مقالات

ظاهرة داعش الفاشي: الأسباب والحلول(سارتر، كامو، ويلسون، همنغواي، وأوجلان في عامودا)

نحو تعريف محصّن للإرهاب

لا ينصح التاريخ الاكتفاء بالمراقبة فقط؛ إنما يتطلّب عملُ الكثير وبخاصة في زمن المنعطفات. والمطلوب بإلحاح في وقت الانعطاف الذي نعيشه اليوم والبارحة وفي المستقبل المنظور؛ أموراً كثيرة في مقدمتها إظهار الفكر التنويري وخطابه الخاص. الفكر التنويري في وجه تفاكير الشعبوية التي تميط رأسها نحو من يهمها ولا يهمها، وباتت إلحاحيّة ولجوجة وتستميت أن تفرض نفسها على الجميع. في هذا؛ يكاد المرء بذل أقصى ما لديه ليبدو أنه في دائرة التنوير بدلاً من مثلثات الشعبوية السائدة في خطاب ثالوثها الكريه: الاستعلاء القوموي، العسكرة، الاقتصادية؛ مضاربة. لن نكون محظوظين أو منحوسين لأننا نعيش زمن الانعطاف، فهذا أمر متروك للماضي الذي أدّى إلى الانعطاف وإلى المستقبل الذي يحكم على نتائجه. وهنا لا بد من ممارسة أقصى حالات الاستمتزاج الفكري السياسي ما بين فلسفاته في الشرق والغرب. ليس لأننا –كلنا- بشر أحرار نعيش على الكوكب نفسه فقط إنما بسبب ما مواجهتنا للمشاكل والإشكاليات والصعاب نفسها. فكل البشر يعانون اليوم من مشكلة المناخ، وكل البشر يحتاجون إلى تنمية مستدامة وإلى تجارة عالمية آمنة، وكل الشعوب تحتاج إلى ممرات مائية آمنة، والكل في خطر من ظاهرة الهجرة؛ ليست الجغرافية التي يتم الهجرة إليها فقط إنما الأرض المهاجرَة منها أيضاً… وغيرها من التحديات المقلقة التي تستضيف طاولت كل اجتماع أممي. سوى أننا كسكان الكرة الأرضية أكثر ما نعانيه اللحظة هو ظاهرة ظهور التنظيمات الفاشيّة: داعش والنصرة وحراس الدين والتركستاني وغيرها المرتبطة فكراً وتنظيماً مع القاعدة التي هي أداة عسكرية لتنظيم الإخوان المسلمين. من الأسلم على الجميع أن ندعو مسجِّلات الخطر هذه بالفاشيّة عوضاً عن الإرهابية، فمن الواضح أنه حتى هذه اللحظة لا يوجد تعريف ثابت مُحكم للإرهاب؛ لكنه من الواضح جداً وبالأمر الذي لا يحتمل الغلط أو حتى اللغط بأن كل تنظيم فاشي هو إرهابي، وكل حركة تتقصد في إمحاء الثقافات والتنوع المجتمعي هو الإرهابي، وكل حزب ونظام سياسي يسعى من خلال استبداده إلى خلق مجتمع منقسم إلى قومية سائدة وقوميات مهمّشة أو إلى دين طاغيّ وأديان ومعتقدات محكوم عليها السجن فالزوال أو التقوقع؛ فإنه بالحزب وبالنظام الإرهابي. ومن هنا يجب إعادة تعريف جديد محصّن للإرهاب في نموذج التعريف التالي، وبأن الإرهاب هو فكر فاشي يمثلٍّه جسد فاشي. ويلاحظ في كل حراك أو تحريك له -بشكل ملموس- ماهيّته المتوحِّدة مع نفسه فقط وآلياته المذيبة ضد غيره، وتداعياته المبيدة لكل مختلف عنه إنْ في المجتمع الذي يظهر فيه أو في المنطقة الواسعة التي ينتمي إليها وبالتالي تلمُّس تأثيراته التخريبية -كظاهرة قاتلة- على تنوع الأسرة العالمية. ومن أجل ذلك فإن ظاهرة النازية التي أَفُلَتْ ولم تنتهي بشكل كامل إنما بالإرهابية لأنها كانت فكرة وجسد فاشي. وأن داعش إرهابية لأن لها فكر وجسد فاشيّين. وبأن حزب العدالة والتنمية وسلطانها العثماني إرهابي لأنه فاشيّ؛ فاشيته تجعله إرهابي، وادعاءاته بأنه يحارب الإرهاب إنما محض هراء يتكشّف من خلال عمق العلاقة العضوية والفكرية ما بينه وداعش واللحظة في أنه المتحكِّم في أدق تفاصيل حركية جبهة النصرة واخواتها في عفرين وإدلب وفي غيرهما. ولا علاقة له بالدين الإسلامي الحنيف؛ مثلما لا علاقة لداعش بالإسلام وبالقدر نفسه مثلما لا علاقة لهتلر بالاشتراكية وبالفيلسوف نيتشه. المغالاة في أية فكرة أو تطويع دين معين أو طائفة معينة لتسلط السلطة يؤدي بشكل سهل إلى التمذهب السياسي وبالتالي إلى ظهور التطرف، ومن ممارسة التطرف –الجسد- تظهر الفاشية. وبالتالي الوصول بيسر إلى معرفة من هو الإرهابي ومن هو الضد من الإرهاب.

