مانشيتمقالات

كيف تصير عبداً طوعياً لمستغليك

الفضل شلق

في الحداثة أنت فرد، تحللت من العلاقات البدائية، تقف في مواجهة العالم، عضو في طبقة، تمارس الإنتاج، تخضع للاستغلال، تتواضع ذاتك أمام ما يحيط بك من أخطار، تكاد تسحقك الرأسمالية، تشكل نقابات وجمعيات، أنت مستقل عن العالم، عن الموضوع، تدرك تواضع ذاتك أمام الموضوع. فرديتك لا تمنعك من الانضواء في علاقات مع الآخرين، تعرف كيف تحسب مصالحك، بعض الانتهازية يحتمها تقديم الخاص على العام وهذا نوع من حساب المصلحة، لكنه حساب مبني على فرضية أن ما تكسبه بالتعاون مع الآخرين أفضل وأكثر مما تخسره وأنت صاحب موقف وحدك. تتواضع الذات أمام الموضوع (أي العالم الخارجي). يبقى الموضوع قابلاً لأن لا يعرف إذا لا تطغى الذات على الموضوع. لا تكون الذات أقوى من الموضوع. لا يعتبر الموضوع مجرد فكرة أو مجرد شعور في مواجهة الذات. للموضوع احترامه. في مواجهتك معه، في تأكيد فرديتك أمام العالم تدرك صغر حجمك أمام العالم. بمعنى إفشاء العلاقات التي تتحول إلى بنى اجتماعية لمواجهة العالم. أنت فرد لا فردي. فرد لا تواجه العالم وحدك تشكل النقابات المبنية على المصلحة كي تواجه العالم. ليست المصلحة سيدة الساحة. الفرد هو السيد. المصلحة مكرسة لخدمة الفرد يكرس المصلحة لخدمة ذاته المتواضعة. يشكل النقابات لكي لا يبقى مكشوفاً، يتجاوز الفرد علاقاته التقليدية، كالعشيرة والعائلة والمذهب إلى النقابة والأمة والأممية.
في ما بعد الحداثة أنت فرد دفعت حداثتك إلى حدها الأقصى. تقف فرداً خاضعاً للتحكم بك. أنت وحيد تشعر بالعزلة، تعوّض عن العزلة بالانتفاخ الذاتي. ذاتك أقوى من الموضوع. أحياناً لا تحتاج إلى موضوع، تهدم البنى والبنيوية. كل ما تحتاجه ليس التفسير بل التأويل. في التفسير تحترم الموضوع. في التأويل لا تحترم إلا ذاتك بحجة قراءة ما وراء النص. تكنولوجيا ما بعد الحداثة تهدم البنى كل البنى الأولية كالعائلة والاثنية وحتى القومية وحتى الدولة. لا تبقى إلا أنت. أمامك الآلة، آلة المشاهدة، ووسائل الاتصال الاجتماعية. كل كتاب وكل قاموس في متناول يدك. تحمل قاموساً، بل قواميس العالم في آلة جيب. تستخرج منها كل المعلومات. تخسر قوة الربط والعقلانية والتواضع أمام الموضوع. الموضوع أمامك في جيبك: معلومات كثيرة لا أصل لها. يتفكك المجتمع، يجري تدمير بناه التي تم إنشاؤها في عصر الحداثة. رأسمالية ما بعد الحداثة تحتاجك كفرد، لكنك فرد مستهلك غير منتج. الإنتاج انتقل نقلته الرأسمالية، إلى «بلاد برا» التي حجبتها عنك قرية كونية. في أحيائها لا يجتمع الإنتاج والاستهلاك، جزؤها المتقدم عبر ما قبل الحداثة إلى الإنتاج. عَبَر التأخر إلى الحداثة ويعبر الحداثة إلى ما بعد الحداثة. الفرد الذي أنتجته الحداثة أصبح وحيداً معزولاً مستوحشاً، واقعه هو «السرياليتي شو»، لا يدرك الموضوع سوى من خلال وسائل الاتصال، يقضي وقته مع الآلة التي في جيبه. يحسب أنه يتحكم بها، في حين انها هي التي تتحكم به. تحوّله المعلومات التي يزوّده بها الحاسب الممتلئ دوائر معارف إلى ذيل الحاسوب. هو فرد يحسب، يصبح عبداً لحساباته. يستدين، يضطر إلى الاستدانة. لا يدخر. لا يستطيع أن يدخر. الاستهلاك ذو أولوية على الإنتاج. يستدين لشراء كل شيء. لا يشتري فقط ما يحتاجه. يستدين ليشتري ما لا يحتاجه. بطاقات الائتمان في جيبه. كل منها يغويه. هو قابل للإغواء. يجب أن يستهلك دون عقلانية ليحافظ عما بقي من سويته العقلانية. تحوّل من العقلانية ومن التواضع أمام الموضوع إلى الانتفاخ الذاتي وإلى التعالي على الموضوع، يفقد قدرة الربط والحساب. المصرف يحاصره. لا يحتاج للادخار لشراء سيارة أو دفع أقساط الأولاد. يحتاج إلى قرض لشراء الألعاب التي تكثر في بيوت الفقراء ولا يستخدمها أحد. لا سلوان للأولاد إلا في الشارع حيث يعوّضون بيأس عن بعض عزلتهم.
