ثقافةمانشيت

عفرين وجه التاريخ المُدنَّس بيد الاحتلال

عفرين؛ مدينة الورد والزيتون، مدينة الحضارة والآثار الخالدة في الذاكرة، يتلألأ اسمها عبر التاريخ، فهي مدينة الصمود والمقاومة التي أصبحت حكايات أبطالها وأسطورة نضالهم في أذهان العالم أجمع.

سنتحدث في تقريرنا هذا بداية عن الموقع الجغرافي لمدينة عفرين، وتاريخها العريق، حيث أنها تحوي على حضارات قديمة وآثار تعود لآلاف السنين، إضافة إلى انتهاكات الدولة التركية وضربها وتدميرها للمواقع الأثرية لهذه المدينة.

عفرين المعروفة عبر التاريخ كمدينة كردستانية أصيلة كانت مركزاً للكثير من الإمبراطوريات والحضارات، وعاش الهوريين والميتانيين (أسلاف الشعب الكردي) فيها في الفترة 1200 قبل الميلاد، وحكم المنطقة الإمبراطورية الآشورية، تلتها الميدية والفارسية وثم حَكَمَ المنطقة الاسكندر المقدوني (331 قبل الميلاد) وتحولت في عصر الاسكندر المقدوني إلى أهم مركز في المنطقة.

في سنة 64 للميلاد دخل الرومان المنطقة وحكموها، وفي سنة 637 وقعت المنطقة تحت حكم المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وحكمها العرب في عهد الخلافة الأموية، الأيوبية، العباسية والمملوكية.

في العام 1607 خضعت عفرين للاحتلال العثماني، وخلال عهد العثمانيين تم تشريد الكثير من العائلات وتعرض أبناءها إلى الكثير من المجازر على يد السلاطين العثمانيين، وبقيت المنطقة تحت الاحتلال العثماني إلى العام 1922، حيث دخل الفرنسيون المنطقة.

في عهد صلاح الدين الأيوبي كانت عفرين أحد أهم المراكز، ولا تزال آثار الكثير من العشائر الكردية التي انضمت إلى جيش صلاح الدين الأيوبي موجودة فيها، كذلك العلويين الكرد لجأوا إلى عفرين في العام 1500 نتيجة مجازر الدولة العثمانية بحقهم، لكن وبعد حكم العثمانيين للمنطقة الكثير من أهالي عفرين تركوها وتوزعوا على مختلف المناطق والكثير منهم قُتلوا خلال المجازر العثمانية.

كما وكانت عفرين ملجئ للكثير من الكرد الذين هجروا من قبل الدولة التركية، من مناطقهم بداية القرن العشرين أثناء الانتفاضات التي حصلت في شمال كردستان، وبعد انتفاضة ديرسم هجر عدد كبير من الكرد ولجأوا إلى عفرين، كقبر “نوري ديرسم” الموجود. مسجد “زيارة حنان” قرب قرية كفرجنة بعفرين، حيث تعرض إلى التخريب من قبل الدولة التركية، و الذي كان قد تحول لمزار لكل عاشق حرية.

أكثر الشواهد على الحضارة الهورية والميتانية موجودة في إقليم عفرين، لكن أغلب تلك الآثار دمرت بشكل متعمد من قبل تركيا أثناء وبعد عملية احتلال عفرين. كذلك عثر في عفرين على عظام الإنسان العاقل (ناندرتال) في إحدى كهوف عفرين أي إنها كانت مأهولة قبل آلاف السنين. وتوجد فيها قلعة النبي هورو (قلعة سيروس) والتي عثر فيها على الكثير من الآثار القديمة تعود لآلاف السنوات، وأيضا حصن عين دارى والذي شيد قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، وقلعة سمعان المعلم التاريخي ذو الأهمية الكُبرى بالنسبة للمسيحيين.

تقع عفرين في جهة شمال شرق الهلال الخصيب، وتمتد على مساحة 203 ألف كيلو متر، يحدها من جهة الشمال-الغربي جبال أمانوس، وشمالاً جبال طوروس، ومن جهة الشمال الشرقي منطقة الشهباء، ومن الجنوب جبل سمعان، ويبعد عن مركز مدينة حلب 60 كيلو متر.

