مانشيتمقالات

الطريق إلى وطن الكرامة والتحضر

محمد عيسى ــ

لقد كان حلم الوصول إلى وطن معافى يتمتع أفراده بالكرامة والعدل والتحضر؛ هاجس المناضلين من أجل الحرية وعنصر الشغف عند المفكرين والمشتغلين بالشأن السياسي   على الدوام.

ومع انتصار الثورات الديمقراطية البرجوازية الحديثة نسبياً على القيم البطريركية “الطبقية الأبوية” التي كانت سائدة في بلدان الغرب الأوروبي، يمكن القول: قد ولدت الدولة القومية الحديثة وتطورت في ظلها الصناعات والعلوم وانتعشت الثقافات والفنون والحريات، وتشكلت النقابات والأحزاب وعوامل تحضر عديدة.

هذه الدولة التي تحولت في ظل الرأسمالية إلى فكرة قومية ثم الى عقيدة قومية ترسم شكل الأوطان وبنيتها عند شعوب عديدة؛ لكنها بقيت بحق فكرة الرأسمالية وابنتها، بل التعبير واللبوس السياسي عن حدود المصالح الرأسمالية، بحسب ماركس، الذي يقول تنتهي الحدود القومية حيث تنتهي المصالح الرأسمالية، وتمتد بامتدادها.

فيوم كانت الهند مستعمرة بريطانيا، كانت بنظر البرجوازية البريطانية جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية البريطانية، وكذا يوم كانت الجزائر محتلة من قبل الفرنسيين. لكن بعيداً عن كل ذلك، وبصرف النظر عن الأدوار الإيجابية التي لعبتها الدولة القومية؛ يمكن القول بحسب تناول المنظرين الماركسيين، إنها فاشلة تاريخياً بسبب بنائها الرأسمالي الذي يقسم مجتمعاتها إلى طبقات متناحرة، وإنَّ صراعاً طبقياً موضوعياً وحتمياً “بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج في اقتصادياتها” سيجعلها تحفر قبورها بيدها وستنهار بالنتيجة بفعل هذا التناقض وتحت ضربات شغيلتها التي ستنهض للثورة عليها وإقامة دولتها البديلة… دولة ديكتاتورية البروليتاريا. هذه الدولة التي يتحول في ظلها “بحسب زعم ماركس” الصراع الطبقي من تناحري إلى نوع من تفاوت طبقي، ويسود في ظلها شعار (كل حسب جهده، ولكل بحسب حاجته)، وذلك كحلقة أولية في الطريق إلى بناء الشيوعية التي ستنهار عندها الدولة لازدياد الوعي ولعدم الحاجة الى الدولة، وتتحقق فيها الوفرة، ودائماً بحسب التصور الماركسي، ويتحقق شعار” كل حسب جهده، ولكل بحسب حاجته”.

طبعاً الدولة، أية دولة باعتبارها تعبير عن مصالح طبقة اجتماعية سائدة أو هي دولة ديكتاتورية هذه الطبقة، وعند هذه النقطة وحول هذا النعت؛ تتقاطع نظرة، “عبد الله اوجلان” لمفهوم الدولة حين يستخدم مصطلح “الدولتية”، مع نظرة ماركس، ويتفقان على تحقيرها وذمها. مع الإشارة إلى إجماع الدارسين بأن أشد أشكال الدولة القومية سلبية؛ هو شكلها الشمولي الاستبدادي شديد المركزية، والذي يطبع الحياة السياسية في بلدان الشرق الأوسط وبلدان العالم العربي عامة، نصل إلى حقيقة لا لبس فيها؛ أن الدولة القومية بوجهيها الديمقراطي والشمولي لا تستطيع أن توفر وطناً معافى يوفر الحماية والعدالة والرعاية للجميع. فلأن الوجه الأول ورغم أفضليته على الثاني “من باب توفير الحريات والاحترام النسبي للقوانين” نجده يفشل بسبب التمايز الطبقي الحاد؛ ما يجعله يمايز بين مواطنيه في توزيع الثروة وفي تحقيق العدالة، وبسبب اعتماده على نمط الأرجحية لثقافة ومصالح قومية غالبة بعينها. أما الوجه الثاني الشمولي المستبد؛ فيفشل في أن يسوس أي وطن وبجميع المقاييس ولأن الاستلاب والإكراه وإنكار الحقائق عقيدته في السياسة ومنطلقه في كل تفكير.