استمزاج تنفيذي

يكاد يكون هناك اجماع بأن أهم أربع روايات كُتِبت في القرن العشرين هي: الغثيان لجان بول سارتر، الغريب لألبير كامو، اللامنتمي لكولن ويلسون، والشيخ والبحر لأرنست همنغواي. إذْ لا يمكن اعتبارها بأنها مجرد روايات استطاعت فقط أن تصل إلى أدق تفاصيل النفس البشرية والمجتمعية في الآن ذاته؛ لكن بسبب تسليطها مجتمعة الضوء على حقيقة اللا انتماء. هذه الحقيقة التي تجعل من البشر في حالة غثيان دائمة بمصدر خارجي؛ وسارتر حينما يحدد مصدر غثيانه في غثيانات خارجه؛ إنما يصر على التحديد بأن اعتباطية السلوك والتخبط في المستوى الأخلاقي يجعله وبسبب غثيانه التقوقع والانزواء. أما ألبير كامو فوجد نفسه/ بطل روايته غريباً عن المجتمع بشكل كامل إلى درجة اللامبالاة أو عدم الاستطاعة في تحديد منحى شعوره: لم يستطع أن يُثْبِت على نفسه هل هو حزين أو غير حزين حينما سمع بخبر وفاة أمه، ولم يستطع تحديد أنْ يشارك جنازة أمّه أم لا. ومرة أخرى لم يستطع أن يتحكم في سلوكه حينما أنهى حياة شخص في حالة شجار؛ لم تكن تستوجب منه أن تكون ردة فعله القتل أو بالأساس الشجار نفسه. ومرة أخيرة وبدلاً أن يتفاعل من رجل الدين في الزيارة الأخيرة له وهو المحكوم عليه بالإعدام وأن يقر بذنبه فيسأل عن امكانية تخفيف حكم الموت عليه؛ راح يشكك به وبالدين وبوجود حياة أخرى، وبإشهار تشكيكه بالله نفسه. الحال هذه ضاهى ارتفاعا عند كولن ويلسون واصلاً به الأمر بعدم التسليم بأن بشر يعيشون، وأن من يتحرك في الشارع وفي السوق ليسو بشر إنما ملابس متحركة؛ تميِّز المتحركون ألوان ما يلبسون. وهي المسألة نفسها من المنطلق نفسه أن أدى ببطل همنغواي اختيار الانتحار.

