مقالات

قوى روج آفا وشمال شرق سوريا حقيقة قيمية ومبدئية تأصَّلت في الضمير والوجدان العالمي

كثيرة هي مقومات النصر في روج آفا وشمال شرق سوريا وربما تعد أكثرها رسوخا على الإطلاق هي الحقيقة التي تجسدت في التكوين القيمي والمبدئي لوحدات حماية الشعب والمرأة التي تشكل نواة قوات سوريا الديمقراطية؛ فكما أن الشمس والأرض والمطر… هي حقائق كونية؛ فإن فلسفة وفكر وأيديولوجية الإدارة الذاتية أصبحت حقيقة  قِيَميَّة ومبدئية ووجدانية تأصلت في الضمير العالمي الذي بات يعي أن الحرية الحقيقية موجودة فقط في هذا الموزاييك الثقافي المتنوع في شمال وشرق سوريا وربما يمكننا الجزم بأن الوعي الشعبي على المستوى العالمي بات يرى في الحقيقة المجتمعية الموجودة  في روج آفا وشمال وشرق سوريا بمثابة  مرآة تعكس الأنا العليا الداخلية لديهم، والتي لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ، مع الابتعاد الكامل عن جميع الأفعال اللاأخلاقية والشهوانية أو الغرائزية والمنفعية، والذي يتمثل في واقعنا المعاش بصحوة واستيقاظ الضمير العالمي على شعب بات يشكل وجوداً أخلاقيا وسياسياً في معادلة إحداث التغيير الديمقراطي  ليس ضمن الشرق الأوسط فحسب، ولكن تعداه إلى كافة أرجاء المعمورة.

قد يقول القارئ أن كاتب المقال يبالغ في وصف واقع روج آفا وشمال شرق سوريا وتجربتها الديمقراطية، وقد يُقال أيضاً بأنه أغدق على هذا الواقع بالكماليات والأوصاف المثالية, لكن حين تتبع مسيرة هذه التجربة الملحمية وحجم التهديدات والتحديات التي واجهتها منذ إعلانها ستدرك تماماً أن طبيعة وتكوين هذه التجربة تُعدُّ بمثابة معجزة، خاصة ونحن نعيش في الشرق الأوسط الذي يعاني منذ قرون مضت من إشكالياتٍ جِسامٍ نخرت بنيته المجتمعية وانتجت هوَّةً بات من المستحيل ردمها بمجرد حلولٍ سطحيةٍ تجسدها مصالح ومنافع دولية وإقليمية، وهم بالأساس من ساهموا في هذه الهوَّة والإشكالية التي تعيشها مجتمعات الشرق الأوسط فبعد انقضاء مئة عام من اتفاقيات سايكس بيكو ولوزان وغيرها التي لم تجلب سوى الحروب والخراب والدمار ولم تغذِّ  سوى الحقد والطائفية والعنصرية والإرهاب عبر تشكيلها لدول قومية عنصرية ودينية طائفية خلقت وافرزت دكتاتوريات ومستبدين لم يجلبوا سوى القتل والسجون والإبادة والصهر والإنكار والاستعباد. كان لزاماً على هذه القوى والهيمنات العالمية أن تعيد تشكيل خارطة الشرق الأوسط بعد أن أصبحت نموذجها الأول قديماً وبات تشكل خطراً على مصالحهم ومنافعهم  ومن هنا روَّجُوا لمصطلحات الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وكان يلزمها آليات لإعادة تشكيل هذا الشرق والتي وجدت ضالتها في مصطلحات الفَوضى الخلاّقة والمتعمدة حيث الأرضية والزمان كانا ملائمين تماماً لذلك في دول ونُظُم الشرق الأوسط  لتسطيع من خلالها إدارة الأزمة وتعميقها وإعادة تشكيلها حسب مصالحها.