ومما يعد من القرائن الصارخة على الهزيمة الأخلاقية لنموذج الدولة القومية وذات النمط العقائدي في إدارة أوطانها وفي تحقيق قدر من المصداقية والعدالة، ما تظهر تجربة جوارنا والتي تمثل نموذجين من الدول، “تركيا واسرائيل”. فرغم تشدق ساستها بأنها تمثل واحة للديمقراطية… لم تنقذها

ادعاءاتها من مواجهة صدوع بنيوية خطيرة تعرض تماسكها وتماسك انسجتها الاجتماعية إلى أخطار جسيمة.

بقي ان ما يمليه البحث وما تستدعيه الموضوعية؛ يفيد بأننا أثناء البحث عن طرق الولوج إلى وطن معافى، وطن كفاية وكرامة وعدل؛ يكون وطناً للجميع، جميع الأعراق والاجناس وعلى قدم المساواة فيما بينهم. فلا شيء ولا طريق غير السكة نحو الأمة الديمقراطية المتخلقة بقيم الأخوة، أخوة المكونات والشعوب الحرة في تفكيرها وفي خياراتها.

فنظرية الأمة الديمقراطية وتصور الأوجلانية حولها، ليست نظرة تأملية حول الواقع، أو فكرة رغبوية تصلح لواقع بعينه أو لمجتمعات كمجتمعاتنا فقط، وإن كان للحق “والحق يقال” نحن بأمس الحاجة لهذا النموذج من التدبير، بل تصلح لمعالجة مشكلات جميع الدول والمجتمعات. فالأفكار الإبداعية التي يسوقها كتاب المفكر أوجلان ((مانفستو الحضارة الديمقراطية)) تقدم الدليل والمنهج لتحقيق الحلول، وبلوغ الغايات المرجوة وفي معالجة تحديات العصر   والأزمات التي أفرزتها دول الحداثة الرأسمالية.

وهو إذ يميز في بحثه بين العصرانية الديمقراطية التي مآلها تحقيق المجتمع الديمقراطي، الذي بوصفه بمجتمع الأخلاق السياسي، وما بين الحداثة الرأسمالية التي من عناوينها العديدة، توسع الصناعة وزيادة الإنتاج وازدراء البيئة وتعريضها إلى مخاطر جمة عبر صناعة الأسلحة والمساس باليوم والاستقرار والمنافسة بقصد الربح دون مراعاة لأولويات المجتمع.

وهو بفصله ما بين المظاهر الديمقراطية المتمثلة بقيم المجتمع المدني الأخلاقية، وما بين العوامل السلبية المتمركزة باعتبارات الدولة ذات الهوية الطبقية الرأسمالية،

يتشكل الاهتمام لديه بماهية المجتمع الديمقراطي النهائي المنشود، أو بكيفية الوصول إلى مجتمع الأخلاق السياسي الذي لابد ستكون له أبعاد عدة، ديمقراطية ثم ايكولوجية، تتجلى بالعناية باستقرار وسلامة البيئة. وأخرى اقتصادية اجتماعية تعتمد التشاركية أو اقتصاد المجتمع التشاركي.

نفهم من كل ذلك أن الوطن المعافى هو الوطن الذي تحكم فيه دولة الأمة الديمقراطية، ويتكرس فيه مجتمع الأخلاق السياسي؛ هذا المجتمع الذي لا تمايز فيه على أساس طبقي أو عرقي أو جنساني حيث لا تمييز بين مكانة المرأة ومكانة الرجل.

فالدولة هنا، والتي تعبر عن انتصار الأمة الديمقراطية ورسوله، قيمها لا تشبه الدول الطبقية والنمطية العقائدية الأخرى المعروفة، وليست أداة قمع بيد الطبقة السائدة “نظراً لانتفاء التمايز الطبقي والاجتماعي في مجتمع الأخلاق السياسي”، بل هي الصيغة التي يُعبِّر بها المجتمع عن تنظيم نفسه بنفسه، ورسوخ قيمها.

زر الذهاب إلى الأعلى