تقاريرمانشيت

براديغما الحل في الفكر الأوجلاني

دوست ميرخان

يمر الشرق الأوسط بمرحلة صراعاتٍ وأزماتٍ وتعقيداتٍ بنيوية طالت كل الميادين السياسية والاقتصادية والأمنية وأثرت على شعوب المنطقة سلباً وإيجاباً وبشكلٍ مباشر على حقوق الإنسان وعلى السلم والاستقرار والأمن العالمي عموماً، وبشكلٍ متصاعد في المرحلة الراهنة حيث الصراع في أوج عنفه وانفعاله، وكما تعددت الأسباب التي أدت إلى نشوب هذه الصراعات والحروب تعدد الحلول لكن؛ هل كانت ناجعةً في حلحلة الأزمات وبتر أسباب الصراعات أي بمعنى هل لامس جذور القضايا والأزمات، وهل عبر عن رغبة وإرادة الشعوب التي تناضل وتكافح من أجل التحرر من نير الأنظمة الاستبدادية وسعيها للانتقال إلى نظامٍ يؤمن لهم سبل الحياة الحرة الكريمة، ألم تكن تلك الحلول سبباً في التطرف القومي والديني والطائفي، ألم تساهم في ترسيخ دعائم النظام الديكتاتوري في الشرق الأوسط عموماً…. العديد من التساؤلات التي يمكن طرحها في هذا السياق خاصة فيما يتعلق بأبعاد وبنية الصراع وبراديغما الحلول المطروحة في الشرق الأوسط عموماً وفي سوريا خصوصاً كونها محور الصراع والتنافس بين الدول الإقليمية والدولية.

من هنا فإن طرح بعض التساؤلات العريضة والتي لا تتحمل أكثر من إجابة واحدة قد تشكل مدخلاً للفهم الصحيح لأسباب الصراع وإبعاده، وبالتالي يمكننا بشكلٍ أو بأخر طرح مساهمة “براديغما الحل” مستلهمة من فكر القائد الأممي عبدالله أوجلان الذي قدم بهذا الخصوص وجهة نظره بشكلٍ نظري وعملي فيما يخص حل القضايا والأزمات التي يعيشها الشرق الأوسط عموماً وتركيا وسوريا خصوصاً، وهذا يفتح الباب على مصرعيه للبحث بشكلٍ صحيح عن حلٍ مختلف تماماً عن الحلول التي كانت سبباً في ديمومة الصراع واستفحاله، وباعتبار الأزمة السورية الراهنة محور الصراع في الشرق الأوسط سنحاول إلقاء الضوء على بنية الأزمة والصراع المستعر فيها والذي اتخذ طابعاً إقليمياً ودولياً، دينياً – مذهبياً – فكرياً وقومياً في أغلب مراحله، ومن ثم سننتقل لأوجه الحلول المطروحة سواء أكانت هذه الحلول داخلية أي بمعنى نابعة من القوى المجتمعية (منظمات المجتمع المدني، أحزاب وتيارات سياسية .. نظريات فكرية) أم خارجية تُفرض على المجتمع السوري وهي بطبيعة الحال لم ولن تساهم في تقديم حلٍ يخدم الشعب السوري طالما تُفرض من الخارج، وكمثال الحل المطروح من قبل جماعة الاخوان المسلمين والثلة القوموية التي تعمل تحت المظلة التركية وخير نموذج هذا الحل ما يجري في عفرين وإدلب وما جرى في المناطق التي انطلقت منها الانتفاضات الشعبية وما آلت إليها الأوضاع بتلك المناطق فيما بعد، والحال لا يختلف كثيراً عن الحل المطروح من قبل النظام السوري أو روسيا (العودة بسوريا إلى ما قبل 2011).

لكن ماذا بشأن نموذج الحل المطروح والمعمول به في شمال شرق البلاد والذي كان معمولاً به أيضاً في شمال غرب البلاد في عفرين والشهباء قبل أن تحتل الأولى من قبل الدولة التركية لتفرض عليها فيما بعد نموذجاً شبيهاً بالنموذج الذي فرضه تنظيم داعش الإرهابي على المناطق التي كانت تخضع لسطوة احتلاله.

