مانشيتمقالات

في السيرة الذاتية؛ إرهاصات مبكرة عن شخصية تاريخية

محمد عيسى ــ

في اليوم الرابع من نيسان وفي العام التاسع والأربعين من القرن الماضي؛ يبصر النور في مدينة أورفا التركية مولود جديد إلى هذا العالم، عُرف باسم “عبد الله أوجلان”؛ نشأ في أسرة بسيطة وتعلم في سني دراسته الأولى في مدرسة أرمنية بقرية مجاورة، ومنذ لحظات طفولته الأولى بدأت تظهر عليه ملامح اهتمامات خاصة وسلوكيات اجتماعية وأخلاقية مميزة، كما برزت لديه مواهب أدبية وفكرية لافتة المحت إليها كتب السيرة التي تتبعت أخباره بقيام مدَرِّسِيه والمشرفين على تعليمه بتداول دفاتره و الموضوعات التي كان يكتبها بين زملائه كنموذج يُحتذى، بالإضافة إلى جوانب أخرى عديدة تتعلق بملامح تطور شخصيته ضمن عديد من الملاحظات والمؤشرات تفيد بأن إرهاصات مبكرة  تتحدث عن رجل قائد ومفكر ذي شأن في طريقه إلى التاريخ.

فالاهتمام بالشؤون الثقافية والأدبية والأداء المميز في هذا الحقل لم يكن الإشارة الأولى والوحيدة التي استوقفت الذين تواتروا على تدريسه ومتابعة تنشئته؛ بل ثمة ملاحظات ومحطات انعطاف كبرى ومواقف قد تفرَّدت أو تميزت بها شخصيته منذ نعومة أظفاره، وكان لها أثراً في رسم ملامح تفكيره وفي تحديد قواعد فلسفته اللاحقة، ويمكن إجمالها بالنقاط التالية:

أولاً ــ النزوع الإنساني واحترام نواميس الطبيعة والحياة؛ هذه الخصال التي تمثلت في عشقه في مستهل طفولته للنباتات والأشجار، وللعناية بتربية الحيوانات، وعدم التفريط أو رمي قِطع الخبز الصغيرة وخاصة حيث كان ينشد المتعة في العمل أثناء جني محصول القمح، واعتباره تلك الاهتمامات والأنشطة جوانب مقدسة وضرورية لاستمرار الحياة، هذا الميول والتخلقات التي كانت تتكرر في سلوكيات وخصال المتميزين في التاريخ الإنساني، حيث نجد مثيلاً لها في حياة الأنبياء والفلاسفة وقادة الرأي، ولا نعدم نظيرها  في حياة الرسول “محمد، والسيد  المسيح”.

ثانياً ــ التجرؤ على تحمل المسؤولية والمراجعة والتفكير من خارج الصندوق؛ حيث تقول سيرته إنه قد انتقل من قريته إلى قرية شقيقته ليعمل في أعمال الزراعة والحصاد بقصد كسب رزقه وتغطية نفقات دراسته بالاعتماد على نفسه وترفعاً عن سلبية الاعتماد على الغير، وإذا كان في ذلك التبني لنفسه يظهر عمق البنية الأخلاقية في سلوكه؛ فإنه في جانب القيم ومباني التفكير كان أشد حَزماً مع ما يجب أن يقره عقله، وما يجب أن تستقر عليه عقيدته.

فهو الذي نشأ على قيم بيئته الإسلامية المتدينة؛ اعتاد على ممارسة طقوس الصلاة وارتياد مجالس المتدينين ومخالطة جماعات محاربة الشيوعية في مراحل دراسته الأولى، وعند وصوله إلى الصف الثاني الثانوي ومع تطور فُرص اطِّلاعه على الأفكار والفلسفات التي تحاكي همومه ــ يسجل له ــ وبعد اطلاعه على كتاب أبجديات التفكير الاشتراكي الذي هو في الغالب البيان الشيوعي لماركس؛ فقد أطلق جملته الشهيرة: “لقد خسر محمد وربح ماركس” معلناً أعمق مراجعة لأفكاره، ومثبتاً انحيازه الفكري إلى صف التفسير المادي الجدلي  في فهم التاريخ؛ مما يشير إلى تأصل الذائقة النقدية المفكرة في تجربة  الشاب المثقف، والذي بدأ ينمو لديه نهم البحث عن المعرفة، وخاصية من يراجع في سلوك غريزة القطيع.