العالم أجمع بات يدرك أن تجربة الادارة الذاتية ولاحقاً الفيدرالية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا لم تعد فقط ممثلة بقوة تحارب الإرهاب العالمي أو مجرد بنية مجتمعية تبحث عن شرعنتها كمكافئة لقيامها بدحر الإرهاب، ولكنها استطاعت أن تخلق الحل الأمثل لمجمل قضايا الشرق الأوسط عبر نموذجها الديمقراطي المتمثل بالفيدرالية الديمقراطية عبر آليات الإدارة الذاتية على عكس مخططات قُوى الهيمنة التي أرادت هدم وتدمير كل شيء وتشكيل ما يناسب مقاس منافعها. كما أن المبادئ والقيم التي تبنتها الإدارة الذاتية والمتمثلة بفلسفة الأمة الديمقراطية الغنية بثقافاتها ومكوناتها وأديانها وطوائفها جعلت منها الحل الأمثل والبديل لكافة الحلول المفروضة خارجياً، وما شكّله العقد الاجتماعي لهذه التجربة المعاشة كانت بمثابة البديل والند الحقيقي لجميع مؤتمرات جنيف وصفقات سوتشي وأستانا التي لم تكن سوى بازارات لإطالة أمد المقتلة والمحرقة السورية .

وما يمكن تأكيده هنا أن حجم المواقف الدولية الرافضة لقرار أمريكا الأخير بالانسحاب من سوريا عبر تغريدة أطلقها الرئيس الامريكي ترامب كانت كافية لأثبات أن هذه التجربة تُعدُّ الأمل الوحيد المنبثق من عتمة الظلام المسدل على الشرق الأوسط؛ كما يمكن الجزم أن حجم التناقض والمواقف الرافضة في أروقة ومؤسسات الولايات المتحدة العسكرية منها والسياسية لم يترك المجال للشك بأن هذه التجربة بقِوَاها العسكرية والسياسية والمدنية تشكل الحقيقة الحيَّة لقوَّةٍ اثبتت وجودها وانتشلت العالم من الانحدار والانحطاط الأخلاقي نحو المادة والنفعية. كما أن الاستقالات التي تتالت من قيادات أعظم قوة في العالم كوزير الدفاع الأمريكي ماتيوس وممثل التحالف الدولي لمحاربة داعش مكغورك  و كيفن م سويني كبير موظفي وزارة الدفاع الأمريكية وغيرها من الاستقالات لهو إثباتٌ على أن الحقيقة التي اكتشفوها في روج آفا وشمال شرق سوريا تُعدُّ أعظم من جميع الصفقات التي تستند إليها المنافع والمصالح المادية، وأن عظمة القوى الموجودة في روج آفا  ومبادئها وقَيَمِها جعلت من هذه الشخصيات المؤثرة على القرار العالمي  تعيش في حالة من اهتزاز لوجدانها ومراجعة حتمية لذاتها لدرجة يمكن الاستشهاد بمقولاتهم كمرجع لصحوة الضمير العالمي كمقولة ماتيوس لجنوده في روج آفا وهو يغادر البنتاغون (اصمدوا ودافعوا عن حلفائكم وقِيَم أمتكم)

بكل تأكيد لم نُورد هذه الأمثلة لاستجرار العاطفة أو لإثبات صحة التجربة التي تعيشها مناطق روج آفا وشمال سوريا فهي أمست برهاناً حياً بفضل التضحيات العظيمة التي قدمتها سواء من الناحية المعنوية أو المادية أو من خلال الرقي الحضاري لمبادئها وقيمها التي بنيت عليها حيث يقول مُنظِّر وفيلسوف هذه الملحمة القيمية والوجدانية عبد الله اوجلان بهذا الصدد (إن التاريخ مخفي في يومنا ونحن مخفيون في بداية التاريخ )   أجل هي الحقيقة التي طالما أراد أعداء الانسانية والشعوب إخفاءها ومنعها من الظهور إلى النور والعلن وهي الآن تجسدت حقيقة حية بقيادة حركة التحرر الكردستانية من على ذُرى جبال كردستان لتمتد نحو روج آفا وشمال وشرق سوريا ولتشق طريقها نحو شرق أوسط يسع للجميع ويُبنى بالجميع. نعم قد تكون طريق الحرية طويلاً ووعرة لكنها ليست مستحيلة، ومهما كانت درجة الاستبداد والإرهاب والعنصرية المتجسدة بذهنيات الفاشية التركية ومثيلاتها فإن الشعوب ستبقى حيَّة وتَبني مسيرتها المقاومة بمزيد من الإصرار على الحرية والنصر.

 

زر الذهاب إلى الأعلى