ثقافةمانشيت

في روج آفا: (ماموستا، ملفونو، والأُستاذ) يعلّمون طلابهم باللغة الأم

تُعدُّ اللغة من الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها قطعاً، حياةٌ بلا لغة هي حياة دون تواصل، فاللغة لطالما كانت عبر الأزمنة والعصور أداة الاتصال والتواصل بين الناس، الرابط بين أبناء الشعب الواحد والجسر الواصل بين الشعوب، يتم بها التخاطب والانفتاح على الثقافات، وعبرها تتطور المجتمعات، والحفاظ عليها مساهمةٌ فعّالة في حماية الميراث الثقافي لدى الأمم والشعوب.

اللغة هي الأم بعينها، وهي كينونة الفكر لدى الإنسان كما الأم التي هي كينونة الوجود أو سببه لدى الإنسان، إن طورتَ لغة  الإنسان طورتَ فكره، وفي عصرنا هذا بات الإنسان بحاحة ماسة إلى التطوير الفكري لمجابهة المخاطر الكثيرة المحدقة به والتي تستهدف كيانه المعنوي وتحط من مكانته ومبادئه. لذلك لابد من تعلم الإنسان بلغته الأم ومن حقه الطبيعي هذا الأمر.

نظراً لغنى روج آفا المكوناتي، وانطلاقاً من ضرورة التعلم بلغة الأم اعتمدت الإدارة الذاتية الديمقراطية التي تم الإعلان عنها في كانون الثاني 2014 ثلاث لغات رئيسية (الكردية، العربية والسريانية) نسبة إلى المكونات الثلاث الرئيسية المتعايشة معاً على أرض روج آفا، وبناء على ذلك فإنه يتم إعداد المناهج باللغات الثلاث المذكورة، ولتسليط الضوء على هذا الأمر أعددنا في صحيفة الاتحاد الديمقراطي التقرير التالي الذي يتناول أهمية كل لغة وذلك بلسان المختصين بها من أبنائها وأهمية التعليم باللغة الأم ناهيك عن كيفية إعداد المناهج باللغات الثلاث الرئيسية في روج آفا،

وفي هذا الصدد يقول عبد الستار خليل عضو إدارة مؤسسة المناهج- المختص بإعداد منهاج اللغة الكردية بأن اللغة الكردية هي لغة غنية وثرية بالمفردات المعبرة تعرضت لضغوط هائلة بهدف اضمحلالها وزوالها إلا أنها بقيت على مدار آلاف السنين، ولم تتأثر مثلما الكثير من اللغات التي انحلت بفعل السياسات الممارسة ضدها، وبحسب المنظمات العالمية التي تعنى بشؤون اللغات فإن اللغة الكردية من اللغات الأصيلة والقوية في العالم والذين يتقنونها ويحيونها يساهمون في تطويرها أكثر، وهذا ما يدفعنا للسعي في جعل اللغة الكردية لغة علمية لا أن تبقى لغة مجتمعية وتقتصر على التحدث فقط، ولكونها لغة علمية يُمد بعمرها وتبتعد عن الزوال والضعف، لذلك نود إحياءها عبر المناهج.

ويضيف: ” مثلما نعلم أن لكل مجتمع أصل ومن حق أبناء هذا المجتمع التفكير والتعلم بلغتهم الأم، ونجد في مؤسسة المناهج من حق كل المكونات التعلم بلغتهم الأصلية، وقد منحتهم الإدارة الذاتية الديمقراطية هذا الحق بعدما حُرموا منه في ظل النظام البعثي، كما أننا في التربية والتعليم نسعى لبناء ذهنية جديدة للأجيال الجديدة لتأدية ما يقع على عاتقهم في المستقبل بجدية ليكونوا مسؤولين عن مجتمعهم والتعايش بسلام مع الآخر مهما كان دينه وفكره وتكوينه، في مجتمع ديمقراطي، انطلاقاً من قيمنا المجتمعية التي تربطنا ببعض أكثر مما تفرقنا، ونسعى لبناء جيل مبدع وخلاق”.

ويواصل ماموستا عبدالستار حديثه بالقول: “في مؤسسة المناهج تُعتمد ثلاث لغات رسمية وهي (الكردية، العربية والسريانية) نحن نعد مناهجنا حسب أسس القبول والاحترام لما لهذه الكلمة من معنى، ونستند إلى فكر الإدارة الذاتية والأمة الديمقراطية، ونؤمن بضرورة التعلم باللغة الأم ونعتبرها أساساً إلا أن ذلك غير كافٍ فلابد من أن يتم تدريس العادات والتقاليد والقيم المجتمعية إلى جانبها”.

 وبالحديث عما وصلوا إليه من إعداد المناهج يقول ماموستا عبدالستار:

انتهينا من إعداد الكتب من الصف التحضيري حتى الثاني عشر، ولعل نقص عدد الكوادر لإعداد هذه المناهج أبرز المعوقات التي اعترضتنا ناهيك عن الجانب التقني الذي نسعى إلى تجاوز نواقصه، وإخراج منهاج متقدم تقنياً.