الحل موجود لمن يريد حقاً البحث عنه والعمل به

إن بناء نظام اجتماعي سياسي ديمقراطي بحاجة إلى مشروع ديمقراطي وهيكلة جديدة لنظام وشكل الدولة والحكم في سوريا بعد أن ثُبِتَ فشل نظام الدولة القومية أو نموذج الحل القومي المستورد في تأسيس دولة ديمقراطية تعبر عن التنوع والتعددية في سوريا، وتؤمن للشعب الأمن والقوة والعدالة، كلنا نعلم بأن منطقة الشرق الأوسط ومن ضمنها سوريا كانت تدار بعقلية سلطوية بحتة وبأدوات استخباراتية عسكرية طالت جميع ميادين الحياة، وكيف أن هذه العقلية أخذت بالبلاد على حافة الهاوية.

لذا فالعودة إلى الحل السابق والوقوع بالحفرة مجدداً سيضاعف من حجم الكارثة وسيفتح الأبواب لصراعات جديدة أي خدمة القوى التي تتعاظم على حساب دماء الشعوب.

لكن ماذا بشأن الحل المجتمعي الديمقراطي التاريخي الذي عرفته سوريا والشرق الأوسط عموماً قبل آلاف السنين؟

لنجاح أي مشروع ديمقراطي يجب أن تتوفر نظرية فكرية مستمدة من التاريخ الإنساني، نظرية شاملة لكل الميادين الاجتماعية والثقافية الإدارية والسياسية تؤسس لثقافة ركيزتها روح التسامح وقبول الأخر والتعايش السلمي مع من نختلف معهم، نظرية لم تكتب لها الفشل والزوال على مر التاريخ الإنساني.

وعلى اعتبار أن منطقة الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً صاحبة إرث تاريخي كبير فهي بحاجة إلى هذه الرؤية الفكرية السليمة التي تُمكن السوريين من إدراك واقعهم المتأزم، وبما أن شعوب سوريا خاضوا مقاومات عظيمة على مرّ التاريخ ضد الظلم والقمع والتهميش بإمكانهم تبني هذا المشروع الديمقراطي والفكر المجتمعي الأكثر رحابة من أي منظومة فكرية هدفها السلطة والتسلط  كون التاريخ  لم يكن يوماً ملكاً ومسرحاً للحكام وللملوك وقوى الهيمنة، حقيقة إن من صنع التاريخ هي المقاومات الشعبية العريقة التي أكسبت البشرية قيماً معنوية ومادية كبيرة.

من هنا الاعتراف بفشل نموذج الدولة القومية وإفلاس المركزية والتفرد عبر التاريخ عموماً في الشرق الأوسط، وأن الشعوب اصبحت بحاجة ماسة إلى نظام سياسي “براديغما الحل الديمقراطي” بديل ينسجم مع التعددية يضمن الحقوق والحريات، وصون كل الهويات دون أقصاء وتهميش لأي منها غير ممكن من دون تبني مشروع الأمة الديمقراطية المرتكز على التعايش المشترك والسلمي بين كافة المكونات ولما فيه من احترام للإنسان بالمقام الأول ولهويته وانتمائه القومي والديني والمذهبي والفكري والثقافي ثانياً بعيداً عن التعصب والتشدد.

 ومن خلال هذا الفكر سيتحرر الكرد والعرب والسريان والتركمان…. وكل الشعوب والمكونات الدينية والعرقية التي قدمت الكثير في سبيل التخلص والتحرر من تلك القوقعة التي لم تجلب لهم سوى الدمار والفقر والهلاك والإفناء.

وكون الأنظمة الفاشية القوموية والدينيوية لم تجلب للشعوب وللإنسانية عموماً سوى المجازر والجرائم فأن مناهضة هذه الممارسات العدائية اللاإنسانية يقع على عاتق هؤلاء الذين يسعون بالفعل للتحرر، ويسعون إلى العيش بكرامة مع أقرانهم وجيرانهم ومحيطهم القريب والبعيد لذا فأن فكر الأمة الديمقراطية المستوحاة من مقاومات الشعوب عبر التاريخ هو فكرٌ مشبع بالقوة والإرادة وكفيل بإرساء الشعوب والمنطقة على برٍ من الأمان و الاستقرار والازدهار.

