مانشيتمقالات

الادارة الذاتية تجربة تصلح للتعميم

محمد عيسى ــ

في ظل الحقيقة الراسخة المتصلة بعدم كفاءة نموذج الدولة المركزية في التصدي لمعضلات شعوبها وفي تحقيق العدل والسلم والاستقرار بين مكوناتها، وفي ظل المُسَلَّمَة التي تيقنت منها تجارب الشعوب والتي تقول بفشل دولة المركز الواحد؛ الذي من سماته احتكار جميع السلطات والصلاحيات في أي إنجاز معقول للمهام الوطنية والاجتماعية التي تهم المجتمع؛ هذا الفشل الذي كان من أهم تجلياته “الفقر والفوضى والفساد والإرهاب والحروب الأهلية”.

هذا على صعيد عوامل القصور في تركيبة الدولة المركزية، أما إذا تخَلّقت هذه الدولة بحوامل عقائدية “قومية أو دينية” كما هي الحال في نموذج الدول في منطقة الشرق الأوسط؛ فستكون هنا الطامة الكبرى وستعيش الأجيال المحكومة تحت سقفها في حالة حرب دائمة أو في مناخ من قلق الحرب، ولنا في النموذج التركي والإيراني ونظيرهما الإسرائيلي الدليل الدامغ على هذا المرض العُضال، وفي التاريخ القريب وما أحدثته النازية والفاشية من كوارث ومآسي على مصير العالم مثال صارخ آخر كان قد استدعى على الدوام نفض اليد منه. ولو أخذنا بعين الاعتبار أن دولة المركز “العقائدية” قد نجحت في بعض الأحيان وضمن بعض الظروف والجوانب في إحداث تطورات في البُنى الاقتصادية والاجتماعية وفي تطوير الآلة العسكرية للدولة؛ إلا أنها في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية الإسلامية “بلدان نمط الإنتاج الآسيوي” ــ حسب ماركس ــ والتي عاشت في ظل القيم الإقطاعية لفترة طويلة من تاريخها؛ فالأمر يستدعي تشخيصاً آخر واهتماماً بخصائص شعوب المنطقة وبالتجارب والتطورات التاريخية التي عاشتها. هذا الاهتمام الذي كان واضحاً جداً في حجم انشغال الفلسفة الأوجلانية عليه، وحيث توقفت هذه المقاربة التحليلية طويلاً وفي أكثر من فصل خلال مؤلف (مانفيستو الحضارة الديمقراطية) عند المشكلات النوعية الخاصة بواقع مجتمعات الشرق الأوسط والتي ليس أقلها المشاكل “الطائفية والقبلية والقومية (الاثنية) فالطبقية الاجتماعية ومشاكل الموقف من قضية المرأة حيث تستحكم القيم الذكورية”.

وعلى ضوء هذا الرصد للتعقيدات البنيوية العميقة في خصائص المجتمعات الشرق أوسطية، لم تكتفِ التنظيرات الأوجلانية بمهمة التشخيص فقط؛ بل انتقلت إلى لعب دور المعالج، واقترحت الحلول للمشكلات المستعصية واستنبتت لها نواظم جديدة في طرق التفكير الجمعية وفي البنى الفوقية للمجتمع. ومن خلال التشجيع على تبني عقود اجتماعية جديدة (دساتير) تُكَرِّس مفهوم الأمة الديمقراطية وتحفز مشاعر الأخوة بين المكونات، واللامركزية في نمط الدولة وكما في العديد من القطاعات والنشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأخرى.