وبدوره قال مكسب الصياح عضو إدارة مؤسسة المناهج– المختص بإعداد المناهج باللغة العربية في بداية حديثه بأنها من أهم اللغات على مستوى العالم، فهي أكثر اللغات غنى بالمفردات حيث تمتلك أكثر من 16 ألف جذر، وتتصدر بذلك كل اللغات العالمية كما وتحتل المرتبة الخامسة عالمياً ناهيك عن جانبها الروحي لكونها لغة القرآن الكريم، إضافة إلى أنها إحدى اللغات الست في الأمم المتحدة، ولعل الخصوصية المطلقة للغة العربية كونها لغة الضاد، هذا بشكل مختصر بأن الحديث عن اللغة العربية وجمالها وتأثير وقعها على الأسماء يحتاج إلى فترة طويلة من الشرح.

وقال مكسب الصياح رداً على سؤال بخصوص عما وصلوا إليه في مؤسسة إعداد المناهج قائلاً:  أنهينا المنهاج ابتداءً من التحضيري وحتى الثاني عشر، إلا أن هنالك الكثير من الصعوبات والمعوقات التي تعترضنا وتتجلى في ندرة المصادر والمراجع التي تتناول الأحداث الموغلة في القدم بشكل حيادي بعيداً عن الانتماءات أو الميول أو التوجيه الفكري الممنهج وكذلك السعي الجاد من قبل أعداء الفكر الحر في تشويه صورة المنهاج وبث الدعايات السيئة عنه لإفشال هذه الخطوة الجريئة باتجاه الفكر الديمقراطي الحر، أما خططنا المستقبلية فهي تطوير المنهاج ومواكبة التطور العلمي الهائل في كافة المجالات مع الحفاظ على خصوصيتنا ومراعاة الظروف الصعبة التي عاشها مجتمعنا وخصوصاً أطفالنا والعمل على تهيئتهم نفسياً والخروج من آثار الحروب النفسية وتجنيبهم تبعاتها لأنهم أمل المستقبل.

وحول الانطباع الذي يتركه اعتماد ثلاث لغات رسمية في روج آفا على الإدارة الذاتية الديمقراطية، يقول الاستاذ مكسب الصياح بأن هكذا مشروع يعتبر خطوة رائدة في الشرق الأوسط فهو ثورة على الروتين الفكري المتبع منذ مئات السنين، وهو دعوة حضارية لإبراز ثقافة الشعوب وهوياتها والحفاظ على خصوصياتها وعدم المساس بالغير وجعل الاختلاف الثقافي أو العرقي أو اللغوي ميزة لشعوب شمال وشرق سوريا وهي صرخة حق للعالم فحواها الحفاظ على جميع الثقافات وتنظيم علاقات المجتمع بالعدل والمساواة قولاً وعملاً، يكفينا ما عانيناه من التهميش والتقسيم الفكري والعقائدي وحتى المذهبي، آن الأوان لبزوغ فجر سوريا الجديد، سوريا تعددية موحدة، سوريا يتساوى فيها الجميع وتأخذ فيها المرأة دورها الريادي الذي تستحقه وحريتها ضمن القيم الأخلاقية التي يتمتع بها مجتمعنا.

أما ملفونو جالينوس يوسف عيسى، مدير معهد أورهي ومؤسسة أولف تاو لإعداد المعلمين ومناهج اللغة السريانية في الإدارة الذاتية الديمقراطية فيبدأ حديثه بشرح كلمة (ملفونو) التي تعني (استاذ) باللغة العربية وأن (أولف تاو) تعني (من الألف للياء) حيث أن أول حرف باللغة السريانية هي أولف وتاو هي آخر حرف.

ويتابع: “أهمية اللغة السريانية تأتي من أنها لغة أصيلة في سوريا”، ويرى ملفونو جالينوس أن “كلمة سوريا تعني أن الشعب الأصيل الذي عاش في هذه المنطقة هم السريان” ويضيف: “كان لدينا مجموعة من الجامعات هنا بجبال تركيا التي كانت سوريا الطبيعية منها جامعة أورهي التي كان يدرس فيها جميع العلوم من الطب البشري والتاريخ والفلك والعلوم و… كان مدرسنا الأول يسمى مار أفرام السرياني الذي كان استاذاً جامعياً، والناس كانوا يقصدون هذه الجامعة حتى يتحدثوا السريانية التي كانت لغة هذه المنطقة”.

ويتابع ملفونو جالينوس: “هنا تكمن أهمية اللغة السريانية التي اشتقت منها اللغة العربية، ولدينا كتب كثيرة تثبت أن كلمات عربية عديدة موجودة باللغة السريانية والقرآن يحوي بعض الكلمات التي لا أصل لها إلا في اللغة السريانية مثل (طور وحور) وكلمات أخرى عديدة”.

