مقالات

عن عودة داعش وطارئ الاحتلال التركي لعفرين، وعن سقوطهما في الصيف المقبل

ثقافتان قوِّيتا؛ جرّاء طارئ الاحتلال التركي لعفرين: ثقافة التعفيش كأهم مبدأ من مبادئ الجيش (التركي) الحر؛ فلا علاقة لمثل هكذا جيش وهكذا جماعات مسلحة بكل سوريا. التعفيش في مثاله الصارخ الصريح واعتداءات هذه الجماعات على مقدّرات المدنيين وممتلكاتهم في إقليم عفرين. وقد حرصت أنقرة في أن تبيّن بأن العرب هم سرقوا ممتلكات شعب عفرين وليس الترك؛ ربما بحركة استعراضية تقدمهم إلى (العدالة) التركية. الثقافوية الأخرى وهي الأخطر في المسألة عن عودة داعش. الأخيرة التي تحيلنا إلى مسألة مهمة باتت بحكم النتيجة المُثبتة التي لا تحتاج إلى تأويل. ترى ما سر المزامنة بين تمدد الاحتلالات التركية في المنطقة وعودة داعش إلى التحكم في بؤر ما تسميها بأرض التمكين، والملفت للنظر بأن أغلب (أراضي التمكين) تكون الملاصقة والمتاخمة للمناطق الكردية سواء في سوريا أو في العراق؟ فداعش ينشط بشكل كبير في شمال شرقي العراق وشمال غربه. كما أن العدوان التركي على عفرين منذ 20 يناير كانون الثاني المنصرم وحتى اللحظة كان بمثابة الجائزة الذهبية من تركيا إلى داعش؛ بخاصة بعد انسحاب لأجزاء من قوات سوريا الديمقراطية في وقت سابق لهدف الدفاع عن منبج وعفرين. وبالعودة إلى يونيو حزيران 2014 من بعد سقوط الموصل بيد داعش في فترة زمنية قصيرة وكان عرّاب هذه الصفقة هو القنصل التركي في الموصل وشخصيات عراقية متنفذِّة في السلطة من الموصل. وما لحقه من تسليم كامل موظفي وأعضاء القنصلية البالغ عددهم وقتها قرابة الستين إلى أنقرة دون أن يمسسهم خدش؛ جرى هذا التسليم (الإنساني) في الوقت الذي كان داعش يتفنن في القتل ويكثر من قطع الرؤوس والحرق بهدف الترويع وزرع الخوف لكل منطقة يبغي احتلالها. أمّا في مشهد تحرير الموصل فما فعله أمراء داعش وأعضائها النشيطين بأنهم تماهوا مع الصحراء بانتظار العودة، وللقاعدة التركية في بعشيقة الدور المحوري في هذا التماهي. وأن داعش –كما قلنا وقتها- أنها شركة متعددة الجنسية؛ لا زالت كذلك؛ لكن رئيس إدارتها هو النظام التركي في ظل وجود عشرين مصرف في تركيا وحدها؛ وظيفتها تمويل هذا التنظيم الإرهابي.

نعم الجميع من الإقليميين والعالميين يعلم، والجميع يرى في هذه الإدارة فرصة لتمرير أجنداتها. وشعب سوريا وبالأخص الشعوب التي تتلاصق مع هذه الجغرافيات الداعشية وحدها من يدفع الثمن، وهي بدورها تعلم بأنها حرب مفروضة على الكرد وعموم شعوب سوريا وفي المنطقة، وهذا جواب لمن يسأل: هل من المعقول بأن النظام المهيمن المتعدد الأقطاب لا يعلم ذلك أيضاً؟

