ثقافةمانشيت

من آرين إلى بارين وأفستا فلسفة فكرية وثقافية وملحمة نضالية متوارثة

لقد أظهرت ثورة روج آفا وشمال شرق سوريا إرادة المرأة الكردية المناضلة ليس على مستوى الشرق الأوسط فحسب، وإنما على المستوى العالمي أجمع، وبينت للإنسانية جمعاء إصرار المناضلات الكرديات على المجابهة بكل قوتهن لحملات الإبادة الممنهجة ضد مكونات روج آفا والشمال السوري وبشكل خاص المرأة، والتصدي لإرهاب بات يهدد العالم أجمع.

لقد اُبهِر العالم بإرادة هؤلاء المقاتلات المناضلات وهُنَّ يتقدمن خطوط الجبهات الأمامية لمقاومة ومحاربة آفة العصر من داعش ومثيلاته وداعميه ومموليه, فهؤلاء الفتيات المقاتلات تكحلن بعزيمة النصر والفداء والتضحية ويحملن في أذهانهن فلسفة وفكراً يلهمهُنَّ المسير نحو الموت لصنع الحياة؛ فالملاحم التي سطرنها بأرواحهن وأجسادهن أصبحت شواهد حيَّة تظهر مدى العمق الثقافي والفكري والقيمي الذي تستند إليه فلسفة هؤلاء المناضلات، فعند قراءة أو استذكار سيرة هؤلاء المناضلات سيجد المرء نفسه أمام تناقض بين ما تحمله هؤلاء المقاتلات من مبادئ وقيم الحرية وما يُروج بحق المرأة في مجتمعنا من نظرات دونية بحقهن كنعتِهُنَّ بناقصات عقلٍ أو ضلع قاصر أو غير مؤهلات لإدارة المجتمع وما إلى هنالك من أفكار وأحكام مسبقة تحد من مكانة المرأة ودورها ضمن المجتمع.

يُعد الميراث النضالي للمرأة الكردية ضمن صفوف حركة التحرر الكردستانية الذي انبثق من فكرٍ وفلسفةٍ نضرةٍ ترى في المرأة الحياة كلها وليست كما تروجه الفلسفات الكلاسيكية على أن المرأة نصف المجتمع، وربما هذه الخاصية الفكرية والفلسفية تُعد أحد أهم السِمات البارزة التي جعلت من حركة التحرر الكردستانية متقدمةً في رُقِّيِها وثقافتها على أمم تدَّعي صونها لحرية المرأة عبر تقديم المرأة كسلعة ومادة ترويجية جوفاء خالية من الروح والحياة والطاقة، وربما لا نكون مُبَالَغِينَ بالقول: إن الذاكرة الجمعية للشعوب تُقاس بمدى غِناها النضالي وحجم التضحيات التي يقدمها أبناؤها في سبيل المحافظة على وجودهم كأمة، وخاصة إذا كانت المرأة هي الطليعة الرائدة التي تتقدم ميادين النضال وتكسر القيود التي فُرضت عليها منذ خمسة آلاف عام.

أجل هكذا بدأت المسيرة التحررية الكردستانية نضالها التحرري باسترجاع  زخمه وإرثه الحضاري الذي كانت المرأة فيه منبع الحياة ومصدر الطاقة المتدفقة منذ الخليقة الأولى للبشرية فهي كانت عشتار وإنانا ونفرتيتي وزنوبيا وليلى قاسم وزيلان وفيان وسكينة وشيرين علم هولي وآرين وبارين وآفستا …… وغيرهن العشرات اللاتي ما زلن يحملن رايات النضال والتحرر على أكتافهن ليس لخلاص أنفسهن من براثن العبودية المستفحلة في شرقنا الأوسط إنما لخلاص الإنسانية جمعاء من الذهنية التدميرية التي جلبتها الذكورية المادية النفعية المتسلطة التي تتلذذ بأساليبها التدميرية ومنهجية الهيمنة المتفردة التي ترفض ثنائية التكوين الإنساني كسبيل وحيد لإحداث التوازن بين الطاقة المفعمة بالمشاعر التي تمثلها المرأة والمادة الخالية من القيم التي تمثلها الذهنية الذكورية.