يتألف إقليم عفرين من ثلاثة مناطق رئيسية وهي جنديرس، راجو وعفرين وتتبع لهذه المناطق 656 قرية، وتتبع لمنطقة عفرين نواحي شرا، ماباتا وميدانكي. ومنطقة جندريس تضم ناحيتي جندريس وشييه، وتتبع لمنطقة راجو ناحية راجو، ميدانا، بلبليه وبدينا.

عفرين التي كانت تمثل ثورة روج آفا وكانت الأكثر نشاطاً وتمثيلاً لثورة روج آفا، تعرضت للاحتلال من قبل تركيا وتُمارس فيها جرائم قتل، نهب، سلب، اختطاف، تطهير عرقي، تغيير ديمغرافي وشتى أنواع الانتهاكات من قبل تركيا ومرتزقتها.

فقبيل دخول الاحتلال التركي كانت مدينة عفرين المكان الأكثر أماناً واستقراراً على بقعة الأراضي السورية، حيث كانت استقبلت آلاف النازحين من المحافظات الأخرى الذين كانوا يعانون من ويلات الحرب من القهر والظلم الممارس بحقهم من قبل الجماعات الإرهابية المسلحة، وقد قدّم أهالي عفرين كل الاحتياجات لهؤلاء اللاجئين، وعلى الرغم من الإمكانيات الضعيفة لهيئة الخارجية إلا أنها لم توفر جهداً لتأمين احتياجات اللاجئين وقامت بتشكيل مخيمان لهم في عفرين وهما مخيم روبار والشهباء.

المدينة ذات نسيج مزخرف من كافة الثقافات والطوائف، وبعد تأسيس الإدارة الذاتية عملت على تقريب كافة المكونات من بعضهم البعض، فمنذ دخول الاحتلال التركي لمدينة عفرين عمل على خلق الفتنة وبث روح العداوة بين كافة المكونات الموجودة في المنطقة، ووضع نصب عينيه محو تاريخ وثقافة هذه المدينة الكردية العريقة وذلك من خلال ضرب آثارها التاريخية العريقة التي تعود لآلاف السنين.

تضمنت قائمة المواقع المهدمة التي أعلن عنها الناشطون: معبد عين دارا، موقع براد الأثري، آثار منطقة خرابي رهزا، كنيسة علبسكي، آثار موقع النبي هوري/سيروس، مزارات دينية على امتداد عفرين، قبور وأضرحة لبعض الرموز الكردية مثل تمثال “كاوا الحداد”، وضريح القديس “مارمارون”، إضافة إلى العديد من الأماكن الأثرية الأخرى، ونسلط الضوء على اثنين من هذه الأماكن الأثرية وتاريخها.

قلعة نبي هوري الأثرية:

تقع مدينة كورش (النبي هوري) شمال شرق مدينة عفرين مسافة 45 كم، يوجد في الموقع قلعة (النبي هوري) حيث كانت المدينة ذات يوم مركزاً دينياً وعسكرياً مهماً وذات شهرة كبيرة وبعدها أصبحت موقعاً أثرياً وسياحياً غاية في الأهمية ويعود بناؤها إلى القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد.

يعرف اليوم بقلعة (النبي هوري)، أما الاسم اليوناني للمدينة فهو (سيروس)، كما سميت (أجيابولس) أي مدينة القرينين (كوزما ودميانوس)، وقد بنيت كنيسة حول قبرهم، وكنيسة سمعان الغيور التي بناها ودُفِنَ فيها بعد موته. وكتب بعض المؤرخون اسمها (قورش) وأحياناً (كورش) نسبة إلى الملك الفارسي (كورش) حيث تعود المدينة القديمة إلى أيامه.

أطلال مدينة (نبي هوري) القديمة تقع على السفحين الشمالي والشرقي لمرتفع جبلي؛ أقيمت عليه قلعة /النبي هوري/ ويتحدد الموقع من الجنوب بهضاب قليلة الارتفاع مغطاة بأشجار الزيتون، أما الجهة الشمالية تمثل الإطلالة الخلابة للقرى الكردية في المنطقة، ويقابل موقع القلعة من الغرب قمة جبلية أخرى عليها أطلال لآثار حصن تابع للقلعة نفسها ويقال انه كان يصل بينهما نفق.