أرض التمكين التركية

داعش مؤسسة تتبع بغالبها إلى النظام التركي. قاعدة مثبتة أيضاً مُذْ أن كان الجيش التركي يراقب ويستعد بسرور في انتهاء كوباني على يد داعش في آب 2014. نستطيع القول في ذلك بأن هزيمة داعش تعتبر بالحد ذاته الخسارة التركية الثالثة؛ من حيث أن الأولى كانت في مصر وانتهاء حكم الرئيس المصري مرسي في حزيران 2013، أما خسارتها الثانية فكانت في ليبيا بعد اسناد مهمة محاربة عموم تنظيمات الإرهاب إلى التحالف الدولي. بالطبع لم يفقد نظام تركيا أمل التحكمِّ لا في مصر ولا في ليبيا؛ وبشكل أقل في تونس. ولأنه في الفحوى لا يختلف سياسة أنقرة عن سياسة داعش في تحقيق أكبر قدر من مراكز التمكين لها في مختلف أصقاع الشرق الأوسط؛ فإن أنقرة في فعلها المزعزع للأمن والاستقرار في عموم الشرق الأوسط قد استطاعت بناء خمسة قواعد عسكرية لها من عمر الأزمات التي تجتاح المنطقة. واحدة معلنة في قطر. واحدة غير معلنة في جزيرة السواكن السودانية وتتكتم عليها بشكل كبير. واحدة معلنة في بعشيقة العراقية. وحدات على شكل مراكز تأمل أنقرة أن يتم تجميعها في قاعدة لها من شمال سوريا؛ فتكون الجامعة المشرفة على جرابلس واعزاز والباب، ومراكز لها في إدلب من اجتماعات استانا تحت مسمى (مناطق خفض التصعيد من جنوب السكة وشمالها)، أما الخامسة في نية إنشائها في إقليم كردستان العراق. وقبل ذلك كلها فإن لها أكبر قاعدة عسكرية في جنوب قبرص. ودائماً تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي التركي. مع العلم بأن الحقيقة تبدو في أن أنقرة تود أن تعيّر كل الشرق الأوسط وفق مزاج أمنها القومي المتعكّر أساساً على يد أردوغان. الأخير الذي قسّم الشعوب في تركيا، ويقوم بترويعه، ولا يستطيع أيّاً يكن –حتى اللحظة- أن يبادر إلى انهاء حالة الاستبداد المفروضة على تركيا؛ ولا يعلم أحد بالأساس متى ينتهي العمل بحالة الطوارئ المتشددة المعمول بها في تركيا والتي تتمدد تلقائياً.