المسيرة النضالية التراكمية للمرأة الكردية سلسلة لم تنقطع منذ انطلاقة المسيرة الملحمية لحركة التحرر الكردستانية

حيث تقول فلسفة وفكر هؤلاء المقاتلات حسب مُنَظِّرَها القائد عبد الله أوجلان ((إن أول القضايا المجتمعية والهرمية الأولى للسلطة والاستغلال والهيمنة قد تجسدت عموماً في حاكمية الرجل على المرأة, فبالمستطاع تسمية القضية الاجتماعية الأولى بقضية المرأة. وبعدها تطورت الطبقات الاجتماعية المُستلهمة من عبودية المرأة تم الانتقال بالتماشي مع تكوين طبقات العبيد إلى مرحلة القضايا الاجتماعية التي تطال الجنسين دون تميز إذ بقدر ما تُعرف المرأة يغدو تعريف الرجل أيضاً أمراً وارداً إذ من المُحال صياغة تعريف صحيح للمرأة والحياة انطلاقاً من الرجل. ذلك أن الوجود الطبيعي للمرأة يتحلى بمنزلة محورية أكثر ولمعرفة مفهوم الحياة الندية التشاركية الحرة فإن القائد عبد الله أوجلان  طرح  قرينة الطاقة – المادة أساساً لدى تصيره هذا الحكم عالمياً. الطاقة أساسية أكثر نسبة إلى المادة. والمادة بذاتها طاقة متحولة إلى بنية. أي أن المادة هي شكل إخفاء الطاقة وإكسابها وجوداً ملموساً. بالتالي بخاصيتها هذه تحبسُ الطاقة في قفص وتوقف تدفقها. لكل شكل مادي حصة مختلفة من الطاقة وبالأصل فهذا الاختلاف في الطاقة هو الذي يحدد اختلاف وتباين الأشكال والبنى المادية. الطاقة الموجودة في شكل المرأة ومادتها تختلف عن تلك التي في مادة الرجل ذلك أن الطاقة المنقولة إلى المرأة أكثر كما ومختلفة نوعاً على حد سواء ينبع هذا الاختلاف من شكل المرأة. عند تحول طاقة الرجل في الطبيعة الاجتماعية إلى أجهزة السلطة فإنها تتخذ لنفسها الأشكال المادية الملموسة. والأشكال تعصبية في الكون برمته بوصفها طاقة متجمدة لذا فالتحول إلى رجل مسيطر في المجتمع يعني التحول إلى تجسيد عينة السلطة. وفي هذه الحالة تكون الطاقة اكتسبت شكلا عَينياً . وقليلة هي الطاقة غير المتحولة إلى شكل ملموس حيث تشاهد في عددٍ نادر من الأشخاص. أما لدى المرأة فغالباً ما تعاند الطاقة التحول إلى شكل ملموس. حيث تحافظ طاقتها على حالتها المتدفقة. وتستمر في تدفقها كطاقة حياة. في حال لم تحبس في شكل الرجل وقفصه. والجمالية والشاعرية وطاقة المعنى الكامنة وغير المتجمدة لدى المرأة هي ذات صلة وثيقة مع هذه الحالة السائدة من الطاقة ولأجل فهم هذه الحقيقة يتوجب إدراك الحياة الحية بكل أعماقها))