ثُبِتَ صحة فكر أوجلان كأنجح مشروع لحل الأزمة السورية كجزء لا يتجزأ من الأزمة التي تعيشها الشرق الأوسط عموماً:

لن نطيل في تحليل فكر الفيلسوف الأممي عبدالله أوجلان والمعتقل منذ عشرين عاماً في جزيرة إمرالي المعزولة في بحر إيجة وتحت حراسة مشددة ويُتخذ بحقه كل أشكال الضغط الفكري والسياسي ويُمارس عليه كل صنوف العزلة كَي يكُّف عن المطالبة بالسلام والديمقراطية وبالمقاومة الشعبية ضد الظلم والاستعباد ضد آلهة السلطة المقنعين والذين سقط أقنعتهم وكشف عن الستار عن شعارتهم ونظرياتهم السلطوية.

لعقودٍ وأوجلان متمسك بالسلام وبأن حل القضايا والأزمات الكبرى والصغرى في الشرق الأوسط ينطلق من المجتمع نفسه كون الشرق الأوسط مهد الحل والصراع ومنها أنطلق الفكر والسلطة إلى باقي أصقاع الأرض، لذا فان الثورة والتحولات التي تعيشها شمال شرق سوريا خصوصاً تختلف تماماً عن “الثورات” أو ما سمي بالربيع العربي سواءً في المناطق السورية الأخرى أو في الدول الاقليمية والعالم العربي عموماً، وكمثال على مانحن بصدده الحرب على الإرهاب وفكر الظلام، جميعنا شاهدنا كيف تحقق الانتصار على أكبر قوة إرهابية اجتاحت مدناً كبرى خلال أيام وبدعم مباشر وغير مباشر من ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو (أكبر توحد عسكري في العالم) وكيف أنها استطاعت اخضاع الكثير من البشر تحت حد سيفها، وأنها نشرت الرعب والدمار ليس فقط في سوريا والعراق ومصر وليبيا…، كذلك كيف تمكن شعوب شمال شرق سوريا من رصِّ صفوفهم وكيف أنهم استطاعوا أن يسدوا الفراغ السياسي والإداري بتأسيسهم لنظام سياسي إداري وكيف أنهم متمسكون بالسلام رغم كل ما تعرضوا له من قبل الإرهاب والنظام المتهالك وقوة الاحتلال التركي الداعم للإرهاب.

لا أحد يستطيع أنكار الجهود الكبيرة التي بذلتها وتبذلها الإدارة الذاتية الديمقراطية والتي تشكل ركيزة أساسية من ركائز فكر ومشروع الأمة الديمقراطية في سبيل الحوار بين كل المكونات السورية السياسية والمجتمعية على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية والثقافية لحل الأزمة في سوريا.

لذا فأن التحول الديمقراطي الذي يسعى إليه مكونات شمال شرق سوريا كنموذج سياسي إداري مجتمعي هو تكوين عالَم ذهني وثقافي مشترك يجمع كل السوريين تحت مظلة أمة واحدة وهي الأمة السورية أي الانتماء لسوريا أولاً وهي تختلف تماماً عن أمةَ الدولة أو السلطة السورية التي عرفناها، والتي لم تُمثل يوماً عموم المكونات السورية لا في دستورها ولا في قانونها ولا في اقتصادها ولا حتى بثقافتها وهي بطبيعتها تعبر عن احتكارات السلطة وتخضع كل الامكانات في سبيل خدمة ترسيخ وديمومة تلك الاحتكارات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وهي بذلك عكس الأمة الديمقراطية التي تُشكِل نموذج الأمة المُثلى للمجتمعات المتعددة الهادفةِ إلى الحريةِ والتعايش المشترك، والتي لا تكتفي بالشراكة السياسية والذهنية والثقافية فحسب، بل وتوحد كافة مُقوماتها في ظل المؤسسات الديمقراطيةِ التي تتميز بالاستقلالية في الإدارة التي تتخذ طابع المجتمع الكومونالي.

