافات، ولم تتح للمجتمع السوري فضاءات حرة وديمقراطية للحوار بين المكونات التي تنتمي إلى مختلف الثقافات، للوصول الى ثقافة وطنية سورية ديمقراطية تقر بالتعدد وتحترمه، وتتيح له كافة المجالات للنماء والازدهار، بعيدًا عن القمع والهيمنة والتسلط بحجة الحفاظ على الدولة ووحدتها، والتي كانت نتيجتها هيمنة نهج وتفكير ثقافي معين لا يمنح الآخرين الطمأنينة، كما لا يمنحهم الإحساس بأنهم شركاء في وطن أساس التعامل فيه المواطنة، ويحترم فيه التعدد. باختصار السلام يحتاج إلى بيئة سليمة يتوفر فيها الحرية والعدل والمساواة واحترام التعدد بكافة أشكاله، وأن أي مشروع للسلام ينجح وتكتب له الديمومة كلما كانت أسسه وبيئته سليمة.

زر الذهاب إلى الأعلى