مانشيتمقالات

صدور العقد الاجتماعي وسط التطورات الساخنة في المنطقة ودوره في تنظيم المجتمع وإدارته

وليد حبش ــ

المجتمع هو عبارة عن مجموعة من العلاقات التي تؤمِّن للفرد الحياة الشريفة وبكرامة، وهو الوسط الذي يبنيه الإنسان بوعيه وعواطفه وأفكاره ليعيش مع الآخرين، وينشئ وينظم علاقات مادية ومعنوية معهم، وكذلك عُرِّف المجتمع بأنه عبارة عن مجموعة من الناس يقطنون رقعة جغرافية معينة تعيش سوية في شكل منظم، تربطهم شبكة من علاقات اجتماعية وثقافية ودينية وقواعد اجتماعية تسودها المحبة والوئام، ولهم طموحات واهتمامات مشتركة ومشكلاتٌ عامة يُعانون منها ويودون التخلص منها، ويشعرون بأنهم ينتمون إلى بعضهم البعض كعائلة واحدة ويتفاعلون فيما بينهم.

ويَرِدُ عن بعض الفلاسفة حول أهمية المجتمع، يعتقد أرسطو أن الإنسان بطبعه اجتماعي وبحاجة دائمة للعيش مع غيره، أما أفلاطون فيرى أن المجتمع والدولة هما من يتحكم بالفرد، ويؤكد على أهمية المسؤولية الاجتماعية في النطاق الاجتماعي، وركزت نظريته على الجماعة أكثر من الفرد على عكس أرسطو.

أهمية العقد الاجتماعي: العقد هو اتفاق بمثابة ميثاق وعهد توقعه مجموعة من الناس فيما بينهم بشأن ما يُلتزَم به ويُتفق عليه حسب ما جاء في متنه وحيثياته ولا يجوز مخالفته.

لأجل تكوين علاقات اجتماعية متينة فلا بد من عقد اجتماعي مكتوب ينظم العلاقات بين أفرادها وتدبير شؤونها ومتطلباتهم وحاجاتهم. فلا يمكن للمجتمعات البقاء إذا لم تتوفر قواعد تنظم شكل حياة الأفراد في صورتها العامة، وطبيعة الواجبات المفروضة عليهم تجاه أنفسهم والآخرين وعناصر البيئة التي يعيشون فيها وطبيعة حقوقهم وإلا أصبحت تلك التجمعات البشرية مجرد فكرة عبثية ليس لها دور وأهمية، حيث تضع المجالس السياسية أو برلمانات الدول الوجه القانوني الرسمي في القوانين والدساتير في المجتمعات لتنظيم الحياة فيها حسب مصالح السلطة الحاكمة ولأجل حماية نظامها لا غير.

ما هو العقد الاجتماعي: يقول الخبير الاقتصادي “شانتا ديفاراجان”: العقد الاجتماعي هو (فكرة تعود إلى الإغريق القدماء، ويقصد بها الاتفاق الضمني بين أفراد المجتمع حول تحديد علاقاتهم مع بعضهم البعض ومع الدولة التي يعيشون فيها). وجاء في معجم المعاني الإلكتروني بأنه (جملة الاتفاقات الأساسية في الحياة الاجتماعية وبمقتضاه يضع الإنسان نفسه وقواه تحت إرادة المجتمع)، أما الفلاسفة فقد فسروها كالتالي (هو نظرية تَبلوَرَ في عصر التنوير وتُنادي بأن الأفراد يتبنون بشكل ضمني أو صريح أن يتخلوا عن بعض حرياتهم ويخضعوا لسلطة الحاكم أو “لقرار الأغلبية” مقابل حماية بقية حقوقهم.

إن العلاقة بين الحقوق الطبيعية والشرعية هي في العادة مبحث من مباحث نظرية “العقد الاجتماعي” وقد أخذ المصطلح اسمه من كتاب “العقد الاجتماعي لـ “جان جاك روسو”. يقول “توماس هوبز”: إن الحكومة ليست طرفاً في العقد الأصلي وإن المواطنين ليسوا ملزمين بالخضوع إلى الحكومة، ويرى آخرون أنه عندما تفشل الحكومة في تأمين أهم احتياجات المجتمع وكما يسميه روسو “الإرادة العامة”، يمكن للمواطنين حينها أن يمتنعوا عن طاعة الحكومة.

