الأخبارمانشيت

الصحيفة الأمريكية Foreign Policy: خرائط تركيا الجديدة هي استعادةٌ للإمبراطورية العثمانية

foreign-policy1قومية أردوغان العدوانية تغمر الآن الحدود التركية، وتنتزع أراضٍ في اليونان والعراق

في الأسابيع القليلة الماضية ظهر الخلاف بين أنقرة وبغداد حول دور تركيا في تحرير الموصل، في حدوثِ انفجارٍ هائلٍ للمطامع التركية. في مناسبتين منفصلتين انتقد الرئيس رجب طيب أردوغان “معاهدة لوزان” التي تم بموجبها تعيين حدود تركيا الحديثة لإبقائها البلاد صغيرةً جداً. وتحدث عن اهتمام البلاد بمصير الأقليات التركية التي تعيش خارج هذه الحدود، بالإضافة إلى ادعائها بحقها التاريخي في المطالبة بمدينة الموصل العراقية التي يوجد لدى تركيا بالقرب منها قاعدة عسكرية صغيرة. وجنباً إلى جنب مع أنباء عن قصف الطائرات التركية للقوات الكردية في سوريا، والانخراط في معارك وهمية مع الطائرات اليونانية فوق بحر ايجه، فقد أظهرت وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية اهتماماً من نوعٍ جديدٍ في سلسلةٍ غير دقيقة، بل حتى مرسومة بصورة فجة من خرائط لتركيا بحدود جديدة ومعدلة.

تركيا لن تضمَ جزءاً من العراق في أي وقتٍ قريب، ولكن هذا المزيج من الخرائط المرتسمة وهذا الخطاب، مع ذلك يقدم بعض التبصر في السياسات الخارجية والداخلية الحالية في تركيا والصورة الخاصة لأنقرة. الخرائط على وجه الخصوص تكشف استمرار أهمية القومية التركية، وهو عنصرٌ طويلُ الأمد من فن الحكم في البلاد، ويتجدد الآن بشيءٍ من التاريخ المُنَّقَّحْ مع جرعةٍ إضافيةٍ من الدين. ولكن إذا كان للماضي أية دلالة فإن التدخلات العسكرية، ولغة المواجهة التي تلهمها هذه القومية قد  تسيء إلى أمن تركيا ومكانتها الإقليمية.

من النظرة الأولى لخرائط تركيا التي أخذت تظهر مؤخراً على شاشة التلفزيون

يتبين أنها تشبه خرائط مطمعية مماثلة وضعت من قبل أنصار اليونان الكبرى، مقدونيا الكبرى، بلغاريا الكبرى، أرمينيا الكبرى، أذربيجان الكبرى، وسوريا الكبرى. بمعنى أنها ليست خرائط للإمبراطورية العثمانية التي كانت أكبر بكثير، أو خرائط العالم الإسلامي بأكمله أو العالم التركي. إنها خرائط لتركيا أكبر بقليل فحسب.

لكن التاريخ الواضح من وراء الحدود التي يتخيلونها يوفر أول مؤشرٍ على ما هو جديد وما هو ليس جديد عن ماركة القومية التي لدى أردوغان. هذه الخرائط ترمي إلى إظهار الحدود المنصوص عليها في الميثاق الوطني التركي، الوثيقة التي أوحى أردوغان مؤخراً إلى رئيس وزراء العراق بوجوب قراءتها لفهم اهتمام بلاده بالموصل. بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، حدد الميثاق الوطني الذي تم توقيعه في عام 1920، تلك الأجزاء من الإمبراطورية التي كانت الحكومة مستعدة للقتال من أجلها. وطالبت على وجه التحديد بتلك الأراضي التي بقيت في حوزة الجيش العثماني في أكتوبر 1918 عندما قامت القسطنطينية بتوقيع هدنة مع القوى المتحالفة معها. على الحدود الجنوبية لتركيا، مر هذا الخط من شمال حلب في ما هو الآن سوريا إلى  كركوك في ما يعرف الآن بالعراق.