ومن هنا يمكن إدراك أسطورة وملاحم هؤلاء المقاتلات ومسيرتهن النضالية التراكمية كسلسلة لم تنقطع منذ انطلاقة المسيرة الملحمية لحركة التحرر الكردستانية من على ذرى جبال كابار وسجون آمد لتمتد إلى روج آفاي كردستان وربما يمكننا استنباط هذه الزخم النضالي من الميثولوجيات الكردية برهاناً لنظرية تناسخ الأرواح في الديانات الكردية القديمة، كتكرار انبعاث الأرواح كأسطورة ميلاد فيان من ثم استشهادها ومن ثم عودة روحها إلى الجسد كحقيقة عايشناها ولا نزال نشهد على ولادتها من جديد كلما استشهدت فيان فليس مصادفة على الإطلاق أن تلد فيان أمارة وفيان صوران وفيان بيمان من نفس الرحم وبنفس الروح النضالية وتحتضن أرواحهن نفس الثرى المقدسة في ميزوبوتاميا أو كردستان.

أجل تتناسخ الأرواح في كردستان خصال الجمال والطهارة والنية والأمل والفكر ويتوارثن نفس الاسم ويسرنَ في نفس الطريق، فهل ثَمةَ برهان أقوى من هذا على صدق نظرية وفكر وفلسفة هؤلاء المناضلات؟ ويمكننا سَوْقُ نفس التراجيديا الملحمية للمناضلات الثلاثة ليلى كوفن وليلى شايلمز وليلى زانا بحيث يمكننا التأكيد أن الشعب الكردي يتوارث النضال من أمهاته ويرضعنه من فكرهن وفلسفتهن وقيمهن، وربما تُعد أعظم توارث للنضال عرفته البشرية على الإطلاق هي ملحمة وأسطورة آرين ميركان وآفستا خابور وبارين كوباني اللاتي جابهن أشد قوى الإرهاب سفكاً للدماء وقتلاً وهمجيةً سواء كان داعش أومثيلاته أو الاحتلال الفاشي التركي بكل ما تمتلكه من آلة تدميرية وتكنولوجيا حربية.

الحرية الغربية الجذابة محل شك والتباس أمام مظاهر الحرية الحقيقية

إن المتتبع لاهتمام العالم على المستوى الشعبي وحتى على المستوى الرسمي لمسيرة المناضلات الكرديات سيجد أنه يعكس حقيقة هذه الرؤية الثاقبة لفلسفة وفكر هؤلاء المقاتلات؛ فالمجتمعات الغربية التي ما فتئنا نسمع عن ديمقراطيتها وحريتها الجذابة باتت الآن في محل شك والتباس من مظاهر الحرية الخادعة التي تعيشها أمام إرادة الحرية التي يحملنها هؤلاء المقاتلات ومفهومهن للحرية ومعناها الأصيلة النابعة من جذورها الطبيعية على عكس الحرية المزركشة التي تروجها الأسواق الرأسمالية كزينة تنتهي صلاحيتها بانتهاء مواسم الموضة أو رواج سلعة أخرى أكثر مردوداً ورواجاً دعائياً وأكثر خُلاعة أخلاقية لتتحول إلى قوانين ربحية قابلة للتغيير حسب الفائدة المادية والربح المالي الأعظمي والتي تكون فيها المرأة السلعة الأكثر إيراداً للمال والأكثر قابلية للترويج الدعائي (للحرية) التي يسعون في مجتمعاتهم لقبولها، والإقبال عليها واقتنائها. وقد لا يكون من المُبَالَغِ فيه القول: إن انبهار المجتمعات الغربية بالمقاتلات الكرديات ومحاولتهم فهم المعنى الحقيقي للحرية التي تتمتع بها هؤلاء المقاتلات ورغبتهم في السعي لفهم المزيد عن هؤلاء المقاتلات التي يتصدرنَ مُعترك النضال والبطولة في وجه الهمجية المنظمة للدولة التركية ومرتزقتها وقبلها في دحر الإرهاب في معقله الأساسي في الرقة وغيرها؛ لَهُوَ إثباتٌ بأن الثقافة التي تتنمي إليها هؤلاء المناضلات هي تحوُّلٌ نوعي على أن فكرهُنَّ وفلسفتهن هي التي يجب أن تتقدم أي حل لمعضلات الشرق الأوسط وخاصة أن هؤلاء المناضلات المقاتلات أصبحن رموزاً عالمية لم يعد بالإمكان غضُّ النظر عن مسيرتهن التحررية انطلاقاً من أيقونة كوباني آرين ميركان ومروراً ببارين كوباني وآفستا خابور وغيرهن اللاتي ما زلن يتقدمن جبهات النضال ويجابهن بأجسادهن وأرواحهن أعتى قِوى الإرهاب المنظم والممول من دول ومحاور إقليمية.

