مانشيتمقالات

تركيا وسوريا ما بين المصالحة والمناطحة

محمد أرسلان علي
تحولت موسكو بدلاً من سوتشي واستانا لمركز الاجتماعات السرية منها والمعلنة ما بين الأطراف الثلاث روسيا عراب المصالحة وبين تركيا وسوريا، مع عدم دعوة الطرف الثالث الغائب الحاضر ألا وهو ايران عن هذه الاجتماعات والتي عملت كل ما في وسعها لتأخير أي تفاهمات ما بين سوريا وتركيا، رغم الضغوطات الروسية، إلا أنها لعبة المصالح في الميدان السوري، الذي لا يمكن لأي طرف التفرد باتخاذ أي قرار فيها، من دون تفاهمات ما بين القوى المتنافسة والمتصارعة الدولية وأقصد أمريكا وروسيا التي أرادت بمفردها أن تنسج وتحيك تفاهمات وفق مصالحها وتقارب ما بين الخصمين تركيا وسوريا.
طبيعة علاقة الأصدقاء الفرقاء في الساحة السورية لا تمنح أي طرف رفاهية التحرك بانسيابية وكيفما يريد من دون تلبية مصالح الطرف الآخر، بسبب تعقد الارتباطات والعلاقات فيما بين نفس الأطراف المتصارعة. ايران التي لها اجنداتها الخاصة وتربطها مع النظام السوري علاقات عضوية بدأت منذ الأسد الأب ولا زالت مستمرة وتجذرت أكثر بعد الأزمة السورية، ودخول ايران بمستشارييها وفصائلها في المعترك السوري، كذلك روسيا التي تدخلت في سوريا وهي تحمل في جعبتها الحنين للعودة لمنابع النفط والبترول التي كانت تسيطر عليها قبل الأزمة، وبنفس الوقت لها أجنداتها وأطماعها الخاصة في التواجد في الرمال السورية وكذلك البحر المتوسط من خلال مرافئ سوريا، وهو موطئ القدم الأخير لها في المياه الدافئة. أجندات هاتين الدولتين تتقاطعان في بعض المناطق وتتنافسان في أخرى، وكلٌ يبحث عن مناطق نفوذ وهيمنة على حساب الآخر. ومن طرف آخر، تركيا التي تسعى لتنفيذ أجنداتها في استرجاع من فقدته إبّان الحرب العالمية الأولى من مناطق ومدن وإيالات وفق مفهومها العثماني والمستند إلى دستورها السري المسمى بـ “الميثاق المللي”، تعمل على السيطرة على الشمال السوري على أساس أنها تسترجع حقها بعد قرن من اتفاقيات فرضت عليها من قبل القوى والأطراف المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
سوريا البلد المضيف لهذه الأطراف الثلاث، والتي لا تحبذ وتستسيغ أياً منهما، لكن للضرورات أحكامها والتي تجبرها على النوم مع أعدائها ومنافسيها حتى عبور الجسر (الكوبري) وفق الثقافة المصرية. والمعتمدة السياسة الميكافيلية والأموية في أن السياسة هي مصالح والتي لا تسير إلا على درب المصالحة ومن بعدها المناطحة أو العكس، المناطحة هي بوابة المصالحة. ووفق هذه السياسة دائماً ما كان الشعب والمجتمع هو الضحية إن كان في المصالحة أو المناطحة.
فوفق منطق المستبدين والظالمين والطغاة لا عداوة دائمة في السياسة، بل المصالح هي الأساس، وإن كان ذلك بعد نهش أجساد بعضهم البعض، المهم هي المصالح ولتذهب كل ما قيل وقال إلى مزابل التاريخ، لأن الأساس هو البراغماتية وليس الأخلاق في حسابات الربح والخسارة عند المستبدين.
الارهابي والظالم والمستبد، صفات لطالما أطلقها السيد أردوغان على الأسد الابن وكذلك على زعماء عرب آخرين، لكنها المصالح التي أجبرت أردوغان نفسه كي يؤم ويحج ليستجدي عطف ورحمة وأموال هؤلاء المستبدين والظالمين والطغاة الذين وصفهم أردوغان ذات يوم وليتحولوا لأصدقاء وأخوة بجرة قلم وفلاش صورة التي أعمت بصيرته وبصيرتهم.
نعم إنها المصالح التي تفوقت على الأخلاق في زمن العهر السياسي الذي نعيشه والفوضى التي ضربت بسوطها المنطقة برمتها، والتي أجبرت الطغاة على الوقوف بجانب بعض لأخذ اللقطة والصورة وابتسامة التماسيح الخفيفة التي تخبئ وراءها الكثير من الحقد والكراهية والانتقام.
