مانشيتمقالات

ملامح خريطة الطريق في الأوجلانية

محمد عيسى ــ

إذا كانت المهمة الرئيسية للفلسفة ــ بحسب إجماع الدارسين ــ هي طرح الأسئلة، فلأن مهمة الإجابة عليها هي من وظائف التطور الحادث في حركة معارف أخرى عديدة، أو في تضافر جهود تلك المعارف في سياق مفتوح من الزمن،

فإن الفلسفة الأوجلانية قد انشغلت عميقاً في تقديم إجابات مقنعة على تلك الأسئلة. حالما كان قد تكاثف زخمها أو انسد مسار الضوء نحوها.

وإذا كانت زبدة المعرفة تتجلى في المعارف السياسية وفلسفاتها “بحسب ماركس”، فلا شك بأن أوجلان قد يكون هو من سيعيد قاطرة الماركسية إلى سكتها أو هو من صار يدير قُمْرةَ القيادة فيها…  بعد أن وهنت وتعطلت محركاتها أو انتهى منسوب الوقود في خزاناتها… ولأنها مهمة شاقة جداً وتحدياً تاريخياً على مستوى العقل والمعرفة ومسالك   الابداع الإنسانية… فهم قليلون جداً أولئك الذين تنطحوا للنهوض بها…. ولئن حاول المفكر العربي المصري الكبير “سمير أمين” في نظريته عن المركز والأطراف، أن ينفخ الروح فيها من جديد عبر نكهة جديدة من صراع طبقي اقتصادي عالمي جديد بين دول المركز الرأسمالي وأطرافه… ورغم أهمية توقعاته التي قد يكون قد تقاطع معه في بعض تنبؤاته “هنري كيسنجر” عشية سقوط الاتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينات القرن الماضي، فإن أحدا لم يحذو حذو أوجلان في اكتشاف الطريق الصحيح. لأن أحدا لم ينجح مثله في فهم قوانين الحركة التاريخية، وعلى ضوء ذلك كان هو الأقدر على نقد التجارب التاريخية واكتشاف نواقصها، ومن بينها نقد التجربة الاشتراكية التي قامت على مساحة تقارب أكثر من نصف الكرة الأرضية وعاشت خلال ردح طويل من الزمن.

وعلى هذا النحو وفي سياق الإضاءة على نقاط التفرد والألمعية في المقاربات الأوجلانية لقضايا التطور في حياة التشكيلات الاجتماعية وانتقال البشرية في بعض مجتمعاتها من الرأسمالية إلى الاشتراكية، يجب أن ننوه بأننا نتناول حقلاً واحداً فقط من الحقول التي اهتمت الأوجلانية بالتركيز على دوره في صياغة الواقع، ويتمثل بالبُعد الاقتصادي، وبماهية النظام الاقتصادي العالمي ومسؤولياته في مرحلة معينة عن تحديد النظام السياسي والستاتيكو السياسي العالمي لحفلة من الزمن.

فالنظام الاقتصادي العالمي الذي أبدع أوجلان في تشخيص عوامل القوة والضعف فيه، هو نفس النظام الرأسمالي العالمي الذي أشار هنري كيسنجر إلى نقاط ضعفه وإلى التحديات التي سيواجه هذا النظام بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار الشيوعية؛ حين قال (… سيكون على البشرية مواجهة تحدي الحاجة وإلى خلق نظام اقتصادي عالمي جديد يعيد ربط الحلقات التي ستخرج من النظام السابق…) وإذا كان في هذا الكلام إشارة صريحة على اعتوار النظام الاقتصادي الرأسمالي وعدم كفايته لتحقيق الاستقرار والعدل والسلام بين الدول والمجتمعات. فيما يذهب اوجلان إلى مكان آخر، ويقدم تشخيصاً يُفصِّل فيه عوامل القوة والضعف في ذلك النظام.

فالنظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على ملكية الأفراد، جوهره، الاعتماد على قوانين السوق، والمنافسة فيها، وقانون العرض والطلب وحرية انتقال السلع، فيما أن النظام الاشتراكي الذي نشأ على تخومه، قد استبدل الملكية الفردية المعتمدة في النظام الرأسمالي بـ، ملكية الدولة، التي تحولت في النهاية وبسبب انعدام الديمقراطية وتنامي البيروقراطية إلى رأسمالية دولة احتكارية من سماتها احتكار السوق بل تقويض السوق كما يرى أو يسميه أوجلان. نتج عنها، أن فقد النظام الاقتصادي في ظل دولة ما تسمى بالاشتراكية، مزايا مرونة وحرية السوق المتوفرة في النظام الرأسمالي. باعتبارها ميزة أساسية وايجابية أيضا تتيح للمستهلكين في ظل الرأسمالية التنقل بين الخيارات… في حين خسر النظام الاشتراكي ميزة خيار السوق الحرة والتي قوضها بيديه.