ثالثاً ــ تنامي حِس المسؤولية تجاه قضية شعبه “الشعب الكردي” والذي انغمس بالنضال من أجل نيل حقوقه، والنظر إلى قضيته كقضية شعب مضطهد، وقد آلمه كثيراً حالة الازدراء التي تعاملت به الدولة القومية في منطقة الشرق الأوسط مع حقوق الشعب الكردي    حيث اعتبرته جثة متفسخة لا تستحق أي اعتبار، وكان جلياً هذا الازدراء في سياسات الدولة القومية التركية والعربية وكذلك الفارسية على حد سواء؛ الأمر الذي وَلّدَ شعور النقمة عند الثوري الشاب وحب امتلاك القوة وانشاء الجيش للدفاع عن قضية شعبه وإقناع خصوم قضيته باللغة التي يفهمونها. هذه الميول التي تقول المتابعات إنها كانت ظاهرة في تفكيره مبكراً، وقد قيل إنه كان يرغب في أن يكون لديه جيشه أو أن يكون قائد   طيران.

رابعاً ــ عنايته بسيكولوجيا الإنسان الحر مع إعطاء أولوية لقضايا انعتاق وتثوير المرأة حيث كانت قضايا الحرية والديمقراطية هاجسه الأول ومحل قناعته الثابتة بأن المنجزات الحضارية والأخلاقية هي من فعل قوى الحرية والديمقراطية، وقد آلمه كثيراً واقع المرأة المستلب، ومنذ أن كان في طور الطفولة البريئة وهو الذي قد اعتاد أن يلعب في ساحة قريته مع رفيقته ابنة الجيران وباقي أطفال القرية “لعبة الصغار المعروفة”؛ فبعد غيابها عن القرية لفترة قصيرة وعودتها دعاها إلى معاودة اللعب معهم في ساحة القرية؛ لكن ما أثار حيرته واستياءه هو جوابها؛ “أنا لا أستطيع أن ألعب معكم بعد الآن؛ لأني قد أصبحت على ذمة رجل”… فما معنى أن تكون المرأة الصغيرة قد أصبحت على ذمة رجل، وما الذي يمنعها من متابعة اللعب وهي التي كانت قبل أيام قليلة تمارس هواية اللعب البريء؟

خامساً ــ نضج التجربة الفكرية والنضالية، وإذا كان كل ما تقدم؛ يمثل علامات على تبلور روائز أو إرهاصات تشي باكتمال تطلعات الشاب المناضل والمثقف الثائر إلى تصحيح العديد من المفاهيم والأفكار السائدة في مسائل الدولة والاقتصاد والأمة والمجتمع؛ فمن نافل القول إن قوى الشر والتعسف القومي الشوفيني التركي وضمن المؤامرة الدولية المعروفة قد نفذت مؤامرتها الشهيرة، وسَطَتْ على حرية المناضل أوجلان؛ ظناً منها بأنها في اعتقاله تكون قد أجهضت مشروعه النضالي الساعي لتحرير فئات المظلومين من دواعي القهر والظلم والتخلف، لكن حكم الزمن وقضاءه العادل  كان إلى صف “أوجلان” الذي نجح في إنضاج مشروعه المعرفي ونقله إلى أوسع  ساحة اهتمام متاحة؛ حيث يتزايد اتباع الطريق الأوجلانية في التفكير، ويزداد أداؤها.

وفي ذكرى ميلاد المفكر والفيلسوف الفذ؛ تقول تقارير مهتمة: إن تجربة الاعتقال لم تحد من نشاط الأوجلانية؛ بل زادت من حصيلتها لتصبح ضمن ما يزيد على أربعين ألف صفحة من أوراق البحث والتنظير الإبداعي الكفيل بإمالة الأرض تحت أقدام الجلادين الطغاة.

زر الذهاب إلى الأعلى