ويقول “جون لوك”: بأن الحقوق الطبيعية غير قابلة للمصادرة، بينما آمن “روسو” بأن الديمقراطية “الحكم الذاتي” هو الطريق الأمثل لضمان الرفاهية مع إبقاء الحرية الفردية خاضعة لحكم القانون. يرى “هوبز” في الأصول الاجتماعية البشرية بأن المجتمع سينهار باتجاه “حرب الجميع ضد الجميع” دون وجود حكومة قوية، إذاً يرى “هوبز” أنه من المستحيل تشكيل المجتمع قبل تأسيس الدولة، لكن يشير المفكر “أوجلان” أن الدولة لم تظهر إلَّا بعد فترة طويلة من تطور الإنسان العاقل، بينما عاشت المجتمعات (الكلان) لملايين السنين في المجتمع الطبيعي الذي قادته المرأة دون وجود السلطة أو الدولة، ودون ظهور أزمات ومشاكل، وكان تاريخ السلطة تشوبه الكثير من الجماعات المناهضة والتي ابتعدت عن المدنية لتعيش بحرية كـ (العشائر والقبائل والحركات الدينية والمذهبية والفلسفية) وذلك ضمن عقد اجتماعي شفهي مُعترَف به. ويناقش عالِم الإنسان اللَّاسلطوي “بير كلاسر” فكرة مناقضة لفكرة “هوبز” تماماً فيرى أن الدولة والمجتمع متنافرين بصورة متبادلة، فالمجتمع الحقيقي يكافح دائماً للانتصار على الدولة.

في ميثاق العقد الاجتماعي الصادر حديثاً (من قِبَل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية) تظهر الإرادة الحرة للشعوب لتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية وفق مبدأ العدالة والمساواة دون تمييز على أساس العرق والدين أو العقيدة أو المذهب أو الجنس، بهدف البلوغ بالنسيج السياسي للمجتمع الديمقراطي الذي يعيش ضمن الإقليم إلى وظيفته المتمثلة بالتفاهم المتبادل والعيش المشترك وفق التعددية، واحترام مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وضمان حقوق المرأة والطفل والمسن، وتأمين الحماية الذاتية والدفاعية المشروعة واحترام حرية الدين والمعتقد.

لماذا (العقد الاجتماعي) بديلاً عن قانون الدولة؟

إن القوانين التي تضعها السلطات الحاكمة هي بمثابة مواد تُقيِّد الأفراد والمجتمعات بضوابط لتحمي نفسها (أي الطبقة الحاكمة) منهم، وكلما زادت موادها كلما فُرضت قيود أكثر على حريتهم، وليس كما تدَّعي تلك السلطات أنها لتنظيم المجتمع وتسيير أمورهم وتخليصهم من الفوضى. يقول المفكر “أوجلان” في مرافعته الخامسة ضمن سلسلة مانيفيستو الحضارة الديمقراطية: (إن الوظيفة الأولية للقانون هي زيادة سلطة الدولة، وبالتالي تُحجِّم الميدان الاجتماعي أكثر فأكثر، وتعرية ذاك المجتمع من الأخلاق، وهي لا تمثل قوة الحق والعدل، بل تعكس مصالح واحتكارات القمع والاستغلال المشفرة بانتظام؛ القانون هي أداة الشرعنة الأساسية للحداثة الرأسمالية، فهي تقوم بمواراة الباطل باسم الحق وإخفاء الرياء باسم الواقع الاجتماعي، وحجب تكبيل الحياة باسم الحياة المضبَّطَّة، المهم هنا هو عدم التخلي عن دور الأخلاق المضمَّنَة بالقانون في حماية المجتمع وتأمين سيرورته، كما استرداد القدرة على الإدارة المجتمعية المضمنة بالسلطة).

إن مضمون العقد الاجتماعي هو مجموعة من المواد مبنية على أسس أخلاقية، والتي يتفق عليها الناس من أجل تنظيم مجتمعهم بالشكل الأمثل بعيداً عن الفوضى أو الاختراقات ولتوفير حياة آمنة وسالمة وعادلة للجميع، وكما يوضح العقد ويحدد حقوق وواجبات كل فرد من أفراد هذا المجتمع على حد سواء.