وحين تبين أن الحلفاء اعتزموا أن يتركوا الإمبراطورية أصغر بكثير مما امتلكته في عام 1918، أدى ذلك إلى تجدد القتال الذي هزمت فيه وحداتٌ عسكرية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك القوات الأوروبية لإقامة تركيا كما هي موجودة اليوم. وحسب أكبر فترة من القرن الماضي فأن التاريخ الرسمي لتركيا قد أشاد بأتاتورك للتعريف بشكلٍ أساسيٍ بالحدود التي تصورها الميثاق الوطني (بدون الموصل قطعاً )، كما اعترفت بها معاهدة لوزان. لم يكن ادعاءً مبالغاً فحسب، بتقديم أجزاء من الميثاق كان قد تم استبعادها، بل كان الإدعاء أيضاً عملياً وبارزاً، يهدف إلى منع الجمهورية التركية الجديدة والمتزعزعة من فقدان ما كان قد تحقق في السعي وراء طموحات إقليمية غير واقعية. بالفعل في الحين الذي جلبت فيه بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا وبلغاريا والمجر كارثة على أنفسها من خلال محاولتها إعادة رسم حدود ما بعد الحرب العالمية الثانية قسراً، فإن تركيا وفي ظل حكم أتاتورك وخليفته – قاومت هذه الرغبة.

أردوغان على النقيض من ذلك عَبَّرَ عن رواية بديلة ألا وهي أن استعداد أتاتورك في معاهدة لوزان على التخلي عن أراضي مثل الموصل وجزر اليونان الحالية في بحر إيجه لم يكن فعلاً من البراغماتية البارزة وإنما كان بالأحرى خيانة. الإيحاء رغم كل الشواهد هو أن أفضل الحكام أو ربما أكثرهم وطنية هو من أصاب المزيد.

من بينِ أمورٍ أخرى، فإن إعادة تفسير أردوغان للتاريخ يبين التهكم وراء المحادثات المنتشرة في الولايات المتحدة عن “عثمانيته الجديدة” المفترضة. ومنذ عشر سنوات وحماس أردوغان حول كل شيء عثماني ظهر كجزءٍ من استراتيجيةٍ فعالةٍ لتحسين العلاقات مع الشرق الأوسط المسلم، وهي السياسة التي اعتبرها بعض النُقاد في الولايات المتحدة تحدياً لدور بلادهم في المنطقة. لكن إعادة تشكيل الميثاق الوطني كمبررٍ للأطماع  بدلاً من لومها لم تحظى بشعبية كبيرة بين الدول المجاورة لتركيا. ومن المرجح الآن أن تأتي الانتقادات لسياسة أردوغان الخارجية العثمانية الجديدة من العالم العربي كما من أي مكانٍ آخر.

يوضح استخدام أردوغان للميثاق الوطني أيضاً مدى نجاح الإسلاميين في تركيا في الاستئثار بالسرد التاريخي القومي العلماني للبلاد بدلاً من النبذ. وكان الخطاب الحكومي قد سارع إلى استدعاء بطولة حرب استقلال تركيا في وصف المقاومة الشعبية لمحاولة انقلاب 15 يوليو في البلاد. وإلى جانب العثمانيين أردوغان يلفت الانتباه بشكلٍ روتينيٍ إلى السلاجقة، المجموعة التركية التي سبقت العثمانيين في الشرق الأوسط عبر عدة قرون، حتى أنه وجد مكاناً لشعوب تركية أكثر غموضاً وسبقت الإسلام مثل  Gokturks غوكتورك،   Avarsالأفار، وKarakhanids والتي حظيت بالشهرة أولاً في برباغندا أتاتورك في ثلاثينات القرن الماضي.

وعلى نحوٍ مماثلٍ في سوريا والعراق يسعى أردوغان إلى تحقيق هدفٍ وطنيٍ طويل الأمد وهو هزيمة حزب العمال الكردستاني PKK، وذلك بالاعتماد على الأدوات القومية التقليدية للسياسة الخارجية التركية – وهي الاستفادة من الأقليات التركية في البلدان المجاورة. لواء السلطان مراد، الذي يتألف في الغالب من التركمان، كان أحد مصادر القوى العسكرية لدى أنقرة داخل سوريا ضد نظام بشار الأسد وحزب العمال الكردستاني على حدٍ سواء. وفي الأثناء شكّل السكان التركمان الذين يعيشون حول الموصل والمنطقة المحيطة بها مصدر قلقٍ وقوةٍ لأنقرة في العراق. وقد عملت القوات الخاصة التركية مع الجبهة التركمانية العراقية منذ عام 2003، على الأقل من أجل توسيع النفوذ التركي ومواجهة حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.