ويضيف جالينوس عيسى عن اللغة السريانية في ظل الإدارة الذاتية الديمقراطية فيقول: “لكي تصل إلى جميع الأبناء بشكل صحيح وقواعدي سليم ليس كما كانت موجودة في الأنظمة القديمة لم يسمح لنا بتدريس لغتنا السريانية إلا كلغة طقسية في المدارس، لغة لا يتم الاهتمام بها مثل اللغات الأخرى، اعتمدت الإدارة الذاتية ثلاث لغات رسمية منها السريانية إلى جانب  الكردية والعربية، بغية تدريس الأجيال ثقافتهم بشكل صحيح غير مشَّوه، وكذلك تدريس التاريخ السرياني والكردي والعربي كلٌ حسب تاريخه، ثقافاته، فلكلوره، أغانيه، رقصاته، أكلاته وطريقة معيشته، ليعبر كل مكون عن نفسه بالشكل الصحيح”.

وأشر إلى أنه: “عبر مؤسسة أولف تاو التي تشرف على المعاهد وإعداد المناهج بدأنا في 2016 والبداية كانت من مجموعة من الكوادر الملمة والقادرة على تدريس اللغة السريانية سواء في المعاهد أو المدارس، كما تم إنشاء معهد أورهى لإعداد المعلمين السريان في 2016 وذلك برعاية هيئة التربية وتم تخريج مجموعة من المعلمين منها، ليباشر أول معلم سرياني في الإدارة الذاتية بعد سنة، كما قمنا بتخريج معلمين من المكون السرياني والكردي والعربي يتحدثون السريانية ويعلمونها، وقد أوْلَتْ هيئة التربية والتعليم الاهتمام للمعهد بشكل أكبر هذه السنة، ونحن حالياً نقوم بإعداد الكتب باللغة السريانية، حيث أعددنا المناهج حتى الصف التاسع بالنسخة القديمة والتي انتهت العام الماضي أما النسخة الجديدة أصبحت بمتناول أيدي الطلاب بأغلفة موحدة وتصحيحات كثيرة تزامناً مع المناهج باللغتين العربية والكردية وتوزيعها على المدارس الخاصة بالطائفة السريانية وليتم تدريسها للطلاب، وتضم هذه الكتب اللغة والرياضيات لصفوف التحضيري، أما كتب الصف الأول تضم (القراءة، الرياضيات، الرسم، الموسيقا) ويضاف إليها في الصف الثاني (كتاب المجتمع والحياة) ليبدل في الصف السادس فصل المواد والكتب عن بعضها.

ويخص ملفونو جالينوس بالإشارة خلال حديثه إلى كتب الموسيقا فيقول: “تتناول الموسيقا السريانية، يقوم بإعدادها من الصف الأول حتى التاسع مختص بالموسيقا السريانية وهو عضو في معهد أورهي، وقد ألف كتباً للموسيقا السريانية وتعليم النوطة وتتضمن الألحان والأناشيد السريانية وهي كتب أكاديمية، تتضمن شرحاً مع رسومات وتمارين بسيطة على النوطة والتمرين على الأورك والبيانو. يتم حالياً ترجمتها للعربية والكردية لتدريسها لطلاب المكونين أيضاً.

ونوَّه ملفونو جالينوس إلى أن القانون العالمي يلزم بضرورة تعلم الطالب لغته الأم في السنوات الثلاث الأولى من الدراسة، وهنا في سوريا هذا الأمر لم يكن مطبقاً، كنا فقط نتحدث بلغتنا الأم ضمن العائلة، ونحن الآن نسعى للتعليم الأكاديمي بأن يدّرس الطفل بلغة سليمة قواعدياً، بلغته الصافية دون دخول كلمات غريبة عليها كما كان في السابق.

ويؤكد ملفونو جالينوس على أن الشعب الذي لا يتكلم بلغته ليس له وجود، وتدريسهم بلغتهم الأم هو لإحياء شعبهم، بعدما أثّر التعريب على اللغة بإدخال المفردات العربية إلى اللغة السريانية وإهمالها.

وسيراً نحو التطور واقتداءً بالنماذج المتطورة في التعليم بأوروبا وخصوصاً بسويسرا وكذلك تجنباً لمشاكل مستقبلية من الممكن أن تحدث اقترح ملفونو جالينوس أن يلزم الطالب في الصف الرابع والخامس والسادس تعلم اللغات الثلاث، ويرى هذا الأمر غير صعب على الطفل لأن باستطاعته استيعاب 10 لغات على حِدَةٍ؛ مختتماً حديثه بالقول: كي لا نقع في مغبة عدم الدراية باللغات الثلاث الرئيسية مستشهداً بنموذج سويسرا التي يتم فيها تدريس عدة لغات يتقنها الجميع ويفهمون على بعضهم البعض”.

إعداد: سيدار رمو

زر الذهاب إلى الأعلى