رأسمالية الواحد في المئة، هي رأسمالية القرن الحادي والعشرين. لا تحتاج إلى إنتاج ومنتجين. الإنتاج تصدّره البلدان المتقدمة إلى المتخلفة من أجل الاستفادة من رخص الأيدي العاملة. تحتاج فقط إلى مستهلكين، هي مالكة 99 في المئة من ثروات العالم. الاستهلاك لديها تحصيل حاصل. بقية العالم التي تعمل لديها تنتج ولا تستهلك (إلا القليل كي تبقى على قيد الحياة، قادرة على الشغل).
القوى المنتجة بعيدة لا تستطيع التضامن في نقابات. يتولاها الاستبداد وأحياناً يكون حزبياً شيوعياً ورأسمالياً (الصين) وأحياناً يكون ليبرالية ـ رأسمالية (الهند). هما معاً ومع ما يشبههما أي أكثر من نصف العالم سكاناً. مجتمعات تنتج ولا تستهلك مقابل مجتمعات تستهلك ولا تنتج. لكنها جميعها تملك الآلة في جيبها. تزودها بكل معلومة. تجيبها عن كل سؤال. لا حاجة للمعرفة. لا حاجة للعقل، العقل هو الربط. لا تحتاج إلى ربط. وسائل اتصال اجتماعية تدمّر علاقات المجتمع إذ لا تعود هذه ضرورية. لقد دمرت البنى الاجتماعية التي كانت أساسية للمعرفة.
المعلومات التي في جيبك، أو التي تتدفق عليك من شاشة التلفزيون ليس فيها ربط، لا حاجة للربط والنِسب. معلومات تتكاثر وتتكدس في الرأس. يتوقف الدماغ عن العمل، وقد جُرّد من مهمته التي هي الربط. تزداد العزلة. تؤدي أحياناً الى الانتحار، إذ تتخلى عن العلاقات الاجتماعية، فأنت تتخلى عما يجعلك لازماً ملتزماً. تصير وأنت لا ضرورة لك إلا كرقم ائتمان أو رقم حساب، منتجاً أو مستهلكاً. بعد فصل العمليتين، لا يمكنك أن تشكل خطراً. إذا كنت في نقابة مستهلكين، تطالبك البنوك بالدين، تضعك على لائحة الإفلاس. تخسر بيتك ووظيفتك. وإذا كنت في نقابة المنتجين فأنت والقطاع الذي تعمل فيه قد أحيل إلى بلدان الاستبداد كي تمعن فيك العقاب لأنك اخترت الانضمام إلى تنظيم حزبي أو نقابي.
أنت في البلدان المتأخرة تنتج لا كي تستهلك. أنت تنتج للتصدير. مع انتهاء مهمة بلدك، تصبح أنت عرضة للتصدير. يكثر المهاجرون. يموتون في عرض البحر. هي فقط مشكلة إنسانية للبلدان الراقية التي لا ترى فيك إلا جانبك المهاجر والتهديد الذي يمكن أن تشكله للقوى العاملة فيها.
تعود العنصرية. القوى العاملة في بلدان الإنتاج المتقدمة (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) ترى في المهاجرين القديمين والمهاجرين الجدد منافساً لها. بينما ترحب البلدان المتقدمة برأسماليي البلدان المتخلفة فإنها ترفض مهاجري هذه البلدان الفقراء. الرأسماليون الأغنياء ينتمون إلى الطبقة العالمية ذاتها. يستطيعون أن يعيشوا في أي بلد، ويمكن أن يملكوا في أي بلد. ما يُسمح لهم يُمنع على غيرهم. يُرحب بهم. الرأسمالية العليا في كل أنحاء العالم مندمجة في ما بينها. الدولة لا تعني لها شيئاً. إنها فقط موقع لتراكم الثروة (أو سحب الثروة منها، إذا كانت في بلد متخلف). قومية البلدان المتقدمة تتحول إلى فاشية، وفي البلدان المتأخرة يحذون حذوها.