على مدى القرن الماضي لعبت الأقليات التركية في شمال اليونان وقبرص دوراً مماثلاً. وكان خيرهم وصلاحهم موضوع قلقٍ حقيقيٍ للقوميين الأتراك، ولكن أيضاً ورقةُ قوةٍ محتملةٍ مع أثينا لاستخدامها عند الحاجة. (اليونان بطبيعة الحال قد تصرفت بطريقة مماثلة فيما يتعلق بالأقلية اليونانية في تركيا. وليس من المستغرب أن السكان من الجانبين قد عانوا كثيراً بشكلٍ متبادلٍ نتيجةً لذلك).

 في حالة قبرص على سبيل المثال كان غزو تركيا في عام 1974 يتعلق بالدفاع عن موقعها الاستراتيجي بالقدر الذي كان يتعلق بحماية الجالية التركية في الجزيرة. وبمتابعة تصريحاته حول لوزان فإن أردوغان يزعج اليونان أكثر بقوله:” لا يمكن لتركيا أن تتجاهل أقرباءها في تراقيا الغربية، وقبرص، وشبه جزيرة القرم، وفي أي مكان آخر”. ومع ذلك قد ترتاح أثينا من مسألة تتار القرم، ما يكشف عن المدى الذي قد تصله الجغرافيا السياسية في دفع تركيا لمجرد فعل هذا.

على الرغم من أن أنقرة أثارت المخاوف بشأن حالة تتار القرم بعد استيلاء روسيا على شبه الجزيرة، فإنه يبدو أنها خلصت إلى أن تحسين العلاقات مع موسكو له الأولوية على الانتماءات العرقية.

لكن أردوغان قد شددَ كذلكَ على عنصرٍ جديدٍ في الأجندة الطائفية لسياسة تركيا الخارجية وهي “الطائفية السنية”. في حديثٍ عن الموصل أعلن مؤخراً أن تركيا لن تخون “أشقاءها التركمان” أو “الأشقاء العرب السنة.” مثل القومية التركية العلمانية، فإن هذه النزعة الطائفية السنية لا تخلو من فتنةٍ محليةٍ لا يمكن إنكارها، وقد أظهر أردوغان بأنه يمكن أيضاً استحضارها بشكلٍ انتقائي وذلك تماشياً مع احتياجات السياسة الخارجية التركية.

 طائفية أردوغان الجديدة جليةٌ في الموصل حيث كانت تركيا قد حذرت من المخاطر التي يتعرض لها السنة في حال كان على الميليشيات الشيعية السيطرة على المدينة. ولكن تأثير هذه السياسة هو أوضح في سوريا، حيث تقوم تركيا بدعم المتمردين السنة بهدف الإطاحة بنظام الأسد (بمن فيهم أولئك الذين يصارعون الآن للسيطرة على مدينة حلب). ومن ناحيةٍ ثانية لم تُمنح فرصة لطائفية تركيا في كل من سوريا والعراق للمزايدة على البراغماتية. وقد كانت أنقرة حريصةٌ على الحفاظ على علاقةٍ اقتصاديةٍ نفعية متبادلة مع إيران على الرغم من دعم طرفي النقيض في سوريا، وفي العام الماضي أعربت عن استعدادها لعقد الصلح مع الأسد إذا اقتضت الظروف ذلك.

وعلى نطاقٍ أوسع يندرج التدخل التركي الحالي في سوريا والعراق ضمن النمط المقرر. فالدول لم تجد نفسها منغمسةً بانتظامٍ في حروبٍ أهليةٍ على أبوابها فحسب، بل أن المراحل التي أثبتت عندها تركيا بأنها عرضةً  للثورات في الماضي قد تأتي كلها في لحظات التغيير وعدم اليقين على غرارِ ما تشهده منطقة الشرق الأوسط اليوم.

