تقاريرمانشيت

الصراع في سوريا واستراتيجية الدول “الضامنة” .. إدلب نموذجاً

إعداد: دوست ميرخان

لم تحسم قمة أنقرة الثلاثية التي جمعت كلٌ من رؤساء الدول الضامنة روسيا، تركيا، وإيران، والتي عقدت في 17 من شهر أيلول 2017الجدل الكبير حول ملف  مدينة إدلب والذي يثار بين الفينة والأخرى لتحقيق بعض الاجندات للدول الثلاث، إذ من الواضح أن الأوصياء الثلاث لم يستطيعوا ردم هوَّة الخلاف حولها حتى اليوم، ليبقى الوضع كما هو عليه بانتظار تطورات قد تتمخض من التوافق الذي حصل مؤخراً بين بوتين وأردوغان حول اللجنة الدستورية كجزء من اتفاق سوتشي، لكن ميدانياً يبدو الوضع في محافظة إدلب مرشحاً للانفجار في أية لحظة مع تقدم روسيا وقوات النظام عسكرياً على جبهات عدة وليأتي صياغة اللجنة الدستورية تتويجاً سياسياً للانتصار الميداني الذي حققه الروس لصالح النظام السوري، وفي ظل الحديث الروسي عن محاربة الإرهاب “مجموعات أردوغان” الذي لطالما كان المسبب الأساسي للفتك بالمدنيين في تلك المنطقة وقضم المزيد من المناطق التي تقع تحت سيطرة تركيا فعلياً، والتي كما يبدو تستعد للسيناريو الأسوأ وهو مواصلة الحرب من قبل قوات النظام، بعدما ظهر أن روسيا لم تُبدِ أي مرونة في ما يتعلق بالوضع في محافظة إدلب، ما يفتح الباب أمام تصعيد عسكري سيدفع ثمنه المدنيين الذين ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل كما بقية الشعب السوري، حيث لم تكن قمة أنقرة الأخيرة سوى تتمة للهرج الروسي التركي.

الجديد الذي تمخض عن الاتفاق والذي ترجم سياسياً هو التوصل إلى تشكيل لجنة دستورية وفق معايير واجندات الضامنين، هذا اللجنة التي تشوبها الكثير من اللغط والاستفهامات والتي تمخضت عن ولادة عسيرة لن تكتب لها النجاح ومصيرها كمصير استانا التي وصلت لطريق مسدود كما يشير أغلب المحللين، لكن الحقيقة الظاهرة للعيان هي أن اتفاق استانا لم تكن سوى مسار من مسارات السياسة الروسية التركية تجاه الأزمة السورية، فمن خلاله تمكن الطرفان من بناء علاقات استراتيجية على حساب الشعب السوري الذي تعرض لكل اشكال الإهانة من قبل كل الأطراف التي عملت على تمزيق سوريا وتشريد شعبها، والسيناريو الذي حدث في بقية المناطق التي تعرضت للتدمير يواجهه سكان إدلب وهذه المرة لا ملاذ لهم بعد أن حوصروا من قبل القوات الروسية والايرانية والتركية والمجموعات الارهابية وقوات النظام السوري.

 بالطبع الخروج بهذه النتيجة التي طالت عليها الجدل بين الأطراف الثلاثة كانت تبعات الفشل المتكرر حيال مصير منطقة شمال وغربي سوريا، وبالرغم من التفاهم الحاصل حول تفاصيل اللجنة المنوط بها وضع دستور جديد للبلاد وفق تركيا، والنظر في الدستور الراهن وتعديل بعض فقراته وفق روسيا، فأن هذا الاتفاق لا يعني البدء بمسار حلٍ سياسي وإنما فرصة للنظام وروسيا لممارسة المزيد من الضغط على الأطراف الأخرى الخارجة تماماً عن مسار السياسة الروسية التركية، وكونه تمخض عن دولٍ تحتل سوريا فهو حلقة جديدة من الحلقات المفرغة التي لن تخدم حل الأزمة في سوريا على العكس تماماً اتفاقٌ بهذا الشكل وتجاوز القرارات الدولية المنتهية الصلاحية كما تبدوا  فصلٌ جديد من التآمر على الشعب السوري وثورته في الحرية والديمقراطية.