نموذج الأمة الديمقراطية “براديغما الحل الديمقراطي”

نموذج الأمةُ الديمقراطيةُ وباختصار شديد كما يقول أوجلان: “هو نموذجُ الأمةِ الذي يُعاني بأقلِّ قدرٍ من أمراضِ الدولة والسلطة. فهي لا تُقَدسُ إدارتَها، لأن الإدارةَ مُسَخرة في خدمةِ الحياةِ اليوميةِ كظاهرةٍ شفافة. والجميعُ مُؤَهلٌ لأنْ يَكُونَ موظفاً إدارياً، في حالِ تلبيتِه متطلباتِها ومقتضياتِها. أي أنّ الإدارةَ قَيِّمة، لكنها ليست مقدَّسة. ومفهومُ الهويةِ الوطنيةِ فيها منفتحةِ الأطراف، وليس كعضويةٍ أو عقيدةٍ دينيةٍ منغلقة. والانتماءُ إلى أمةٍ ما ليس امتيازاً ولا عَيباً، حيث يُمكن الانتماء إلى عدةِ أمم. أو بالأصح، قد تُعاشُ قومياتٌ مختلفةٌ متداخلة. فبمقدورِ الأمةِ الديمقراطيةِ وأمةِ القانونِ أنْ تعيشا سويةً بكل يُسرٍ في حالِ وِفاقِهما، أما الوطنُ والعَلَمُ واللغة، وإلى جانبِ قيمتِهم العالية، لكنهم ليسوا مقدَّسين، والعيشُ في ظل تشاطُرِ الوطنِ المشترك واللغاتِ والأعلامِ المشتركةِ بشكلٍ متداخلٍ على دربِ الصداقةِ بدلَ التضاد، ليس ممكناً فحسب، بل ضرورة من ضروراتِ حياةِ المجتمعِ التاريخي. من هنا، فظاهرةُ الأمةِ الديمقراطيةِ بكل مزاياها، تأخذُ مكانَها ومكانتَها في التاريخِ ثانيةً كبديلٍ قوي للدولتيةِ القوميةِ التي هي آلةُ حربٍ طائشةٍ ومُحفزة على التهورِ بِيَدِ الحداثةِ الرأسمالية.

نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ باعتبارِه نموذجاً حَلاّلاً، يُنعِشُ ثانيةً دمقرطةَ العلاقاتِ الاجتماعيةِ التي مَزَّقَتها النزعةُ الدولتيةُ القوميةُ إرباً إرباً، ويُفعِمُ الهوياتِ المتباينةَ بروحِ الوفاقِ والسلامِ والسماحة. لذا، فانعطافُ أمةُ الدولةِ صوب الأمةِ الديمقراطية، سيَجلبُ معه مكاسب عظمى. فنموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ يتسلحُ بوعيٍ اجتماعيٍّ سديدٍ للقيامِ أولاً بتطويعِ الإدراكاتِ الاجتماعيةِ المشحونةِ بالعنف، ثم لتصييرِها إنسانية (الإنسان العاقل والمفعم بالعواطف والمشاعر، والذي يشعر بالآخرِ ويتقمصُه عاطفياً). لا ريب أنه يُحَقِّقُ ذلك بالتحجيمِ البارزِ لعلاقاتِ الاستغلالِ المُطَعمةِ بالعنف، ولو أنه لا يقضي عليها كلياً. وكذلك بإتاحتِه الفرصةَ لمجتمعٍ أكثر حريةً ومساواة، إنه لا يؤدي وظيفتَه هذه بالاقتصارِ على استتبابِ الأمنِ والسلامِ والسماحِ بين صفوفِه فقط، بل وبتخطيه أيضاً للمواقفِ المُشَرَّبةِ بالقمعِ والاستغلالِ تجاه الأممِ الأخرى خارجياً أيضاً، وبتحويلِه المصالحَ المشتركةَ إلى تداؤبٍ وتضافُر لدى إعادةِ إنشاءِ المؤسساتِ الوطنيةِ بناءً على البنيةِ الذهنيةِ والمؤسساتيةِ الأساسيةِ للأمةِ الديمقراطية، سوف يُدرَك أنّ النتائجَ التي ستُسفِرُ عنها الحداثةُ الجديدة، أي العصرانيةُ الديمقراطية، ستَكُونُ بمثابةِ النهضة، ليس نظريّاً فحسب، بل وميدانياً أيضاً، أي أنّ بديلَ الحداثةِ الرأسماليةِ هو العصرانيةُ الديمقراطية، والأمةُ الديمقراطيةُ الكامنةُ في أساسِها، والمجتمعُ الاقتصاديُّ والأيكولوجي والسلمي المنسوج داخل وخارج ثنايا الأمةِ الديمقراطية.