لكن وقبل هذه الروايات/ الفلسفات السياسية الغربية هذه حدثت حركات مقاومة متعددة إنْ في الغرب أو في الشرق الأوسط بشكل أوضح. وكلها تؤدي إلى النتيجة نفسها بمفاد أن البشر ليسو بخير، وهم على طول الخط يتعرضون إلى مخاطر كبيرة بسبب الفاشيّات المتعددة التي يرزحون تحت نيرها. فاليهودية والمسيحية والإسلام وكل الأديان السماوية والأرضية التي ظهرت ليست سوى حركات مقاومة في وجه الفاشية التي ظهرت قبلها وكانت السبب الغائيِّ منها. ولاحقاً فإن منطقتنا الشرق أوسطية زاخرة بحركات المقاومة من الحلاج إلى المعتزلة إلى الأشاعرة، وفي رسائل إخوان الصفا، ومن قواعد مولانا جلال الدين –من ضمنها قواعد العشق الأربعون- إلى تأملات الخيّام وهلعه من الموت، وصولاً إلى أوجلان في فلسفة الأمة الديمقراطية الجامعة لكل مختلف مهدد بالإبادة؛ المؤكدة بأن أخوة الشعوب هي الأساس وبأن الكردي يتحقق وجوده من خلال وجود الآخرين بخاصة من تشارك معهم التاريخ والجغرافيات المتداخلة؛ العرب منهم في المقدمة، ومع الفرس يكوِّنان الأرومة الواحدة، ولولا الكرد في القرن الوسيط من ملاذ كورد 1071 إلى مرج دابق 1516 لما كان للترك قائمة ولما كانت تركيا كلها موجودة بالأساس. وحين الحديث عن معركة غاليبولي التي امتدت إحدى عشر شهرا تقريباً (1915 إلى 1916) يجب قول الحقيقة في أن مقاومة الكرد من أحدثت تحوّل النجاح فيها؛ ولكنهم أضاعوا نجاحهم سياسياً.

في منعطف البشرية الذي تعيشه الآن لا بد من فعل الاستمزاج؛ ليس بسبب انتمائنا الأنسي الواحد إنما بسبب حالات اللا انتماء التي تتخيم على الجميع وتثقل الكاهل. أما حينما نذكر الروايات أو خلاصة الفلسفات السياسية الغربية الأربعة إنما بسبب أنها قد تفيد أن تكون مداخل أجوبة على حالات اللا انتماء المتحصلة لدى أحفاد الروايات واندفاعهم إلى داعش؛ من المهم الملاحظة بأن للروايات أحفاد فلها الآباء والأمهات والأجداد. في مخيم الهول والمراكز الأمنية التي تتبع للإدارة الذاتية الديمقراطية، حوالي 70 ألف من مقاتلي داعش الفاشي وعوائلهم من حوالي 60 جنسية أوربية وعربية انتموا إلى التنظيم. أليست هي حالات اللا انتماء المسؤولة عن انضمام أوربي إلى داعش؟ والمسؤولية نفسها عن انضمام أمريكي جنوبي وأمريكي وكندي وأفريقي وعربي إلى داعش؟ بحسب فلسفات الروائيين الأربعة، وبحسب حركات المقاومة في الشرق الأوسط فإن الجواب الأسلم هو القبول قناعة بِ(نعم).

 

الأسلم حين تعريف الدين الإسلامي

إذا ما سلمّنا بتعريف الإرهاب أعلاه، ومُلنا إلى تعريف داعش الفاشي أعلاه أيضاً، فإنه يجب الفصل ما بين الإسلام وداعش؛ ما بين كل دين وكل تنظيم فاشي يختبأ تحت ستاره. وبالتالي فإن الإسلام وكل دين ومعتقد يستوجب حين المقاربة أن نحصن الأديان ونمنع عنها السهام أو المدى التي تبغي تصفيته/ ا. في الحقيقة لا فرق هنا ما بين سيف داعش وهو ينحر رقاب البشر وسيف من يبغي تصفية الإسلام عن طريق الصاقه بداعش. كلاهما فاشيّان فكلاهما إرهابيان. الأديان هي صمام الروح وركيزة الأخلاق في كل مجتمع. أما القاعدة الأساسية للسلام ما بين البشر ومختلف المعتقدات؛ إنْ كانو في مجتمع واحد أو في منطقة جغرافية واحدة كحال الشرق الأوسط؛ فإنه من السلام التسليم بأن الوطن للجميع والدين لله. ومن الخطأ الكبير دسترة الأديان أو اعتبار دين معين أو مجموعة أديان مصدر تشريع أرضي. الأديان مصادر تشريع سماوية والعقد الاجتماعي هو وحده التشريع الأرضي في كل المجتمعات.

عن الحلول المقترحة

أولاً. المباشرة:

1- الجانب البنيوي للحل: إعادة تعريف للشرق الأوسط على أنها قوميات واثنيات وأديان وعموم ثقافات تتكامل, وهذا المفهوم يقابله في الجانب النظري الفلسفي الأمة الديمقراطية وفي الجانب الإداري من أن الشرق الأوسط اتحاد ديمقراطي يتألف من إدارات ذاتية متعددة.

2- الجانب السياسي للحل لتحقيق أقصى أنواع مشاركة السلطة من خلال المفهوم السياسي الجديد اللامركزية الديمقراطية؛ هذا المفهوم من الممكن تعايشه ومفاهيم سياسية سابقة مثال اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية. علماً بأن هذا المفهوم الجديد يتضمن خاصيّات كلا المفهومين من دون تطويع المجتمع إنما إلى شكل نظام سياسي أكثر مرونة.

3- الجانب القانوني للإدارة المجتمعية في مسألة قلب هرم السلطة وتحقيق سلطة الكومينات وكونفيدرالية مؤسسات المجتمع الإدارية.

4- جانب قانوني وقيمي وسياسي متمثل بإنشاء محكمة إرهاب في شرق سوريا لمقاضاة عشرات الآلاف من مقاتلي داعش وعوائلهم المعتقلين في مراكز أمنية ومخيمات تابعة الإدارة الذاتية.

4- إعادة تعريف جديد للأديان. الإسلام الديمقراطي في مواجهة الإسلام الراديكالي.

5- الجانب المعرفي للحل في إعادة تعريف المواطنة؛ الحرة منها هي الأسلم. واعتبارها المدخل الوسيع لتحقيق الانتماء.

ثانياً. طويلة الأمد:

1- إعادة صوغ جذري لمؤسسة الأمم المتحدة. البديل هنا: اتحاد الأمم الديمقراطية لها آليات جديدة.

2- فشل نموذج الدولة القومية. والعمل على مأسسة قويمة للشرق الأوسط الديمقراطي الاتحادي دون المساس بالحدود المفروضة. كقراءة قائمة  تستفيد من تجارب الاتحادات في محلّات أخرى في العالم.

3- إدراج مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية إلى جانب مفاهيم الإدارة الأخرى: الفيدرالية والكونفيدرالية والدولية، وبيان صلاحياتها.

ملخص أقرب أن تكون نتيجة تنفيذية

الأمة الدينية ولّت منذ القرن الوسيط ولا امكانية لإنتاجها في أي مطرح من مطارح الكرة الأرضية؛ علماً أنها كانت حركة مقاومة تمردت على مختلف الجاهليات. الأمة القومية فشلت ولا يمكن الرجوع إليها وهي التي كانت بديلاً ثورياً عن الدولة الدينية وفترات حروبها. ولا يمكن صناعة مركب من نصفيهما: نصف ديني بنصف قومي؛ وهو أشد المركبّات المجتمعية مسخاً. وعلى الأغلب لا اعتراض سيظهر على النتيجة/ القول بأن الأمة الاشتراكية المشيّدة والتي أفُلت أيضاً وبأنها لم تكن سوى رافداً من روافد الأم الرأسمالية. فإنه من الواجب –انطلاقاً من بشريتنا- في معركة البحث عن السلام والأمن والتطور بالنظر واعتبار مفهوم الأمة الديمقراطية حائنٌ وقته؛ وبشكل كبير في الشرق الأوسط. وبأننا نعيش دواعي شروق زمن الأمة الديمقراطية.

 تنويه: المقال جزء من بحث قدمته إلى مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية والذي ينشر الدراسات والأبحاث في كتاب خاص عن المنتدى الدولي حول داعش: الأبعاد. التحديات. واستراتيجيات المواجهة. والذي عقد برعاية المركز في عامودا بتاريخ 6-7-8 من يوليو تموز 2019.

زر الذهاب إلى الأعلى