ففي الوقت الذي نجح فيه الاتفاق حول مصير إدلب بين الاوصياء الثلاث وهو ترحيل ملف إدلب إلى ما بعد التوقيع على لجنة دستورية وفق شروط روسيا والنظام أي القبول بالدستور الذي وضعه النظام عام 2012، مع إجراء بعض التعديلات الشكلية والتي ستعيد منح بعض المجموعات المرتبطة بتركيا صبغة شرعية وبعض الصلاحيات الدبلوماسية بعد أن فقدت المصداقية تماماً حتى من قبل من هم في صلب تلك المجموعات.

حقيقة هذه اللجنة مرجعيتها دول تحتل سوريا لا الشعب السوري المُبعد عن أي قرار يتعلق بمصيره، وهذه اللجنة لا تمثل سوى المجموعات المرتبطة بتركيا وبالمناطق الخاضعة للاحتلال التركي الحالة نفسها بالنسبة للنظام ولروسيا الوصية.

 بالعودة إلى ملف إدلب فأن مسألة تشكيل اللجنة الدستورية قبل حسم الوضع في إدلب أو في المناطق الأخرى بحد ذاتها تعتبر إشكالية كبيرة، والبيان الذي صدر عن القمة، بأن الزعماء بحثوا بدقة الوضع في منطقة خفض التوتر في إدلب، وأكدوا تصميمهم على “ضمان التهدئة” على الأرض من خلال تنفيذ كل عناصر اتفاقيات إدلب، لا سيما مذكرة 17 أيلول 2018 (اتفاق سوتشي لتثبيت خفض التصعيد) والمبرم بين الروس والأتراك، والذي نصّ على إقامة منطقة منزوعة السلاح الثقيل وفتح الطرق الدولية، ولكنه لم يُنفذ، ما سمح للنظام بالقيام بحملة عسكرية استمرت نحو أربعة أشهر خسرت خلالها تركيا ومجموعاتها نحو 24 موقعاً في ريفي حماة وإدلب من بينها مدن هامة مثل قلعة المضيق وخان شيخون.

ما الذي أفضى إلى هذا التقدم الكبير لقوات النظام؟

تركيا وعدت روسيا بفتح الطرقات الدولية حلب – اللاذقية و حلب – دمشق إذا ما عادت هذه الطرقات لسيطرة النظام ستنحصر الفصائل في بقعة جغرافية شمال هذه الطرقات، عدة جبهات مفتوحة من قبل قوات النظام ، معارك عنيفة تجري بعيدة عن الإعلام في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي للسيطرة على تلال كبانة الاستراتيجية التي تقع على جبل مرتفع، وفي حال سيطرت عليه قوات النظام ستشرف على ريف إدلب الجنوبي الغربي تحديداً جسر الشغور ومناطق سهل الغاب أي تكون قوات النظام اقتربت من السيطرة على مناطق استراتيجية جديدة بعد سيطرتها على خان شيخون.

وهنا نتساءل ما الذي أفضى إلى هذا التقدم الكبير لقوات النظام حيث المئات من المجموعات المسلحة المدعومة بكافة صنوف الأسلحة؟

كان ريف حماة الشمالي يعج بالمقاتلين المرتبطين بتركيا، وبعد الاجتماع الأخير الذي جمع أردوغان وبوتين في موسكو أُفرغ المنطقة من المسلحين بشكل كامل، تمهيداً لدخول قوات النظام الذي استخدم كثافة النيران للتمويه بأنه يخوض معارك ضد المسلحين في تلك المناطق، الأمر كذلك كان بالنسبة للمجموعات المسلحة التي كانت تنسحب تدريجياً نحو الحدود.

كثفت قوات النظام السوري وبإسناد روسي عملياته العسكرية في المناطق التي كانت تحت وصاية روسية تركية/ وجبهة النصرة أو ما سميت بالمنطقة “المنزوعة السلاح”.

وبعد التقدم الذي أحرزه قوات النظام في الريف الشمالي لمدينة حماة والريف الجنوبي والشرقي لإدلب ووصولاً لجبل الاكراد بذلك يكون قد مهدت عسكرياً للتوجه صوب إدلب وهذا كله ضمن اتفاق روسي تركي حول امتداد النفوذ وترسيخه؛ كلٌ ضمن حدود مناطق احتلاله.

وبهذه الخطة التي تُديرها روسيا وتركيا تمكن النظام السوري من السيطرة على منطقة خان شيخون وريف حماة الشمالي ومناطق أخرى تمتد إليها قوات النظام في الفترة القادمة.

