مقالات

قراءة في الوجه الآخر لقرار الانسحاب الأمريكي

لا يساور المرء الشك في أن التغريدات الزئبقية التي خرجت من الإدارة الأمريكية بما فيها قرار الانسحاب أحدثت إرباكاً شديداً بين أوساط المحللين السياسيين والعسكريين، وانسحب ذلك الارتباك على الدول المتصارعة في سوريا ومِن بينها روسيا التي لم تَطمَئِنَّ لهذا القرار، ونظرت إليه بعين الشك والريبة ومازالت إلا تركيا التي عرضت نفسها لتنوب عن أمريكا كحامية الحمى ومحارِبة للإرهاب متناسية أنها تأسست على استنبات الإرهاب.

كل التحليلات والقراءات التي استفاضت بها مراكز الدراسات لم تستطع التكهن أو التوقع أو التخمين في فهم مغزى هذا القرار؛ إلّا أنها جميعاً تقاطعت والتقت في أن أمريكا بهذا القرار فجّرت قنبلة فراغية بين الدول المتصارعة على حلبة الأرض السورية وبَعثَرَتْ أوراق الحلول الكيفية الحاصلة من اتفاقات وتفاهمات وما شابه، وأحدثت خللاً في اتجاه البوصلة ومسار الأحداث والمعادلات القائمة لتوجيه دَفَّة السفينة السورية المتهالكة كما تريد هي، ويحتمل جانباً آخر أيضاً من التأويل وهو الانتقال من الحل العسكري إلى فرض الحل السياسي على الأطراف الدولية وذلك بالاعتماد على مواقف هذه الدول بعد توَهُّمْ البعض منها انسحاباً أمريكياً من شمال وشرق سوريا؛ إذ أن المعارك كانت دائرة في الجيب الأخير مع الإرهاب في هجين السورية.

إذن لقراءة ذلك لا بد من العودة إلى العلاقات التركية الأمريكية وكيف كانت تركيا الطفل الأمريكي المدلل في الشرق الأوسط رغم بعض المنغِّصَات التي شابت هذه العلاقات في الأزمة السورية والعقوبات على إيران والتهرب التركي من الالتزام مما زاد الخلاف السياسي الذي توِّج أخيراً برفض الرئيس التركي مقابلة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، والتحالف أو التفاهمات القائمة بين روسيا وتركيا التي تعتبر القشّة التي قصمت ظهر أمريكا رغم ممارسة شتى الضغوط أمريكياً لفك هذا الارتباط والتحالف ولكنها لم تُجدِ نفعاً مع تركيا، وهنا كان لا بد من ترويض تركيا ــ سواء بالترغيب أو الترهيب ــ من جديد التي شاغبت كثيراً وأرادت الإفلات من العقال، وإعادتها إلى الحظيرة الأمريكية ضمن الإطار المرسوم لها في حلف الشمال الأطلسي؛ بإشعال فتيلة الانسحاب وضرب التحالفات والاتفاقات الحاصلة بينها وبين روسيا تبدأ من مناطق خفض التصعيد في إدلب ومناطق الشهباء وهذا ما بدا ملامحه تلوح في الأفق رغم تشبث تركيا بذيول الاتفاق ومحاولة منع الاتفاق من الانهيار إضافة إلى استجدائها المعلن للوساطة الروسية لمنع أو تأخير دخول الجيش السوري إلى مدينة منبج الذي بات قريباً منها، وهذا ما سيفرض على الأطراف إما الخوض في الحلول السياسية أو الاستعداد لشرٍ مستطيرٍ يتربص بالمنطقة ولحرب شاملة؛ بيد أن المعطيات الحسية تدل على المُضي نحو الحل السياسي.

تركيا رغم زعبرتها في المنطقة وتباهي زعيمها أردوغان أمام جمهوره بمعاندته للإرادة الأمريكية خفضت جناح الذل، وتحاول كسب الصَّفحِ والارتماء السلس تحت آباط أمريكا بعد تغريدة ترامب الأخيرة وتهديد تركيا بتدمير اقتصادها.

بالمحصلة إن تداعيات الانسحاب الأمريكي لا يمكن التكهن بها بشكل قطعي؛ إلا أنها من المؤكد لَجَمَتْ العربدة السياسية والعسكرية التركية بل بدأت بالاضمحلال بعد (فركة الأذن) هذه، والخلاصة تكمن في أن أمريكا تنظر إلى الأرض السورية والمتخاصمين على أنها رقعة شطرنج، وتخطو خطواتها بكل عناية ودراسة عميقتين آخذة في الحسبان ردة فعل الآخر، وبناءً عليه ستتخذ الإجراء المناسب ولا يمكن لها أن تنسحب دون أن تحقق ما تريده سواء أكانت الفوضى لمئات السنين أو الاستقرار لمئات السنين حسبما تقتضي مصالحها.

   

زر الذهاب إلى الأعلى