من عفرين ومنبج إلى الرياض

مخطط الفاشيّة التركية يتطابق ومخططات النازية في ألمانيا إبّان الحرب العالمية الثانية. لكن أردوغان يرى أحد أهم العقبات في وجهه؛ أولاً انهاء الكرد، وفق الطريقة التي اعتمدها أجداده في انهاء الأرمن بشكل أكبر. يود أردوغان من الكرد بداية في تقسيمهم إلى (جيدين) و(سيئين)، الانتهاء من الثانية وتتريك الأول؛ كأفضل الخيارات المتاحة للفئة الأولى وفق عرف أردوغان الداعي إلى خلق المجتمعات المتجانسة. كأدبيّة من أدبيات النازية والفاشيّة. أما طموح أردوغان ومخططه في الوقت نفسه فإنه إلى قطر كممول أساسي رئيسي لحربه القذرة تكون العُهدة  في إدارة (ولاية الحجاز) المتألفة من السعودية وعموم بلدان الخليج العربي. لكن انتهاء طارئ الاحتلال التركي على عفرين هي مسؤولية جميع هذه البلدان في ظل الخطر المحدّق بها. بخاصة أنه تبيّن للجميع بأن ما حدث في عفرين ينبأ بأن الخطط المرحلية للتحالفات المقيمة/ المقسمة لسوريا وما نتج عنها من اتفاقات سياسية متعلقة بحل الأزمة السورية كما القرار الأممي 2254 والقرارات الإنسانية المتعلقة بوقف إطلاق النار على كامل الجغرافية السورية كما القرار الأممي؛ أيضاً؛ 2401 كلها باتت منتهية. التحالفات المرحلية وخططها تقع الواحدة تلو الأخرى. ما يحدث اليوم بأن فرص التصادم المباشر باتت هي المرجحة. ومن المتوقع أن تكون طهران وأنقرة أولى هذه المواجهات. مع العلم بأن موسكو تحرص أن تكون المواجهة ما بين واشنطن وأنقرة. تريد موسكو أن تكون أنقرة إلى جانبها؛ ويبدو أن واشنطن غير مستعدة حتى الآن أن تتزحلق أنقرة من يدها لتسقط في يد موسكو. لنقل بأن مسؤولية واشنطن فيما آل إليه الوضع في عفرين تكمن بأنها لم تظهر حتى اللحظة خطة متماسكة لحل الأزمة السورية؛ أو ربما لا تنوي إظهار ذلك. وبالرغم من تحذيرنا الرسمي منذ بداية الأزمة السورية من مغبّ التدويل؛ لكنه صار وبات أمراً واقعاً ونزلت العواصم الإقليمية والعالمية تباعاً على الحلبة السورية. وجميعها تحرص أن تبقى. فكيف لتركيا المنفلتة والمتروكة أن تكون في مركز الحلبة السورية، هذه الحلبة المعدّة على شكل لا يقبل إلّا بموت طرف حتى يتأهل الآخر إلى المرحلة المتقدمة الأخرى. لأن السياسة اللاأخلاقية تبدو مثل لعبة شطرنج. ملك يموت، ولعبة أخرى تبدأ. فما بالكم بكبار لعبة الشطرنج الأساسيين. أي موسكو: أبطال الشطرنج قادمون من لعبة الروليت. في كليهما يكمن الموت ويتشكّل.

هل طارئ الاحتلال التركي يكون في منبج أيضاً؟

لا اتفاق ولا تفاهم أمريكي تركي حدث في منبج. زيارة الوفد الدبلوماسي الأمريكي الأخيرة إلى منبج ولقاءاتها ومجلس منبج المدني والعسكري كان تطمين بحد ذاته. ليس لذلك أن يحسم بأن تركيا لن تكون في منبج. إنما أيضاً مرتبط بأن الاتفاقات في زمن الحروب تبدو لا قيمة لها فكيف إذاً بالزيارات؟ لكنها مهمة ومجدية إلى حد ما في هذا الوقت. وإذا ما حدث احتلال تركي لمنبج تحت بند الإدارة التركية الأمريكية المشتركة فيعني بأن وجود التحالف الدولي وأمريكا بالتحديد في المنطقة وليس فقط في سوريا بات في معرض المزعزع، وأن ذلك يكاد يكون بكشف الأوراق كلها دفعة واحدة. وحال حصول ذلك يعني بأن مصير هذه الأوراق هو الحرق. ويعني بأن أي تحالف ليس فيه طرف سوري وازن مؤثر على الأرض تكون بالكارثة لغيرها. وبالأساس لا وقت في جعبة أحد. الكل في جهد من أجل أن يشتري الوقت. السرعة باتت هي المطلوبة. نصف المنجز يكفي في هذا الوقت. لكن عفرين لم تنتهي حتى تكون تركيا في منبج أيضاً. والتصادم بين الإقليميين. المجابهة الأمريكية التركية باتت أيضاً بحكم الحصول؛ ومن المرجح أن تتصرف روسيا هنا أيضاً بعكس المتوقع وأن تقف مع واشنطن؛ بخاصة إذا ما كان قضية القرم وأوكرانيا وأمور تتعلق بالغاز وبالكاز على طاولة الاتفاق فيما بين العظميين. وهنا فأي شكل من أشكال سيناريو عفرين مستبعد إلى درجة كافية كي لا يكون في منبج. لأن السيناريو المتوقع يكمن في استرداد عفرين في القريب. هذا شأن كل من مصلحته أن لا تقع حجرة الدومينو التركية في عفرين؛ وما سيتبعها من وقوعات متتالية. عدم تمكين تركيا في عفرين يعود إلى السبب الرئيسي المتمثل بقوة المشروع الديمقراطي التي تستند إليه مقاومة عفرين. وهذا ما يؤثر بدوره إلى عدم تمكين تركيا في منبج؛ لكن تمكين المشروع الديمقراطي ليست مسؤولية المقاومين فقط؛ يكون مهمتهم بالدرجة الأولى؛ لكن هي مهمة كل بلد تفكر أنظمته السياسية أن لا تفيق وتجد مرفوع على عواصمها العلم التركي. لأنها ببساطة الحرب العالمية الثالثة التي تكون شرارتها إما في منبج أو في دمشق. ولن تكون إدلب سوى تفصيل أقل هامشية.