السيناريوهات تكرر ذاتها

الاستمرار في الحل العسكري في مناطق إدلب وأرياف حماة وحلب ، يعني تعرض حياة نحو ثلاثة ملايين مدني للخطر وموجة جديدة من النزوح والتهجير لكن إلى أين..؟ مشروع تركيا بإقامة منطقة آمنة وفق اجنداتها تعرض للفشل، لكن الخطر مازال قائماً على شمال وشرق سوريا من أن يترجم ثلاثي استانا اتفاقهم الأخير على ممارسة المزيد من الضغط على شمال شرق سوريا لقبولها باحتواء ممن سينزحون من إدلب ومن بقية المناطق الأخرى في الوقت الذي يرفض أردوغان تماماً أي لاجئ سوري من داخل الاراضي السورية، ما حدث للمدنيين الذين نزحوا من مناطق المعارك الأخيرة في ريف إدلب وحماة التجأوا إلى بساتين الزيتون وافترشوا البراري دون أية مقومات للعيش، بعد أن أغلق الجيش التركي والمجموعات المرتزقة كل الطرق أمامهم وذلك لاستخدامهم كدروع بشرية وورقة لممارسة الضغط على أوروبا وروسيا.   بالطبع الغالبية العظمى من المدنيين النازحين جراء المعارك لم يقبلهم المجموعات الارهابية في مناطق سيطرتهم في شمالي غربي البلاد، ومن كان في صفهم فقد تم توطينه في عفرين  كجزء من السياسة التركية تجاه المناطق الواقعة تحت سلطة احتلالها.

هؤلاء المدنيين المحاصرين من قبل المجموعات الارهابية من جهة ومن الجهة الأخرى تحاصرهم جيوش النظام وروسيا وإيران والميليشيات الحليفة للنظام السوري، لم يبقَ لهم ملاذاً آمناً، في ظل هذه الأجواء القاسية التي تضرب بشمال وغربي سوريا.

 أمام هذا المشهد هناك مشهدٌ آخر يبحث عنه روسيا ويبدوا أنها اقتربت من تنفيذه وهو سيناريو المصالحات   بعد أن نجحت سياستها هذه في غالبية المناطق التي كانت خارج سيطرتها. لكن الطرف الآخر المسيطر على إدلب لايزال يبحث عن ضمانات مع تركيا المربكة وروسيا المصرَّة على تنفيذ كامل شروط وبنود اتفاق سوتشي، وذلك لا يعني بأن احتمال حدوث حرباً طاحنة سيدفع ثمنها المدنيين سكان المنطقة والمهجرين.

 وفي الوقت الذي أشغلت روسيا الرأي العام بقصة اللجنة الدستورية، فأنها منحت النظام السوري وإيران فرصة الحسم في إدلب أو على الاقل السيطرة على النقاط الاستراتيجية ومحاصرة المدينة من جهتها بعد أن حاصرتها تركيا ومجموعاتها من طرفها.

بينما الغموض يكتنف الموقف السياسي الدولي الذي يكتفي كما العادة ببعض الإدانات والتحذيرات على الصعيد الانساني، في الوقت الذي بات فيه إدلب كما عفرين وبقية المناطق المحتلة تستخدم كأوراق سياسية لتنفيذ اجندات دولية وإقليمية وترسيخاً لمناطق النفوذ والاقتسام.

حقيقة كان الخروج بتشكيل لجنة دستورية بهذه الشاكلة الهزلية ليس إلا تعبيراً عن حالة الفشل الذي وصلت إليه الثلاثي الضامن المأزوم والحال ذاته بالنسبة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي وذلك للبحث عن منجزٍ ما في القضية السورية بعد حالة الانسداد التام التي وصلت إليه الأزمة السورية.

 ولذلك كان الخروج بملف اللجنة الدستورية أسهل الطرق لتحقيق ذلك.

  • الاستراتيجية الروسية التركية الايرانية بعيداً عن إدلب وسوريا عموماً..؟

 تلاقت المصالح الروسية التركية فيما يخص الشرق الأوسط والعالم عموماً من خلال التفاهمات والاتفاقات التي أبرمها الطرفان بشأن الأزمة السورية، وهنا برز بشدة دور التيار المائل للحلف الأوراسي في تركيا والذي يعمل على إبعاد تركيا عن حلف شمال الأطلسي وتقريبها من التحالف مع روسيا وما تمثله من قوى دولية مناهضة للهيمنة الأحادية الأميركية،  وهذا التيار نما بشدة في الأوساط العسكرية التركية.