ولأجل تنظيم المجتمع والعلاقات والحقوق بين كافة فئاته (المرأة، الشبيبة، الأطفال، العمال والكادحين، المثقفين…)، ولتسهيل تأمين أمورهم المعيشية لابد من إبرام عقد فيما بينهم يسيروا عليه، أما اليوم كان لابد من عقدٍ اجتماعي متفق عليه بين كافة المكونات، نتيجة انهيار وتفسخ المجتمع تحت ضربات الإيديولوجية الرأسمالية (الليبرالية الحرة) والتي لا تجد فيها الأخلاق بل المصالح الشخصية والآنية. ونتيجة الظروف التي خلقتها الحرب في سوريا، وغياب إدارة الدولة (والتي هي بالأصل نتيجة سياستها أوصلت البلاد إلى حالة يرثى لها) وانشغالها بالمحافظة على الحكم، فقد جاء في ديباجة العقد (نحن شعوب شمال وشرق سوريا عانينا من الأنظمة اللَّاديمقراطية المتعاقبة في سوريا ومن سياسات آلاف السنين من المركزية الدولتية والسلطوية، وأيضاً من ممارسات الحداثة الرأسمالية المهيمنة على المنطقة، تعرضنا لكل أنواع الظلم والقمع خلال سنين طويلة. عقدنا العزم من خلال تأسيسنا لنظام ديمقراطي يعتمد على الإدارات الذاتية الديمقراطية وعلى تحقيق العدالة والمساواة بين كل الشعوب والمكونات، والمحافظة على كل الهويات الثقافية والدينية والعقائدية، ونشر ثقافة التنوع والتسامح، ونبذ كل أنواع العنف واتخاذ مبدأ الدفاع المشروع أساساً). ولأجل تنظيم حياة مجتمعاتنا في الوضع السوري المتأزم، فلابد من إعادة بناء المجتمع من خلال أصغر تجمعاته، يمكن أن نطلق عليها اليوم في نظام الإدارة الذاتية الديمقراطية الـ (كومين)، حيث يُعَرَّف الكومين (حسب الكُتَيِّب الصادر عن مؤسسة العلم والفكر الحر) بأنه:(مؤسسة اجتماعية اقتصادية سياسية خدمية, تُؤسَّس على مبدأ الديمقراطية المباشرة وحرية المرأة، وينظم نفسه بعيداً عن السلطة، بغية الوصول إلى مجتمع أخلاقي وسياسي؛ وهي أصغر وحدة اجتماعية في المجتمع وأكثرها فعالية، لتنظيم ومعالجة الأمور اليومية والمعيشية للمجتمع، وذلك عن طريق لجان مختصة بذلك وتحكم بكل القضايا المجتمعية، وتسعى لبناء الديمقراطية الاجتماعية والتعايش المشترك بين جميع المكونات والشرائح الاجتماعية وجميع الثقافات والأديان، وتتخذ القرارات المتعلقة بحدود جغرافيتها، وتشكل مجلسها التنفيذي بمثابة (حكومة مصغرة) وتكون تحت الرقابة الشعبية، فلابد من تنظيم جميع السكان، ويظهر في العقد الاجتماعي أنه لكافة مقاطعات الإدارة الذاتية الديمقراطية الحق في إدارة شؤونها المحلية وتشكيل إدارتها ومجالسها بإرادتها الحرة، وتمارس كافة الحقوق بما لا يتعارض مع مواد العقد الاجتماعي لمناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، لذا نرى أنه لا بد من كتابة عقد اجتماعي يسودها الثقافة والقيم والمثل والأخلاق المجتمعية التي كسبتها عبر صراع آلاف السنين وبقائه لليوم، وينظم شؤون الناس وتعاملهم معاً لما فيه خيرٌ للجميع، ويدير أمورهم بالشكل الأمثل ليكون بمثابة دستور (مجتمعي لا دولتي) وبروح عصرانية ديمقراطية، تضاهي أنظمة الدول المكوَّنة على أسس فدرالية وكذلك المدعية للديمقراطية الشكلية، وهي أساس البناء لوحدة واتحاد شعوب ومكونات الوطن الحر والذي هو مشترك للجميع، وعلى عكس ما يثيره المغرضون من أتباع الأنظمة القوموية السلطوية أنه دعوة للانفصال أو التقسيم، فقد جاء في الديباجة: (الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا جزء لا يتجزأ من سوريا، وبما أسسته من نظام ديمقراطي، وما خلفته من قيم مشتركة ومن خلال ما أبدته من مواقف سياسية خلال السنوات الماضية شكلت أرضية قوية للوحدة الحقيقية، لتصبح بذلك أساساً لبناء جمهورية سوريا الديمقراطية. نحن شعوب شمال وشرق سوريا بكل مكوناتها وأطيافها قررنا بكامل الحرية والاختيار أن نكتب من منظومة القيم والإرث الحضاري الديمقراطي للشرق الأوسط والإنسانية جمعاء هذا العقد الاجتماعي إيماناً منا بأن يصبح ذلك ضماناً للحرية والسلام والوحدة بين السوريين). هذا وبالتأكيد على ذلك جاء في المادة الخامسة من العقد: (الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا جزء من جمهورية سوريا الديمقراطية). وجاء في المادة /120/ (يحدَّد شكل العلاقة في “جمهورية سوريا الديمقراطية” فيما بين الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا مع المركز والمناطق الأخرى على جميع المستويات وفق دستور ديمقراطي توافقي). إن الإعلان عن هذا العقد وكل ما جاء فيه يمكن النقاش عليه وتغييره والوصول لصيغ أخرى مع كافة الأطراف في الوطن السوري وبما فيه نظام الحكم الحالي أو الانتقالي، وفق المادة /2254/ من قرار الأمم المتحدة، وقد جاء في المادة /133/ (العقد قابل للتعديل في حال تم التوافق على دستور ديمقراطي في سوريا). إن هذا العقد بمثابة مَركَب نجاة وإنقاذ لكافة السوريين وذلك من خلال لملمة الجراح ورأب التصدعات التي أفرزتها الحرب الهوجاء والفوضى، ووضع حد للمعاناة ورسم عهد وميثاقٍ جديد لكافة السوريين للأخذ بالبلاد إلى بر الأمان.

زر الذهاب إلى الأعلى