لـ (آرين وبارين وأفستا) الدور المحوري في إرساء السلام وقِيَم الحرية

ومن هنا بات لِزاماً على العالم الحُرِّ كي يتخلص من الذهنيات والعقليات التدميرية التي باتت تهدد المجتمعات البشرية بالفناء والانحدار الأخلاقي. لابد أن تستعيد المرأة بشخص وفكر المرأة الكردية المناضلة (آرين وبارين وافستا) دورها المحوري والجوهري في إرساء السلام وقيم الحرية وتستردَّ تاريخها المسلوب وريادتها وقيادتها للمجتمع بشكله الطبيعي الأصيل دون حروب وإراقة للدماء وسلب واستغلال لإرادتها أو إرادة المجتمع بأسره  ففي السنوات الأخيرة من الحروب  في الشرق الأوسط وخاصة في روج آفا وشمال سوريا أكثر من انضم إلى مسيرات منادية بالسلام والحرية والعدل والمساواة؛ كانت النساء والأمهات وهو ما شهدناه  واقعاً في تصدرها قوافل الحرية المتجهة صوب مدينة الصمود والمقاومة في عفرين التي عاشت  في أتون حرب ضروس فرضتها الهيمنات الدكتاتورية وقوى الظلام والإرهاب متحدينَ الموت وهنَّ يرفعنَ شعارات النصر ويرفضن تسليم شجرة الزيتون التي تشبههم في جمال أروحهن ومَزيِّتِها كرمزٍ للسلام والمحبة وهن أكثر من بادرنَ  وتحمسنَ وأضأنَ  الشموع وذرفنَ الدموع في سبيل أن يحافظ هذا العالم على ما تبقى من قيم ومبادئ إنسانية أصيلة والتي تمثلت بروح آرين وبارين وآفستا ورفيقاتهن المتواجدات في جبهات الوغى اللاتي يجابهن ويناضلن لاستعادة فطرة إنسانية فُقدت في بوتقة المنافع والمصالح المادية الخالية من الأصالة ومن هنا ينبع فكر وفلسفة هؤلاء المقاتلات حيث يتميز تحرر المرأة بعظيم الأهمية في سياق التحول إلى مجتمع ديمقراطي وأمة ديمقراطية فبالمرأة المتحررة التي تمتلك الإرادة الحرة المتنورة يُولَدُ مجتمعٌ متحررٌ والذي بدوره ينتج البنية السليمة للتحول الديمقراطي، والمجتمع الذي ينكر للمرأة دورها ويحرمها المشاركة في الحياة المجتمعية بشكل ندِّيٍ حُرٍ فإن هذا المجتمع سيبقى متخبطاً ومفتقراً للمعنى الحقيقي للتحول الديمقراطي وهذه المجتمعات ستكون عُرضة لكافة أشكال الاستبداد وقد تصل لحد الإبادة الثقافية والاجتماعية وصولاً للإبادة الجسدية فالمجتمعات القائمة على الذهنية الذكورية المتسلطة لا يمكن لها التطور إن لم تأخذ بالحسبان الصيرورة الطبيعية لمجتمعاتها والتكوين الحقيقي القائم على الحياة الندية الحرة التي تعطي المعنى الحقيقي للمرأة ودورها في قيادة المجتمع وحمايتها والدفاع عنها.

إعداد: ياسر خلف

زر الذهاب إلى الأعلى