في عام 1939 ضمت أنقرة محافظة “هاتاي” التي كانت وقتها تحت السيطرة الفرنسية، من خلال الاستفادة من الأزمة في أوروبا عشية الحرب العالمية الثانية. ومن ثم بعد تلك الحرب دفع استقلال سوريا حديث البعض في وسائل الإعلام التركية إلى إلقاء نظرة على حلب، كما أثار نقل جزر الدوديكانيز Dodecanese  من إيطاليا إلى اليونان الرغبة في اكتسابها لصالح تركيا. وبالمثل فأن أنقرة لم تلتفت إلى قبرص كثيراً عندما كانت تحت السيطرة البريطانية، ولكن عندما بدأ الحديث عن استقلال الجزيرة بدأت تركيا تظهر اهتمامها. وبالتالي ما أن بدا أن اليونان في النهاية قد يستولي على الجزيرة، حتى غزتها تركيا لمنع هذا التغيير في الوضع الراهن. على ضوء ذلك فأن خطاب تركيا منذ عهدٍ قريب ربما هو أقل مفاجأة في السنوات اللاحقة التي أشار خلالها المعلقون والأحداث مراراً وتكراراً إلى أن النظام السياسي برمته في الشرق الأوسط الحديث في حالة انهيار.

وبصورةٍ أكثرِ دقة فإن السياسة التركية من ناحيةٍ أخرى مدفوعةٌ بقلقٍ ضاغطٍ ناجمٍ عن صراعها مع حزب العمال الكردستاني، وقد استفحل مع مكاسب الجماعة في شمال سوريا.

منذ فترةٍ طويلة وحزب العمال الكردستاني يلعب دوراً في شكل العلاقات التي تقيمها تركيا مع جيرانها في الجنوب الشرقي. ولا سيما عندما كادت تركيا أن تقوم باجتياحٍ لسوريا عام 1998 في محاولةٍ ناجحة لإجبار دمشق على وقف إيواء زعيم الجماعة. وبالمثل أبقت تركيا قواتها العسكرية في منطقة الموصل حوالي عقدين من الزمن لإدارة عملياتٍ ضد حزب العمال الكردستاني. أنقرة صورت دائماً هذا التدخل مع خلافٍ ضئيلٍ في تركيا باعتباره مسألةٌ تتعلق بالأمن القومي والدفاع عن النفس.

 اليوم يبقى الدفاع عن النفس المبرر الرئيسي لدى تركيا لممارسة أنشطتها في العراق، مع تأكيد أردوغان المتكرر على أن وجود القوات التركية هناك هو “بمثابة التأمين ضد الهجمات الإرهابية التي تستهدف تركيا”. طالما يحافظ حزب العمال الكردستاني على وجوده المفتوح في العراق، فهذا هو أيضا المبرر الأكثر إقناعاً، محلياً ودولياً لتدخلٍ عسكريٍ خارج حدودها.

في الحقيقة إضافةً إلى كل المبررات العرقية والطائفية والتاريخية المحددة التي عرضها حول مصلحة تركيا في الموصل، فقد سارع أردوغان إلى إرفاق حجة إضافية وحيدة.

تواصل الولايات المتحدة وروسيا لعبَ دورٍ كبيرِ الحجم في المنطقة على الرغم من الافتقار إلى أيٍّ من هذه الصلات بها.

أشار أردوغان إلى أن بعض البلدان تقول أن على تركيا التي تشترك بـ 220 ميلاً من حدودها مع العراق البقاء بعيداً. علاوةً على ذلك وبرغمِ عدمِ وجودِ تاريخٍ لها في المنطقة أو أي صلةٍ تربطها بها، فإن هذه الدول نفسها كانت في حالة ” ذهابٍ واياب. ” وأضاف قائلا: ” هل صدام حسين طلب من الولايات المتحدة أن تأتي إلى العراق قبل 14 عاما؟”

ومن وراء التاريخ، وبعبارة أخرى، أنقرة مدركة تماما لحقيقة أن القدرة على القيام بذلك يبقى السبب المنطقي الوحيد والمهم للتدخل الأجنبي. وفي هذا الصدد، لا تزال شرعية خطط تركيا حول الموصل قيد النظر.

23/ 10/2016

Nick Danforth 

Foreign Policy

زر الذهاب إلى الأعلى