نخلص إلى أن جميع المقاربات تتفق على أن نظام العصرانية الرأسمالية والذي يعتمد في أساسه على الاستغلال، ويشكل خطراً على سلامة البيئة بحسب الاهتمامات الأوجلانية… ففي حين يرى سمير أمين أن نهايته قادمة لامحالة من أطرافه، لأن نقطة ضعفه في دول الأطراف التي ستنقلب يوماً على النظام في مركزه، وذلك لأن دول المركز استطاعت أن تلعب أدوارا وطنية تجاه شعوبها على حساب الشعوب في دول الأطراف، كما سيستدعي ارتداد مجتمعات الأطراف ضد النظام الرأسمالي يوماً…. ورغم وجاهة هذه الفكرة، إلا أن أوجلان، يركِّز على جانب آخر وخاصية أخرى متوفرة في نظام العصرانية الرأسمالية، ألا وهي تنامي دور المجتمع المدني المتمثل بوزن الأحزاب والنقابات والصحافة وضغط الرأي العام في ظل قوة الدولة، “الدولة هذا المفهوم الذي يذمه أوجلان حين يستخدم نعت الدولتية في إشارة إلى أن الدولتية تحمل وظيفة معاكسة لمفهوم الديمقراطية، وبالتالي الدولة تعمل بالتعاكس مع المجتمع الأخلاقي السياسي المستند في جوهره على القيم الديمقراطية”، ولأن أوجلان يعطي وزناً كبيراً وأولوية في تاريخ النشأة لمجتمع الأخلاق السياسي، هذا المجتمع، أو منظومة الضوابط والقيم التي تصف أي مجتمع وبمجرد أن يتشكل، سينظم نفسه بنفسه… بمعنى أن المجتمع إذا لم يكن أخلاقي وسياسي، معناه أنه لم يتشكل بعد كمجتمع حقيقي، فالمجتمع المتشكل بالضرورة سيكون مجتمع أخلاق سياسي. بالخلاصة ورغم اعتبار أوجلان الدولة بأنها نقيض ومنافس للمجتمع الأخلاقي السياسي، إلا أنه يسلط الضوء على نقطة هامة جداً، ويأخذ البحث من خلالها إلى التفكر من جديد بإمكانية تطوير المجتمع الرأسمالي…مجتمع العصرانية الرأسمالية ونظامها العام بالمعنى التاريخي، وذلك بقوله: يمكن أن يتعايش مجتمع الأخلاق السياسي “مع شروط الدولة” في دولة العصرانية الرأسمالية ضمن تنافس حضاري وتتطور مأمول.

وإلى ذلك وضمن هذا التصور يمكن القول: إن المجتمع المدني وضغط الرأي العام يتقاسم النفوذ مع سلطة الدولة المتماهية مع مصالح الطبقة الرأسمالية، ما يعني أنه في ظل دولة العصرانية الرأسمالية، هناك مجتمع أخلاقي سياسي وازن ومؤثر في تحديد التوجهات العامة للدولة وفي رسم السياسات الاجتماعية ومستويات الحماية والرعاية الاجتماعية للأفراد.

ومن يراقب دورة الانتخابات الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية والتي خسرها الجمهوريون ومرشحهم ترامب وبما   يعاكس التوقعات “حيث كانت تدور تكهنات أن في التقاليد دورتان للجمهوري تتلوها في الغالب الأعم دورتان للحزب الديمقراطي” لأنه وإدارته قد فشلوا في نظر الجمهور الأمريكي في تقديم الرعاية الصحية والخدمات الكافية أثناء انتشار وباء الكورونا، ما دفع الرأي العام الى معاقبته لإفشال فرصه أو لنقل: إن نوعاً من فعالية مجتمع الأخلاق السياسي   قال كلمته في شكل السياسة الأمريكية، واليوم، نفسه مجتمع الأخلاق السياسي في بلدان عديدة من بلدان الغرب الرأسمالي يفعل فعله من أجل وقف الحرب على المدنيين في حرب إسرائيل في غزة.

زر الذهاب إلى الأعلى