إنّ الحل الذي يفرضُه نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ لا يقتضي إنكارَ الدولِ القومية، بل يُحَتمُ على هذه الأخيرةِ الالتزامَ بالحل الدستوريِّ الديمقراطيّ. فقرينةُ الدولةِ – الديمقراطيةِ المتداخلةُ في أوروبا الغربية، ليست نموذجَ الحلِّ الوحيد. وعلى العكس، إنها نموذجٌ إشكالي للغاية، ويعملُ على التسويفِ والتأجيلِ في حلِّ القضايا، بينما النموذجُ الذي يتعينُ اختبارُه في الشرقِ الأوسط، هو الحلُّ الدستوريُّ الديمقراطيُّ الذي يتَّخذُ من أمةِ الدولةِ ومن وجودِ الأمةِ الديمقراطيةِ واستقلالِها الذاتيِّ أساساً له. وفي حالِ العكس، فإنّ نماذجَ الوحدةِ التي ستظهرُ إلى الوسط، لن تتعدى من حيث أدوارِها نطاقَ الكياناتِ من قبيلِ “المؤتمرِ الإسلامي” و “الجامعةِ العربية”.

ما من ريبٍ في مدى عظمةِ التطورِ الذي سيَكُون ثمرةً من ثمارِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ” الذي سوف تُشَكله الأممُ المنضويةُ تحت لواءِ النظامِ الدستوريِّ الديمقراطيِّ فيما بينها داخلياً فهو لن يدل فقط على استتبابِ السلامِ الراسخِ والدائم، بل وسيُشير أيضاً إلى أن الحشودَ المتحررةَ كلياً من البطالة، سوف تشهدُ نهضةً ثقافيةً وإنتاجاً اقتصادياً ملحوظَين من خلالِ تلاحُمِ الاقتصادِ المشاعي مع الصناعةِ الأيكولوجية. هذا ولا يَحق لأي كائنٍ كان أن ينظرَ بعينِ القَدَر المحتومِ إلى ما يَعُم المنطقةَ من بطالة واقتصاد عقيم وحياة ثقافية محطمة للآمالِ في عصرِ المعلوماتيةِ والتكنولوجيا. ومَن يتحلى بهكذا منظور، إنما هو مُصابٌ بالعمى الأيديولوجي، أو أنه غارقٌ في نيرِ الهيمنةِ الأيديولوجيةِ للنظامِ القائم. هذا ولا يُمكنُ للشرقِ الأوسطِ إعادةُ أداءِ دورِها الكونيِّ الذي دامَ لأمَد جد طويل في سياقِ التاريخ، إلا تحت رايةِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطية”. بوسعِ الكردِ وشعوب المنطقة الانطلاقُ في هذه المرةِ من الحضارةِ الديمقراطية، للقيامِ بدورٍ مماثلٍ لذاك الذي أدَّوه في فجرِ الحضارة، وتُقدم آفاقُ الثورةِ الكردستانيةِ وحلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ الكرديةِ ما يفيضُ من شتى أنواعِ القوةِ (الفكرية والجسدية) اللازمةِ في سبيلِ ذلك. إنّ الثورةَ الكردستانيةَ هي ثورةٌ شرقُ أوسطيةٍ أكثر من أي وقتٍ مضى. والتحولُ الوطنيُّ الديمقراطيُّ الكرديُّ يعني “اتحادَ الأممِ الديمقراطيةِ الشرقِ أوسطية”.