فيما يخص سوريا والصراع السوري، يقف هذا التيار إلى جانب روسيا وبناء علاقات قوية معها وبالتالي يعمل على التقرب من النظام السوري متبنياً وجهة نظره بصورة تامة، و بحسب بعض التقارير الاعلامية التركية فأن زيارات عدة قد حصلت بين النظام السوري  وروسيا من طرف وضباط اتراك رفيعي المستوى من طرف آخر في سعيهم إلى إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، على الرغم من الموقف  المعلن لأردوغان وبعض قيادات الحكومة التركية من السوري حتى وقتٍ قريب.  لكن تعاونها مع روسيا في إطار مسار أستانا و سوتشي، واقتصار سياسته في سوريا خلال السنوات الأخيرة على مواجهة الكرد والإدارة الذاتية الديمقراطية، وتخليه عن جملة خطوطه الحمر وتهديداته المستمرة لأوروبا يكشف عن المسار الذي سلكه أردوغان في إطار العلاقات الدولية والاقليمية.

حقيقةُ انضمام تركيا إلى المشروع الروسي للهيمنة على الشرق الأوسط وشمال افريقيا الذي ينطلق من واقع الفراغ السياسي الناجم عن “فشل” المشروع الأميركي المعروف باسم “الشرق الأوسط الكبير”، طوال السنوات السابقة، مورداً خصباً لنظريات المؤامرة الإمبريالية، في الأوساط التركية حسب بعض المحللين، وذلك تحقيق توازن في المصالح الجيو – سياسية، وإقامة تحالفات إقليمية لتركيا الدور الأبرز فيها كدولة كبرى في الشرق الأوسط والعالم.

ويقترح المشروع الروسي بحسب محلل تركي أن يشكل ثلاثي أستانا (روسيا وتركيا وإيران) نواة الإطار الأوراسي الاستراتيجي، مع انفتاحه على جميع الدول الأخرى الرافضة للأيدولوجية الليبرالية. دول “ثلاثي أستانا” تمثل الإرث السياسي لثلاث امبراطوريات، وتمثل ثلاث عقائد دينية تقليدية هي الأرثوذكسية الروسية والتشدد الاسلامي القوموي والمذهب الشيعي. وهي بهذه الإمكانيات؛ يمكنها تحمل مسؤوليات جيوسياسية وروحية معاً، اليوم وفي المستقبل، في المنطقة الممتدة من الشرق الأوسط إلى المغرب العربي. تشكل روسيا بين دول النواة قلب الإطار الأوراسي وقوتها الضاربة في مواجهة التحالف الأطلسي؛ إضافة إلى أنها تملك البديل الروحي في العالم المسيحي للغرب”.

وتصف الوثيقة الروسية إيران الشيعية بأنها نموذج فريد “للثورة الروحانية المعاصرة” والتعبئة المجتمعية النضالية التي لاتهاب الموت في سبيل المثل العليا القومية – الدينية.

أما تركيا فيمكنها أن تلعب، بما تملكه من تراث اسلاموي، دوراً مهماً في إعادة “الإسلام السني” في المنطقة.

وترى الوثيقة الروسية أن التحالف الأوراسي سيمنح كلاً من إيران وتركيا دورين قياديين في العالم الإسلامي بشيعته وسنته.

هذا بعض مما ورد في تقرير صحيفة “آيدنلك” التركية في وقتٍ سابق.

واللافت في المشروع الروسي هو إن التحالف مع إيران استراتيجي، بما في ذلك الاعتراف بنفوذها الإقليمي، بالرغم من التحليلات التي تتحدث عن رغبة روسية في إخراج إيران من سوريا بالذات، وقيادة تركيا للعالم الاسلامي السني.

وبالتالي فأن التحالف الروسي التركي الايراني فيما يخص سوريا استراتيجي يهدف إلى تشكيل قوة موازية للتحالف الاطلسي والشعب السوري وسوريا عموماً ورقة من أوراق هذه الاستراتيجية الطويلة الأمد.

 لكن السؤال هل نجحت روسيا وحلفائها باستراتيجيتهم هذه، أم إن فاتورة الحرب والصراع أنهكتهم وهم أقرب إلى حافة الهاوية.

تذكرة:

الجدير بالذكر إن مجلس الأمن الدولي قد أقرَّ القرار رقم 2254 في الـ 18 من كانون الأول 2015 والذي نصّ على تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسوريا في غضون ستة أشهر، وجدد القرار الذي اعتمد بيان جنيف ودعم بيانات فيينا الخاصة بسوريا باعتبارها الأرضية الأساسية لتحقيق عملية الانتقال السياسي، دعم مجلس الأمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة على أساس الدستور الجديد في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى