مقالات

المغترب الذي عاد بدون زوجة وأولاد

وجه شاحب وعينان غائرتان ووجنتان ناتئتان, يكاد جلده يلتصق بعظمه, صادفته في إحدى شوارع المدينة. إنه هو.. فأنا أعرفه جيداً فقد أمضينا معاً أيام وأيام وخضنا فيها نقاشات وحوارات وأحياناً معارك, كنا سوية نملأ المكان صخباً وضجيجاً, ارتعدت فرائصه عندما لمحني فبادرني “أدرك ما سترمي إليه, هناك يا صديقي يعيش أحدنا غربتين ,غربة الوطن وغربة الأسرة والعائلة, وما أقسى كلتا الغربتين, فارقت والديَّ العجوزين اللذين أخفيا دموعهما عند وداعي, كان لي عائلة صغيرة، زوجة وأولاد, وها أنذا أعود وحيداً لا زوجة ولا أولاد. قل ما تشاء يا صديقي فأنا الذي اخترت لنفسي مكاناً بين أناس شرعوا الهجرة والبطالة لأنفسهم, حيث لا هدف في الحياة ولا أمل لهم في العيش وفق تقاليدنا, يألفون الغريب ويصاحبون الشرير بحجة أنهم يبحثون عن الأمان ومستقبل أفضل لأولادهم بعيداً عن الإرهاب والحروب, كنا نجوب العواصم والمدن نبحث عن الشمس في مدن الضباب وعن المطر في الصحارى, مرت علينا أيام تذرف أعيننا دماً عوضاً عن الدموع التي جفت في مآقينا, أمنياتنا كانت مخنوقة وأحلامنا مذبوحة, والذئاب من حولنا تنتظر الفرصة لتنهش …وها أنت ذا تراني قد عدت مشحوناً في بطن طائرة كأية شحنة, عدت عابساً كئيباً لأحضان والداي العجوزين لأتحول إلى قصة على كل لسان “.

انعقد لساني وأنا استمع إليه, لا أدري يا صديقي هل أرثيك أم نرثي أنفسنا أم نرثي أحوالنا؟

يا صديقي القادم من الغربة, بلادنا جميلة ونحن من يستحقها لأنها قدرنا عُد إلينا كما كنت واغمض عينيك ونم مرتاحاً واترك قريتك ومدينتك ومجتمعك تحميك وتحرسك صحيح أن عائلتك سقطت منك في أزقة الغربة وسقطت أنت على أرصفة الواقع, ها أنذا أعانقك وأهمس لك أن مجتمعنا الجديد بدا يتسع للجميع وقد مضى قدماً في السبيل إلى بناء نهضة جديدة وشعوبنا بدأت تستأنف حضاراتها.

نم يا صديقي وأرح نفسك ودع أثقالك جانباً فما أطيب النوم في ربوع الوطن بعيداً عن كوابيس الغربة؛ نم هناك في قريتك وتحت دالية العنب التي زرعها جدك أو تحت الزيتونة التي زرعتها أنت قبل أن يحدث الطلاق بينك وبين أرضك ومجتمعك, فهي أجمل من كل العمارات وناطحات السحاب التي رأيتها.

صديقي, حين غادرتنا تركت خلفك مصافحات أتذكر أنك مررت بيدك على يدي تشجعني على الرحيل معك وها أَنذا أصافحك أمرر يدي على يدك لأقول لك أهلاً بك بين أهلك وأصحابك.

هو وحده يعرف ماذا حدث هناك, كانت أيامه تجري كالسحاب لا تترك وراءها سوى بقع من الوحشة والانتظار والتي تدفعه إلى تأمل وحدته التي أكلت وجوده العابث الخالي, حاول مراراً أن يستسلم للقدر الذي أوصله إلى هذه الأماكن ولكنه لم يتحمل عمق المكان وطول الليالي.

جملة القول السالف, أحداث كهذه كان لنا في ماضينا منها عصمة ونجاة وكان لمن ينزلق إليها حساب وأي حساب, وتمر الأيام ومازال البعض قابعاً في أزقة الدول, وتتكرر المأساة…

زر الذهاب إلى الأعلى