سقوط تركيا المدويِّ

لا جهة؛ فلا أحد بالضرورة؛ يستطيع التنبؤ بالوقت الدقيق التي تتغير فيه شكل المنطقة؛ منطقة الشرق الأوسط. لكنها تتغير منذ سبع سنوات. والشرق الأوسط الجديد يبدو بوضوح بشكله المعلن (الرسمي) حتى 2023. يلزمها حرب عالمية جديدة ونحن نعيش تحضيراتها منذ مدة؛ إننا نعيش في قلبها. أما تغيير الخرائط فهو نتيجة وفي الوقت نفسه درس مأخوذ/ مُخَلّفٌ عن الحربين العالميتين الأولى والثانية. بات الأمر بمثابة الحتمي؛ مع العلم لا يوجد الحتمي في التاريخ؛ هي منعطفات للفوضى؛ بنوعيها: الهدّام والخلّاق. لأن للفوضى نظام خاص لا تلاحظه العيون الرتيبة. لكن دون أن يعني بأن الجهد الكبير يكون متروكاً للعالمية؛ للأنظمة المهيمنة. إنما الجهد الديمقراطي المحليّ له الكلمة هنا. النظام الفاشي في تركيا ضد الديمقراطية وضد الشرق الأوسط الديمقراطي كحقيقة تاريخية مثبتة منذ آلاف السنين، وما ظاهرة النوروز إلّا من ظواهر هذه الحقيقة وتجلياتها أيضاً. الصيف القادم من المرجح بشكل كبير أن يكون على الأقل البداية الفعلية على انتهاء داعش ووجهه الرسمي أي النظام التركي. وما على أردوغان سوى أن يطلق الشعوب المسجونة ضمن السجن الأكبر في العالم أي تركيا؛ حولتها الأنظمة الاستبدادية التركية إلى سجن؛ لكن المسؤولية الكبيرة في هذا السجن يعود إلى أردوغان. هذه الشعوب يجب أن تحقق مصيرها بالشكل الديمقراطي وإلّا فإن تركيا ذاهبة ليست فقط إلى السقوط وإنما إلى التقسيم. الأخير تسعى إليها جاهدة رسّامي الخرائط وفارضي الهويّات المتجددة. من المهم أكثر أن تأفل الأردوغانية الداعشية أو الداعشية الأردوغانية إلى غير رجعة، والأهم الأكثر أهمية أن نحظى على حقيقة العيش المشترك، وأن الشرق الأوسط مجموعة من الأمم وليست بقوميات تتحارب؛ تتقاتل؛ تتماوت، فتنتهي كلها. ومن صيف 2018 إلى صيف 2019 تكون العاصفة على أشدها. الهدوء الذي يأتي بعد العاصفة هو جوهر القضية، ويجب الاستفادة من الهدوءات التي حصلت بعد عاصفتي الحربين الكونيتين. وأن يهدأ هذا الشرق. ألم يحن وقت هدوئه؟

زر الذهاب إلى الأعلى