فالعديدُ من الاتحاداتِ الإقليميةِ التي أسَّسَتها الحداثةُ الرأسماليةُ ارتكازاً إلى مقوماتِ الدولةِ القومية (اتحاداتُ الدولِ القوميةِ في كلٍّ من أوروبا وآسيا وأمريكا وأفريقيا)، وكذلك هيئةُ الأممِ المتحدة؛ ما برحَت عاجزةً عن إيجادِ الحلِّ لأيةِ قضيةٍ عالميةٍ أو إقليمية، منذ يومِ تأسيسِها وحتى الآن، ذلك إنّ آفاقَ الدولةِ القوميةِ التي تعاني بنيوياً من الانسدادِ وإنتاجِ المشاكلِ وتسويفِها؛ إنما يَسري بما فيه الكفايةِ على مثل تلك الاتحاداتِ الإقليميةِ ووحداتِ هيئةِ الأممِ المتحدةِ أيضاً. لذا، وبدلاً من تلك الأمثلةِ الفاشلة، يُعَدُّ تشكيلُ الاتحاداتِ الجديدةِ اعتماداً على الوحداتِ العابرةِ لمقوماتِ الدولةِ القوميةِ حاجةً لا تحتملُ التأجيل، ومثلما هناك حاجةٌ ماسةٌ إلى “الاتحاداتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ الإقليمية”، فإنه ثمة حاجةٌ مُلِحة أيضاً إلى “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ العالميةِ” المؤلَّفِ من المكوِّناتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ التي تتخطى إطارَ الدولِ القومية، وذلك عوضاً عن نموذجِ “هيئةِ الأممِ المتحدةِ” الحاليّ، وسواءٌ فَكَّرنا بالأمرِ على المستوى الإقليمي أم العالمي، فإنه يتعينُ على “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ” ألا يقتصرَ على مكوناتِ الدولةِ فحسب، بل أنْ يَكُونَ اتحاداً تشاركُ فيه منظماتُ المجتمعِ المدنيِّ الديمقراطيةِ أيضاً. فالسلامُ العالمي لا يُوَطَّدُ عبر الدولِ القوميةِ المُسَببةِ للحروب، كما ومحالٌ في الوقتِ عينِه تحقيقُ التنميةِ والرفاهِ بواسطةِ مؤسساتِ الحداثةِ التي تتسببُ بالأزمات، والأمثلةُ الموجودةُ تؤكدُ مصداقيةَ هذه الحقيقةِ زيادةً عن اللزوم. وكيفما أنّ السبيلَ إلى السلامِ العالميِّ يمرُّ من الأممِ الديمقراطية، فإنّ شعوبَ العالمِ لن تنالَ حقَّها في العملِ وفي تلبيةِ متطلباتِها الأوليةِ عن طريقِ احتكاراتِ رأسِ المالِ المالي اللاهثةِ وراءَ الربحِ الطائش، بل إنّ السبيلَ إلى ذلك يمرُّ من اتحاداتِ الاقتصادِ المشاعيِّ الأيكولوجيِّ والصناعةِ الأيكولوجية، والتي يعملُ فيها الجميع، ويَعتَبِرون العملَ منبعاً للحرية”.

-مقتطفات من مرافعة عبدالله أوج آلان المقدمة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية تحت اسم: “القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”.

ربما لم يحن الوقت بعد لأن نقول بأن الأزمة في سوريا قد انتهت وإن الحرب وضعت أوزارها، لكن المؤكد أن حل الأزمة في سوريا هو حل سياسي يستوجب أن يكون ديمقراطياً ينبع من صميم المجتمع السوري المتعدد والمتنوع يصان بدستورٍ ديمقراطي.

زر الذهاب إلى الأعلى