مقالات

سوريا التي لم تعد مُقنعة لأحد

في يوميات "انتفاضة السويداء"

رستم محمود

بعد عقد كامل من إعلان الإدارة الذاتية “الكردية” شمال شرقي سوريا، بدأت المظاهرات الشعبية في محافظة السويداء، أقصى جنوبي سوريا، باجتراح خطاب واستراتيجية وتوجه سياسي ذي بُعد مناطقي وهوياتي طائفي، بعيد عما التزمت وألزمت النُخب السياسية والثقافية السورية نفسها به طوال السنوات الماضية، من تقية وطنية وترفُّع “زائف” عن الاعتراف والانخراط في القضايا والحساسيات الطائفية والمناطقية والقومية والهوياتية في سوريا، التاريخية والراهنة.

وفي مظاهرات السويداء، وبشكل واضح لأول مرة، صار العثور على الأعلام المحلية/ الطائفية أمراً يسيراً، مقابل انزواء وهامشية لنظيرتها “الوطنية”، وملاقاة خطاب سياسي ومطلبي خاص بالمحافظة وأبناء الطائفة “المركزية” فيها، مقابل رفض واضح للانخراط في أي من المشاريع والرؤى السياسية العمومية.

في يوميات “انتفاضة السويداء” تجري اجتماعات مكثفة لقادة الرأي العام المحليين، من رجال دين وزعماء عشائريين وضباط متقاعدين، وقبول وولاء شعبي لما تخرج به تلك الاجتماعات، ومعها طروحات “ساطعة” عن اللامركزية وخصوصية المنطقة وحقوق أبناء الطائفة الدُرزية.

اللافت للانتباه، أن مجموع تلك النزعات والتعبيرات، المناطقية والمحلية والهوياتية/ الطائفية بشكل صريح، لم تثر موجة رفض وشجب، لا من النُخب والقواعد الاجتماعية المرتبطة بالنظام السوري، ولا من نظيرتها المعارضة، على العكس تماماً مما كان يجري حين أُعلنت الإدارة الذاتية “الكردية” قبل عشر سنوات، وما لاحقها من خطابات واتهامات “التخوين والعمالة والانفصالية”.

ثمة أسباب كثيرة لحدوث هذه التحول/ المفارقة، على رأسها التبدلات التي طرأت على سوريا نفسها خلال هذا الزمن. فخلال السنوات الماضية، كشفت سوريا عن “خبيئة نفسها”، عن واحدة من أكثر هوياتها وحقائقها وهياكلها المُستترة، ككيان مبني على مكاذبة كُبرى، غير قابلة للعيش إلا بتلك المكاذبة، وممارسة القسر والقهر لم يحاول مسها، وتنفيذ “إبادة جماعية” لو تطلب الأمر، وبدلالة ما جرى خلال السنوات الماضية.

أعمال العنف واستراتيجية القهر المفتوح على مصراعيه، التي شهدتها سوريا خلال هذه السنوات، واستعصاء أي حلٍ داخلي، ولو جزئي ومؤقت، ومعها انزواء كل محاولة للتخفيف من أوجاع السوريين بأي شكل، فعلت أشياء كثيرة، على رأسها كشف “عورة” الهيكل السياسي الجوهري في سوريا، وهتك “الحقيقة السورية”، الذي عملت ديناميكيات سياسية وآيديولوجية وثقافية سورية، شديدة التعقيد، على تغليفها وطمرها ونكرانها لعقود كثيرة من التاريخ المعاصر لهذا البلد. بل أصرت على تخوين وتجريم كل من قد يمسها أو يكشف أو حتى يشكك بها، أو حتى يحاورها.

حدث ذلك كمرحلة أخيرة ونهائية لمجموعة من التحولات التي طرأت على الكيان السوري طوال تاريخه المعاصر، كانت كل تجربة وتحول سوري يحطم هوية وفكرة كبرى ومركزية وجوهرية مُدعاة من قِبل الكيان السوري، فكرة كبرى تصدقها أغلبية واضحة من السوريين، الظاهرين والمهيمنين منهم على الأقل، يحملونها حول ذواتهم وكيانهم وأدوارهما، صورتهم عن ذواتهم ومجتمعاتهم ودولتهم وتاريخهم وأوهام حاضرهم.

فمنذ سنوات التأسيس الأولى، كانت سوريا تعتبر وتجد نفسها “الأخ الأكبر” لمجموع الدول المحيطة بها، تتصرف بفوقية وأبوية سياسية فجة، إلى أن غرقت في بِرك دم “الأخوة الأصغر”، لبنانيين وفلسطينيين وأردنيين. وسوريا نفسها كانت منجرفة في فيض من القومية العربية الطافحة، لم تدم تجربتها الوحدوية الوحيدة إلا ثلاث سنوات فحسب، وخاضت فيما بعد أكبر وأشرس وأطول الحروب مع أشقاءها العروبيين الآخرين، البعثيين في العراق المجاور “القطر الشقيق”.

لقد بقيت سوريا لعقود نُسخا من تلك التجارب، فسوريا “خيمة المقاومة والممانعة” لم تُحرر شبرا واحدا من أراضيها المحتلة، ولم تستخدم من استراتيجياتها المقاومة إلا “الاحتفاظ بحق الرد”. وسوريا “ترسانة الأسلحة الجرثومية والكيماوية والاستراتيجية”، التي راكمتها وتباهت بها لعقود كثيرة، لم تستعملها إلا ضد شعبها وفي سبيل قهرهم.

وسوريا الاشتراكية، الأم الرؤوم للعمال والفلاحين الصغار، التي أممت وقضت على طبقة النهضة الاقتصادية السورية، ما لبثت أن استسلمت، وبسهولة، ومنذ عقود، لأبناء الجيل الثاني من القيادات “الفلاحية والعمالية”، من أمثال رامي مخلوف والحلقة العائلية والزبائنية الأكثر ضيقا حول العائلة الحاكمة والمقربين منهم.

وعلى المنوال نفسه، “سوريا المدنية”، المتباهية بكونها الدولة العلمانية الوحيدة في محيطها الإقليمي، مبنية تماما على محاصصة وتوازنات طائفية محكمة، مع إخلال تام بكل شروط وأعراف أي نموذج معروف للمحاصصة على مستوى المنطقة والعالم.

لقد طال اعتراف السوريين بحقيقة بلادهم، طال كثيرا، ولأجل ذلك، وما إن اعترفوا بحقيقتهم، حتى انهارت بلادهم فوق رؤوسهم.

زر الذهاب إلى الأعلى