وكان يزور موقع قلعة (النبي هوري) آلاف السياح سنوياً من سكان المنطقة ومن المناطق الأخرى وخاصة الأجانب منهم، وذلك للتعرف على آثار عفرين والتمتع بمناظرها الخلابة. وقد قام الاحتلال التركي بسرقة ونهب آثار منطقة النبي هوري في عفرين، تأتي بعد انتهاكات كبيرة شهدتها منطقة عفرين بحق المدنيين ومزارع الزيتون وممتلكات المواطنين والبُنى التحتية، إذ كان المرصد السوري رصد قصف الطائرات الحربية منذ بدء عملية “غصن الزيتون” في الـ 20 من يناير من العام الماضي، على 3 مواقع أثرية، هي منطقة دير مشمش الأثرية في جنوب شرق عفرين، ومنطقة النبي هوري في شمال شرق عفرين، كما أغارت على منطقة عين دارة الأثرية في جنوب عفرين.

وتسببت الضربات في أضرار مادية بمنطقتي النبي هوري ودير مشمش، فيما خلفت دماراً كبيراً في موقع عين دارة الأثري.

هذا ويقع موقع عين دارا الأثري غربي قرية (عين دارا) الحالية بمسافة /1/ كم، وعلى مسافة /5/ كم جنوب مدينة عفرين، وتشرف على هضابها الخضراء، وتحيط بها سهول خصبة من ثلاث جهات، ويحدها نهر عفرين من الغرب على بُعد بضع مئات من الأمتار، كما يخترق الموقع جدول ماء نبع عين دارا، الذي يأخذ مجراه من بحيرتها الصغيرة، ليصب في نهر عفرين غربي التل.

تتكون المدينة حالياَ من آثار ومعبد أكثر من رائع يضم تماثيل مختلفة تمثل حيوانات مجنحة وتماثيل لـ (أبو الهول) ونقوش وآثار كثيرة وقد عُثر في الموقع على لوحة بازلتية تمثل الإلهة عشتار.

ويتألف التل الأثري الهام من قسمين “جنوبي صغير وقديم، وشمالي كبير”، في القسم الجنوبي الذي يقول عنه الأثريون بأنه عبارة عن قرية زراعية من العصر الحجري الحديث، سكنها الإنسان منذ حوالي عشرة آلاف عام، إلا أنه لم تجر فيها أعمال تنقيب واسعة، سوى عملية سبر بسيطة أظهرت بعض الأدوات الصوانية، وأحجار بناء، تعود للعصر الحجري الحديث.

وفي ظل الهجوم التركي على مدينة عفرين قام الجيش التركي بقصف هذا المعبد الأثري الهام ذي البناء المميز، والذي يعود عمره إلى (10) آلاف عام، حيث يشكل ثروة وطنية فريدة من نوعها؛ نتيجة هذا القصف لحقت بالمعبد أضرار كبيرة.

وأثارت عملية استهداف المواقع الأثرية من قبل الطائرات التركية، سخط الأهالي الذين اتهموا القوات التركية بمحاولة محو آثار وتاريخ المنطقة، وأنها تتعمد استهداف هذه الآثار التي تدل على الحضارات التي شهدتها منطقة عفرين.

كما قام المرصد السوري لحقوق الإنسان بسلسلة من الجولات على مدار أشهر متواصلة، وتمكن من جمع معلومات هامة مع صور وأشرطة مصورة، تؤكد عمليات النهب هذه.

فحتى المواقع الأثرية والتاريخية لم تسلم من القصف التركي الهمجي على مدينة عفرين الخضراء؛ فالدولة الطورانية تحاول تدمير تاريخ الإنسانية عبر تدمير المواقع الأثرية التي يعود عمرها إلى آلاف السنين، وعلى الرغم من تلك الهجمات، ومهما حاولت إخماد الحضارة والتاريخ الكردي لن تصل إلى هدفها ومبتغاها، فستبقى عفرين الخضراء صامدة وستبقى مواقعها الأثرية خالدة عبر التاريخ، وستكون حُطام تلك المواقع التاريخية شامخة في وجه إرهابهم.

إعداد: دلناز دلي

زر الذهاب إلى الأعلى