مناطحة استمرت لعقد من الزمن ما بين تركيا وسوريا، وحرق فيها الأخضر واليابس، ودمرت خلالها مدن وسرقت مصانع وهجر الملايين لاستخدامهم كورقة ابتزاز لجني الأموال وكذلك للانتخابات الصورية التي هي عنوان كافة المهرجانات والكرنفالات الدعائية الانتخابية في مشرقنا المتوسطي.
روسيا المتصالحة والخنوعة مع ذاتها تفرض على سوريا التصالح مع تركيا، مثلما هي أي روسيا تصالحت مع تركيا رغم مقتل سفيرها في تركيا أمام عدسات الكاميرا والتي تابعها العالم أجمع، وكذلك اسقاط تركيا لطائرة حربية روسية، والتي ظن الكثير أن الدب الروسي سوف يكشر عن أنيابه لينهش جسد أردوغان، لكنها المصالح التي أجبرت روسيا على اختيار المصالحة عن المناطحة مع السيد أردوغان، وفق سياسة البراغماتية الميكافيلية التي تهب رياحها الباردة من سيبيرياها والتي جعلت روسيا تتقرب ببرودة أعصاب أذهلت الجميع، والتي جعلت من تركيا ترضخ لبعض المتطلبات الروسية مما أدى لأن تستفيد منها روسيا بهدف جر تركيا لطرفها بعيداً عن انصياعها لحلف الناتو، كي لا يستخدم تركيا في أوكرانيا.
لكل طرف حساباته العلنية والخفية في تغيير الاصطفافات وفق أجنداته ومصالحه الآنية غير المستقرة في ساحة الرمال المتحركة السورية، وفق تعبير ترامب.
أمريكا من طرف والكرد من طرف آخر اللذين يراقبان محاولات روسيا للتقريب بين الخصمين سوريا وتركيا وايقاف المناطحة بينهما والمستمرة منذ عقد، والتي تُجبر الطرفين على المصالحة بهدف الاستقرار وعودة اللاجئين الآمنة لسوريا، حسب بيانات كل الأطراف المعنية بهذه المصالحة، ولكن ما خُفي من هذه المصالحة هو أعظم بكثير مما يُقال اعلامياً، ولربما كانت هذه المسرحية هي فقط للاستهلاك الانتخابي تركياُ أو رسائل للداخل السوري على أن الاوضاع تسير نحو التهدئة سورياً. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل الأطراف تتحضر للمناطحة ثانية بسبب اختلاف الأهداف من المصالحة بالنسبة لكل طرف.
امريكا التي أعلنت أنها ليست مع التطبيع مع النظام السوري وأنها أي امريكا ستفرض عقوبات على أي طرف يحاول التطبيع مع سوريا. وكذلك الكرد الذين أعلنوا انهم ضد هذا التطبيع الرخيص الذي يسعى إليه الطرفان لأنه بالأساس تتم هذه التفاهمات والمصالحة على حساب الكرد ومكتسباتهم وكذلك على الاستمرار في تهجير الكرد وافراغ مناطقهم من السكان الأصليين وتوطين الارهابيين والمرتزقة وعوائلهم مكانهم، وهو ما سيؤدي لنزاع ربما يدوم لقرن آخر.
النظام السوري المستعد للتصالح مع من نهب وسرق وهدم وأحرق سوريا أي تركيا، لكنه غير مستعد للتصالح مع التاريخ والجغرافيا والحقيقة الكردية. التصالح مع الذات هو الخطوة الأولى للتصالح الاخلاقي والسياسي مع الآخرين. وحينما يغيب التصالح مع الذات، لا يمكن الحديث مطلقاً عن سوريا واستقرار في سوريا والمنطقة عموماً. ولتبقى الفوضى مستمرة حتى حين. فحينما تتصالح تركيا مع كردها وكذلك سوريا وايران والعراق مع كردها، لن يبق هنالك أي قضايا لا يمكن حلها، ولكن إن استمر الطغاة في استكبارهم على شعوبهم ومجتمعاتهم ولم يتصالحوا مع ذواتهم، لعمري أن الفوضى ستستمر وستأتي أطراف أخرى تستغل هذه الورقة وتلعب بهذه الدول كيفما تشاء، وتتكرر المآسي والتراجيديا والمجازر لقرن آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى