مقالات

سيكولوجيا المقاومة

وليدة حسن

إن القوى المتسلطة على رقاب الشعوب والتي تقوم بالاضطهاد والاستعباد وممارسة كافة أنواع القهر والتجويع وترويض شعوبها على السمع والطاعة وعدم التفكير بالغد وتقليع أظافرها حتى لا تستطيع حماية نفسها وبذلك تفقدها الإرادة والقدرة على المواجهة ولكن هذا العنف الممارس على الشعوب وقمعها أنفاس الحرية والحياة لا يستمر إلى ما لا نهاية، فلكل جلاد أو ظالم نهاية وصراع الشعوب ضد جلاديها يبدأ وينمو ويكبر عندما تكسر الشعوب حاجز الخوف وتخرج وتصرخ عالياً.

طبعاً يحدث هذا بعدما تعي الشعوب حقوقها ويكون إيمانها مطلقاً بعدالة قضيتها وامتلاكها أشرس الأسلحة ألا وهي روح المقاومة.

فالشعوب الثائرة لا تعرف التسامح مع جلاديها ومستبديها وطغاتها بل تسعى وعبر مقاومتها ونضالها إلى إزالة كافة التراكمات التي أفرزتها سياسة القمع والظلم، وبذلك تصبح تلك الشعوب فاعلاً لا مفعولاً به حينها يدرك الجلاد أن ساعة الحساب قد حانت ولا مفر منها، نعم إن ذاكرة الشعوب حية لا تنسى المآسي والآلام، والتاريخ يعلمنا أن لكل جلاد وظالم نهاية وأن الشعوب مهما طال ليلها فلا بد أن يأتي نهار وترى فيه شمس الحرية وتتحرر من نير الاضطهاد.

فصفحات التاريخ مليئة بالمقاومة والثورات التي جاءت كرد فعل قوي على الممارسات اللاإنسانية بحق الشعوب، ففي إحدى الانتفاضات الأكثر دراماتيكية في تاريخ الشعوب، الانتفاضة التي حدثت في باريس عام 1789 والتي شكلت بداية الثورة الفرنسية التي خرج فيها الشعب الفرنسي ضد المستبد لويس الرابع عشر وسلطته المطلقة، حيث كان الشعب الفرنسي يعيش في فقر مدقع بالإضافة إلى الضرائب المفروضة عليه وضاق ذرعاً بالممارسات المرتكبة بحقه فقام باقتحام سجن الباستيل الذي شكل رمزاً للطغاة وإطلاق السجناء منه وسرعان ما انتشر هذا الحماس الثوري في المدن والأرياف فبدأوا بالإعلان عن تمردهم ضد كل من كان ينهك قوة الشعب وكدحه، وكانوا ينادون بالمساواة.

وفي التاريخ أيضاً البطولات التي أبداها الشعب الفيتنامي ضد المحتل الأمريكي الذي ارتكب أبشع الممارسات اللاإنسانية ضد الشعب الفيتنامي وبلغ به الأمر إلى إحراق المحاصيل والحقول المزروعة ولم يترك حقلاً إلا وأحرقه، وانهيار في البنية التحتية إلا أن الشعب الفيتنامي بعدما ذاق الويلات على يد المحتلين أدرك أنه لا سبيل سوى المقاومة والنضال فروح المقاومة جعلته يلائم ظروفه مع وضع الحرب، وذلك بتحسين ظروفه المعيشية قدر الإمكان حيث قام بتخصيب الأراضي وخلق إمكانيات للقدرة على زراعة أكبر مساحات قدر المستطاع ورفض توقيف الدراسة بسبب مالات الحرب فقاموا بالحفر تحت الأرض وإنشاء ما يشبه الفصول الدراسية ورسموا للمدرسين والطلاب طريق الوصول إلى هذه الأماكن السرية لتلقي التعليم وعدم ترك أطفالهم دون تعلم، بالإضافة إلى مساعدة الثوار وتأمين السلاح والذخيرة وإعطائهم المعلومات الهامة ومساعدتهم في شن هجمات ضد جيش المحتل فاختزلت مقاومة فيتنام في جملة شهيرة (المقاومة حتى النصر) وهكذا كانت قلوبهم تنبض بالمقاومة، لم يستطع الجيش الأمريكي المتطور آنذاك بأسلحته كسر مقاومة هذا الشعب، وبلغ عدد قتلاهم وأسراهم أعداداً كبيرة حيث بلغ عدد المشاركين في الحرب على فيتنام أكثر من مليون جندي فيما بلغ عدد القتلى 58 ألفاً وفق تقرير وزير الدفاع الأمريكي آنذاك (روبرت ماكنمارا).

وسبب هذه الهزيمة انتكاسة للشعب الأمريكي حتى أطلق الإعلام على نتائج هذه الحرب (بعقدة فيتنام) هذا ما عدا الآثار السلبية التي تركتها هذه الحرب على نفسية الآلاف من الجنود الأمريكيين وما عاشوه من إحباط بسبب المقاومة التي تلقوها.

ونحن في القرن الحادي والعشرين قرن حريات الشعوب، حيث شهدت عدة دول ثورات إلا أن ثورة روج آفا لفتت انتباه العالم لتجربتها الرائدة وجميع المتتبعين والمراقبين أدركوا الفرق الشاسع بين ثورة روج آفا وكافة الثورات أو التظاهرات أو الانتفاضات في الدول التي قامت بها.

إن هذه الثورة قامت باحتضان كافة المكونات عبر ائتلاف يتكون من الأحزاب والشرائح المجتمعية حيث تم تأسيس الإدارة الذاتية والمؤسسات المجتمعية وجابهت الإرهاب (المتمثل بداعش) وكسرت شوكته وتم طرح المشروع الفيدرالي للشمال السوري كنموذج حل ديمقراطي، إلا أن هذه الانتصارات قضَّت مضاجع الأتراك الذين ما انفكوا منذ اليوم الأول للحراك الشعبي السوري في تعميق الأزمة السورية، وفي الآونة الأخيرة بدأ اردوغان بالتهديد والوعيد بالهجوم على عفرين وتحقيق النصر خلال عدة أيام بهدف زرع الخوف والرعب في قلوب الشعب العفريني ودفعه للهجرة، ولكن ما كان بانتظارهم فاق كل توقعات الطاغي اردوغان، فبعد مرور أكثر من شهر ومدينة عفرين تقاوم بنسائها وأطفالها وشيوخها وأبطالها وزيتونها شامخة كشموخ زاغروس وآرارات وجودي تحارب بشراسة ثاني أكبر قوة في حلف الناتو في حين أن العفرينون يسطرون مقاومة رائدة وفريدة من نوعها في الشرق الأوسط، إنه اتحاد بين الشعب بكافة شرائحه واتجاهاته مع قوات حماية عفرين، لم يترك شعب عفرين أبنائه بل ظلوا يدافعون مع أبنائهم عن ترابهم وأرضهم بإمكانيات جد بسيطة بالمقارنة مع الترسانة العسكرية الاردوغانية على الحدود، إنها ثقافة المقاومة المستندة إلى الإرادة القوية الحرة المنبثقة عن فلسفة الحرية للمفكر الحر عبدالله أوجلان والوصول بذلك إلى حقيقة الشعب المقاتل.

إن هذه الحقيقة برزت في مقاومة العصر، إنها سيكولوجيا الحرب والمقاومة والحياة، بهذه السيكولوجية سوف يتحقق النصر في عفرين وستظل عقدة عفرين بلاءً ووصمة عار على جبين أردوغان وتركيا، فهم دخلوا مستنقع الهزيمة والذل ولن يستطيعوا الخروج منه بسهولة أو تدارك نتائجها في القريب العاجل وسوف يعود اردوغان إلى تركيا يجر ورائه أذيال الهزيمة، سوف يعود لتركيا بخفي حنين من عفرين المقاومة.

زر الذهاب إلى الأعلى