هذا البلد الذي جاءت منه لم يعد ممكناً وصفه بالتخلف. هو دخل الحداثة لكنها حداثة البلد المستعمر. حين قام الاستعمار على استيراد المواد الأولية وتصدير البضائع المصنعة. أما في مرحلة ما بعد الحداثة فأنت إذا كنت من بلد متخلف تصدّر لا المواد الأولية فقط بل تصدّر منتجات الصناعة والموارد البشرية المتعلمة، أو فاقدة المهارة (واحدة للاستخدام، وواحدة لتسبب مشكلة لا حل لها كما يدّعون). الذين لا يجدون حلاً في بلادهم يهاجرون، والذين منهم لا يجدون حلاً في بلاد الهجرة، ليس أمامهم سوى مخالفة القانون أو الانتحار. الانتحار مخالف للدين، إذاً الموت في الجهاد في سبيل الله. يخترعون ديناً، يخترعون تاريخاً، يزوّرون خلافة، ألا يفقد العقل تواضعه في مرحلة ما بعد الحداثة؟ بعض فقدان تواضع الذات أن تصير موصولاً بالله على الأرض كما في السماء. الانتحار ليس موتاً، هو انتقال من صحبة إلى صحبة. فرد ينتحر، مجتمع ينتحر. أليست الحروب الأهلية انتحاراً. السّياف بالانتظار. أنظمة الاستبداد تعمل عمل السّياف.
العالم قرية عولمية أساسها التواصل، لكن قاعدتها الفصل والعزلة والوحشة. عيناك مسمّرتان على شاشة التلفزيون. لا تحتاج إلى السفر. ينتقل العالم إليك. تدفق الأمكنة سمة العصر. بتغيير محطة تلفزيونية واحدة تنتقل من شرق الأرض إلى غربها. مع تلفزيون الواقع تتوهم أن هذا ما هو أنت عليه. واقعك الجديد ليس على عتبة البيت حين تجتاز إلى الشارع خالي الوفاض. هو في بيتك حيث يقدمون لك واقعاً مغايراً يصير أنت. تصير أنت غير ما أنت عليه. تتراكم الأوهام. لا يراد لك إلا الأوهام. عليك بالاستهلاك. تُعان على ذلك بالدَّين. البنوك حاضرة، بطاقات الائتمان في جيبك. فرديتك صارت أداة لغيرة ـ تنتخب أعداءك ـ ليست النقابات ما يشفي الغليل. مودي في الهند، ترامب في الولايات المتحدة، نايجل في المملكة المتحدة، وإيلدر في هولندا، لوبين في فرنسا، والحبل على الجرار.
العلاقات الإنتاجية للحداثة جعلت هؤلاء على طرفي نقيض معك. اللاعلاقات الاجتماعية، ومنها تدمير البنى الاجتماعية، جعلتك عبداً لهؤلاء. شعبوية لا نعرف معناها، لكنها بالضبط رأسمالية بلغت ذروة تطورها. صار الوعي البشري ملكاً لها. لم يعد الأمر يقتصر على ملكية قوى الإنتاج والأيدي العاملة. ملكية قوى الإنتاج صارت تشمل وعي الطبقة العاملة التي تنتخب أعداءها من نصّابي ومنافقي الرأسمالية التي تجاوزت الوحشية. سيطرت على وعيك وأنت تخضع بمتعة لا نظير لها. لقد فشلت الشيوعية السوفياتية (ولم تكن إلا رأسمالية دولة) فما عليك إلا الانضواء للطبقة العالمية، كي تنضوي عليك أن تقدّم قوة عملك وتعود إلى العلاقات البدائية التي كادت تختفي، من عائلية وعشائرية وقبلية وإثنية وقومية، الخ.. أنت فرد معزول حزين، محروم المتع اليومية إلا التي تمنحها لك بطاقة الائتمان، والتي تغرقك بالدين الذي يؤدي إلى سلخ ما تبقى لك من بيت وثروة، هذه المتع هي ما يغرقك في دياجير العطالة والتهميش وانعدام الحاجة إليك.
رأسمالية القرن الحادي والعشرين ليست أفيون الشعوب هي كبتاغون الشعوب، مادة رخيصة تؤدي إلى الموت، في الجهاد أو خارجه.
صرت عبداً لمستغليك. الهاتف الذكي الذي تحمله يعرف كل شيء عنك وأنت لا تعرف شيئاً عما في داخله. بعد إدخال الرقاقة الرقمية إليه تفقد كل سيطرة عليه.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-11-18

زر الذهاب إلى الأعلى