وإلى ذلك يمكن القول: إن الترجمة الحية للطرائق الأوجلانية في التفكير حول مفهوم الدولة؛ تَظهر اليوم جلية في ما تمثله تجربة الإدارة الذاتية الوليدة منذ بضعة سنوات قليلة في مناطق شمال شرق سوريا، هذه التجربة التي تعتمد في نظامها الأساسي على مبدأ “الإدارة الأفقية” والتي من خلالها يتمكن المجتمع من تمثيل نفسه عبر مؤسسته، وهي (الكومين)،هذه المؤسسة أو الهيكل الذي يعتمد بدوره على نظام الإدارة المشتركة لكل رفيق أو رفيقة، والذي تصدر القرارات فيه تبعاً لطلبات السكان أو تلبية لحاجاتهم، وذلك ضمن نطاق عمل الكومين، وفي داخل الكومين وضمن مهامه، يتم في العادة تفعيل اللجان الشعبية المنبثقة من فئات الشعب نفسه وتعمل كلجان مهتمة بالصحة أو بالشبيبة أو الاقتصاد والثقافة أو التدريب وحماية المرأة… فالبيئة والبلديات.

هذه اللجان التي لها جميعها ما يمثلها في مجلس المقاطعة أو في مجلس الناحية وفي الهيئات التنفيذية.

يتم تشكيل الإدارات بحسب المكونات وبمراعاة كل الثقافات والمعتقدات وبطريقة الانتخاب أيضاً يتم انتخاب مجالس الشعب مثل مجلس الشعوب الديمقراطية والمجلس التنفيذي ومجلس العدالة وبحسب ما تقتضي الحاجة.

وانطلاقا من أن كل ذلك يدخل في إطار الهيكلية السياسية والتنظيمية المعتمدة في عمل تجربة الإدارة الذاتية، والمستوحاة من التعاليم الاوجلانية الهادفة الى تكريس دولة الأمة الديمقراطية، فمن الجدير ذكره؛ أن الوقائع القائمة  على الأرض تؤكد أن التجربة تسجل نجاحات يومية وعلى جميع الأصعدة، وهي على الرغم من تكالب الخصوم لإفشالها وعلى الرغم من التحديات الموضوعية التي أشار إليها المفكر اوجلان… “تحديات واقع شعوب منطقة الشرق الأوسط  والتي اسلفنا الاشارة اليها”، فإنها تحقق اختراقات عديدة في مجال الحريات والامن وعلى مستوى واقع معيشة الجماهير ورواتب العاملين وكبح ارتفاع أسعار السلع والحد من ظواهر الفساد والمحسوبية في عمل أجهزة الإدارة وفي مجالات التعليم والثقافة، حيث تنتشر الندوات والمعارض ومراكز الثقافة والإعلام بشكل متسارع وتنتشر معها المشاركة الشعبية على نطاق واسع، ويبقى على رأس كل الإنجازات؛ تفوق تجربة الإدارة في حقل تثوير المرأة وتحريرها من قيود الموروث المتخلف ودفعها إلى ساحة السياسة والمشاركة بتحمل الأعباء الوطنية والعسكرية الدفاعية أسوة بالرجل، وبما يعد دورا طليعياً وغير مسبوق  في المنطقة وحتى على مستوى العالم.

وفي شأن ذي صلة يمكن الجزم، وبعد إجراء معاينة موضوعية للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولمستويات الأمن والاستقرار في مناطق نفوذ الإدارة، وبعد المقارنة بواقع الحال في ما قبل التجربة وما بعدها وما بين الحالة العامة في مناطق سيطرتها وما بين باقي المناطق، وبعد تسجيلها لهدف فائق الأهمية، تجلى بإقرار مشروع العقد الاجتماعي الجديد، يخرج المتابع بانطباع لا يخامره الشك؛ بأنها تجربة وطنية ناجحة تحقق اندماجا وطنياً لجميع المكونات في مهامها وفي مشروعها الوطني والتاريخي الواعد، وتلبي الحاجات المجتمعية الملحة، ومتطلبات العدل والأمن والسلم والتقدم… ما يجعل منها تدبيراً الداعية يصلح التعميم كنموذج في حكم البلاد في سوريا الغد.

زر الذهاب إلى الأعلى