ثقافةمانشيت

ثقافتنا أساس قوتنا… التعايش نموذجاً

تعج الثقافة العالمية بشكلٍ عام والشرق أوسطية بشكلٍ خاص بالكلمات والمصطلحات الدالة على السلام والاستقرار والديمقراطية والحرية والتفاهم… بين الجماعات والافراد فيما بينهم سواء أكانوا من لونٍ واحد أو من ألوانٍ متعددة، وهذه المصطلحات ليست بجديدة على هذه المجتمعات  لا بل كانت جزءاً وموروثاً  ثقافياً وفكرياً حافظت عليه الأمم والشعوب منذ الاجتماع الانساني الأول وحتى وقتنا الراهن، لكنها تعرضت للكثير من التشويش والضوضاء واستخدمت لأغراض شتى عدا المعنى والمضمون الدال عليه.

قوى السلطة والهيمنة أبرعوا في تلويج هذه الكلمات الاجتماعية الأصل لصالح أهدافهم ومراميهم الشخصية لدرجة أُّذلة بها الشعوب، فما من دستورٍ أو قانون أو منهاج تعليمي أدبيٍ ودينيٍ وعلمي إلا وذخره بهذه الكلمات الرنانة في المدارس و كرنفالات الخطابة الاستعراضية السياسية والدينية وحتى في المحافل العلمية الدولية والاقليمية.

 في المدارس ومنذ أن كنّا صغاراً كان الاستاذ والمدير يخطب فينا عن التعايش بين الفرد والفرد الآخر والفرد مع الجماعة والجماعة مع الجماعات والشالمدنية.م  الأخرى وفيما بينها، وعن السلام والتسامح والتعارف والوطن والوطنية والعدل والمساواة، والانا والأخر. آلاف الكلمات من هذا القبيل كانت تضجع عقولنا وتغزوه بشكلٍ لا إرادي، لكن إلى جانب هذه الكلمات كان ممنوعٌ علينا التحدث بلغتنا الأم التي كانت تشكل سبباً أساسياً من أسباب الجزاء والعقوبة التي كنا نتعرض لها. كان محظوراً التحدث بلغة أخرى بين أبناء الجماعة اللغة الواحدة في المدارس والجامعات وغيرها من أماكن السلطة والدولة، وحتى في المؤسسات والمراكز المدنية.

لكن لحظات الهمس بها كانت تمدنا بالقوة وتقربنا من بعضنا البعض بشدة ايضاً، لدرجة كان الخوف ينبعث من داخل نماردة السلطة ورهبانها.

في الجامع كان الخطيب يدعوا إلى الخير والعمل الصالح ويدعوا الجميع إلى التحابب،  والاقتراب من الله الذي خلق الحاكم والبشر ليطيعوه ” الحاكم” وألّا يثوروا عليه وعلى حكمه وسياساته مهما كانت جائرة، وإن يقدسوا الدولة تقدم لهم النعم عوضاً عن الله وكأن الدولة والسلطة ملكاً للحاكم وحاشيته، والشعب ليسوا سوى عباد عليهم فروض الطاعة ثم الطاعة. هذه كانت وصية الله بحسب الخطيب.

بالطبع هذا نموذج مصغر للتحالف المقدس بين رجال الدالمتوازنة لسلطة اللذين تغلغلوا بين كل ثنايا المجتمع حتى أصبح الأخ يخاف من أخيه والطالب من زميله في المقعد الدراسي، والجار يحترس من جاره، الكل كان في حالة تخوف متبادل  سواء أكانوا في الأماكن العامة أو الخاصة حتى في الحفلات وسرافيس النقل، كل شيء كان تحت المراقبة، والمسائلة وكان الجميع متعرضين للاعتقال والتحقير والإذلال، لكن الكلام المعسول كان السبّاق.

هذا كان الاطار العام للتعايش بين الجماعات الأفقية في المجتمع الواحد كالمؤسسات المدنية، والنقابات التي كانت مركزاً اساسياً من مراكز الاستخبارات والتخابر وكانت أبرز المؤسسات فساداً.

أما التعايش بين الجماعات العمودية في المجتمع الواحد كالأديان، والمذاهب والطوائف والقوميات فقد كان الانبطاح والرهاب الصفة الغالبة بالرغم من إن القاعدة الشعبية البعيدة عن السلطة كانت تحافظ على النموذج والمعنى الأصيل لتلك المصطلحات خاصة التعايش.

حقيقة لم تعمل الدولة وكل مؤسساتها حتى تلك التي كانت شعارها التعايش والمساواة والتسامح لأجل  التعايش بين الشعوب المختلفة، بالرغم من إن هذه المنطقة لم تحمل يوماً ما صفة الدين الواحد أو العرق الواحد أو اللغة الواحدة.

 حقيقة الحاجة إلى التعايش ووضع المصطلحات التي أكستها غبار السلطة بات ضرورة مع التركة التي خلفتها الأنظمة الاستبدادية، وبما إن الاختلاف سمة من سمات التعايش وهي موجودة أينما وجدت علاقة بين طرفين، لذا فإنها مسؤولية لا يتحملها سوى من أمن بها وأتخذه مساراً للحياة ومصدراً من مصادر القوة والرقي.

نعم هذا الاصطلاح قديم قدم الانسان، لكنه جديد في الوقت نفسه لما لتاريخ السلطة في الشرق الأوسط من تداعيات سلبية على حياة المجتمع عموماً وخصوصاً تلك الفئة أو الجماعة التي كانت أداة طيعة بيد السلطة يتلاعب بها وبتاريخها بما يتناسب و طبيعة السلطة القائمة على الترهيب ونهب ثروات الشعوب بحجة التقدم والتطوير وبناء مجتمع مدني ومحاربة العدو الذي كان حاضراً في كل مناهج ومؤسسات الدولة، بالطبع العدو كان المختلف، وما سوق من صراع المصالح باسم القومية تارة وتارة باسم الدين تارة، وباسم صراع الحضارات تارة أخرى.

لذا فالحاجة إلى دراسة وإرساء وترسيخ ودعم مفهوم ومصطلح التعايش على الأرض في راهننا حاجة ضرورية باعتبارها القاعدة التي تبنى عليها أسس السلام والاستقرار بين المجتمع وأفراده،  بالطبع السلطة أيضاً غيرت من وسائلها وأدواتها بالرغم من تقليدها وذلك مع تطور وسائل البث والنشر والاتصال أصبحت هي أيضاً تدرك أهمية مواجهة المجتمع وثورته بوسائل جديدة.

التعايش حقيقة تعبر عن الحياة الاجتماعية الطبيعية المتوازنة  

مصطلح التعايش نابع من المجتمع وتعبر عن الحقيقة الاجتماعية للبشر لذا يسهل تطبيقه أيضاً في الميدان الاجتماعي بعيداً عن السلطة وأدواته كوننا مقبلين على  انبعاث وبناء نظام اجتماعي جديد، لكن هذا لا يعني بوجود عقبات كبرى تصعب من مهمة القائمين على وضع هذا المصطلح في مساره الطبيعي.

إن زرع بذور التعايش وانباته وتأصيله وتكريسه على مختلف الأصعدة والمستويات والمجالات عملية متكاملة وتمر بمراحل عدة ولعل أولا هذه المراحل تبدأ بمرحلة انبعاث الثقافة الاصيلة للشعوب، وتأسيس ذهنية ثقافية مشتركة وذلك لما طرأت عليها الكثير من اللغط والتحريف فالثقافة الاصيلة هي التي تحمل في قاعها بذور التعايش تنبت وتتبرعم وتنموا ما أن يتهيأ لها المناخات المناسبة خاصة مع تصاعد وتيرة العنف والصراع، لذا فإن التوجه نحوا عمق المجتمع واعادة ربط أوصال جذوره الثقافية ضمانة للحفاظ عليه وعلى قيمه كما أنه يشكل عاملاً مهماً من عوامل البناء والتأسيس في أي مرحلة تتعرض فيها الدولة بمجتمعها لتفكك والانقسام.

وعملية التعايش تبدأ من نظرة الفرد إلى نفسه وتقييمها، ومدى نجاحه في إقرار حالة التعايش الداخلي مع ذاته أولاَ ومن ثم مع الأخرين، أما المتعثر في التعايش مع ذاته وفي محاكاته مع الذات، فسيكون حتماً ذا شخصية بعيدة عن التوازن والاعتدال وبالتالي لن يكون بمقدوره التقرب من الأخرين بإجابيه، ويرى الأخرين اعداء له، وهذا لأمر ينطبق على الجماعة التي تعيش في داخلها رهاباً نفسياً ترسخت مع مرور الزمن في ثقافتها القائمة أساساً على الكراهية والتخابر وفيما بين أفرادها، وهذه الجماعة تشبه جماعات  القرصنة وقطاع الطرق والمافيات حيث لا قيم ثابتة ولا حياة مستقرة أمنة فيها وهي معرضة للانهيار والانقسام في أي لحظة، وهذا ما يبعدها عن التعايش، فالتعايش يبدأ من دائرة ثقافة  الذات ويمتد ليؤثر ويتأثر بجميع دوائر التعايش الأخرى( افراد، جماعات، مؤسسات، أحزاب….).

النظرة إلى الذات.. النظرة إلى الآخر

الحقيقة الأولى هي إن الأصل الانساني واحد،  لكنهم مختلفون من حيث اللغات والألوان والأعراق… لكن لديهم العقل والبنية الجسدية نفسها، مع وجود فوارق خلقية لم تكن يوماً ما عائقاً في تعايش الأفراد والجماعات، لا بل كان الإخاء والإثار والنبل ميّزات انسانية حتى في اصعب الظروف والمراحل قسوة.

ويشير إلى مقدمة من مقدمات التعايش، وهو التعارف بين مكونات نسيج المجتمع المتنوع ضمن وحدته الطبيعية التي لا تشوبها غبار.

 بالطبع التقارب والتعارف ومن ثم الدخول في وحدة ثقافية متنوعة ومتكاملة في الوقت ذاته يولد التفاهم والتعاون والتعايش بين الجماعات، وتبدد كل أسباب التباعد والكراهية والتي نتجت عن المعرفة الخاطئة أو الناقصة والتي تعرضت للتشويه بقصد إلغاء الآخر المجاور، لذا فأن ضرورة معرفة الشعوب والجماعات لثقافة بعضها البعض ضرورة من ضرورات التعايش ووسيلة لمعالجة أثار ذهنية السلطة على الجماعات حتى أكثر الجماعات انحرافاً.

 ومن هنا فأن معرفة الآخر المختلف سيكون دائماً موجوداً، وهي الاداة التي من خلالها بناء طاقات المجتمع بشكلٍ إجابي، وبعبارة أخرى فإن  إصحاح النظرة إلى الذات أولاً، وإلى الآخر ثانياً، بعيداً عن التعصب يعزز من بناء وترسيخ ثقافة التعايش، ويؤصّل مبادئ وقيم الديمقراطية  وفي مقدمتها الحرية، ويرفض التجانس الوحدة السلطوية القسرية التي تتميز بالمراوغة و النفاق.

التسامح .. اسلوب للتعايش

مصطلح التسامح أي قبول الآخر المختلف واحترام سمات الاختلاف، وبالتالي تكريس متطلبات ودعائم التعايش بصورة مستدامة وتعد ركيزة من ركائز المجتمع الديمقراطي الاخلاقي المتعدد.

 وكما التعايش فالتسامح ينطلق من الذات أي من جوهر الانسان وثقافته وقيمه، وإشارة متقدّمة أيضاً إلى اصالة التعددية، وواقعية، وعدالة وعقلانية التعامل في الاطار الاجتماعي العام.

 ومن يدعوا إلى التعايش والمساوة والعدل عليه الدخول من باب التسامح وهذه خاصية من خاصية الذات الفاعلة الايجابية  على مستوى الفرد والجماعة تترجم التعايش في السلوك والقرار.

لتكريس التعايش ثقافة ونظاماً من حيث المعنى والمضمون لا بد من معرفة مقوماتها وهي أسلوب للحياة الحرة الكريمة كالتعددية والتسامح والعدالة، فهذه المفاهيم  تبقى  نظرية، عصية على التطبيق، ولا تتعدى عن كونها معلومات مقيدة على الصفحات كما في لوائح المؤسسات الدولية الحقوقية والانسانية وحتى في دساتير وقوانين بعض أنظمة الدول التي ترفع شعارات كالسلام والديمقراطية لكن داخلها تمارس كل اشكال العنف والتمييز ضد الأخر المخالف للون وذهنية السلطة.

 حيث الضعف، الحقد، الفراغ الفكري، فقر الوعي المعرفي العوامل الجوهرية التي تناقض مبدأ التنوع والتعدد، وأهم الأسباب الأزمة المتفاقمة في سوريا وفي عموم الشرق الأوسط بالطبع الانظمة السلطوية هي التي عملت وساهمت بكل أدواتها واساليبها على بعض نشر وترسيخ ثقافة التعصب وعدم تقبل الاختلاف.

ما يحصل في  سوريا على  وجه الخصوص ليس وليد اللحظة وليس لأن النظام لم يقم بإصلاح ذاته قبل الانفجار الشعبي ضده بالرغم من إن عملية الاصلاح مهمة في أي عملية تغيير لكن جذر الأزمة تكمن في ما آل إليه الصراع وحالة التشرذم وعدم المصداقية الواقعة بين أطراف الصراع وتمدد الايدي الخارجية إلى الداخل السوري وما تبعته من تفاقم للصراع والأزمة، دون أن يفكر طرف بالحل.

 بالطبع الحالة مختلفة في شمال شرق سوريا، ومصير رهانات المستفيدين من الصراع البعيدين بطبيعتهم الذهنية والفكرية عن مفهوم التعايش وتقبل الآخر متعلق بمدى نجاح نموذج التعايش المتمثل بالإدارة الذاتية  وترسيخ قيمها الديمقراطية والمبنية على التعددية والتسامح والعدل والمساواة في الحقوق لكافة مكوناتها الاثنية والدينية والتي لا تقبل التعصب بكل أشكاله.     فما نشاهدهُ من تمزيق للصف السوري، وما يريدهُ ضِعاف النفوس أن يجدوا طريقة تسود فيها لغة الحقد والاقتتال… سواء على مستوى المكونات القومية أو الدينية المتعددة، ليست إلا حرب خاصة تقاد على مستوى الانظمة السلطوية القوموية التي لن تقبل بوجود ذهنية وثقافة مختلفة ومغايرة لها.

ويبقى السؤال أين مجتمعنا اليوم من ثقافة التعايش وهل قطعنا شوطاً فيها، لنكون قادرين على مواجهة كل التهديدات والأخطار التي تحيط بنموذج شمال وشرق البلاد ؟

دوست ميرخان

زر الذهاب إلى الأعلى