دراساتمانشيت

الأسلوب ونسق الحقيقة (1)

الأسلوب ونسق الحقيقة دراسة تتناول المنهج البحثي للقائد عبد الله أوج آلان، وتقديم فلسفته الرئيسية حول كل ما كتبه في كتب ومجلدات ومرافعات، وهي تكثيف وتلخيص لمجمل الفكر الفلسفي الذي اعتمده الفيلسوف عبد الله أوج آلان لتفسير التاريخ والفكر السياسي في مقاربة بنيوية وأنثروبيولوجية، ووضع أسس فكرية لخروج المجتمعات من عنق الزجاجة التي أدخلتهم فيها الهرمية الدولتية.

واعتمد يوسف خالدي، باحث في الفلسفة السياسية، أسلوب التكثيف وتناول المفردات والمصطلحات الارتكازية لفكر القائد عبد الله أوج آلان، وتقديمها ضمن النسق الفكري والفلسفي كمفاهيم ومصطلحات وهي تؤدي وظيفتها لإظهار التوجه الفلسفي للقائد عبدالله أوج آلان. وسنقدم هذه الدراسة القيمة في موقعنا على حلقات.

الحلقة الأولى

الأسلوب  ونسق الحقيقة

يوسف خالدي

لم أكن أتصور أن تصل  المواقف الشنيعة والمريبة  في مؤسسات الاتحاد الأوروبي  فيما يخص قضيتي المنظورة أمام محاكمهم الديمقراطية الى هذا المستوى الذي انتهت إليه القضية  على ما نراه عليه اليوم .

دفعتني هذه القضية إلى القيام بتحرّ و بحث  و تقصي عميق حول حقوق الإنسان والمعايير  الديمقراطية  التي يتخذها الاتحاد الأوروبي  أساسأ له  كمؤسسة سياسية ومجتمعية ديمقراطية، لكن تبين لي  أن القضايا التي تواجهها هذه المؤسسة  أعمق من كل تصوراتنا  وأبعد من توقعاتنا  .

إن معالجة هذه القضايا العميقة في مضامينها تحتاج إلى مواقف جذرية وحلول ـ إن لم تكن أعمق وأشمل من كل تلك القضايا، فعلى الأقل تكون مساوية لها  وموازية في العمق والشمول ـ  كون أن هذا الاتحاد  قد قطع أشواطأ متقدمة على صعيد  حقوق الإنسان  والديمقراطية، تمثل لعالمنا الراهن  نافذة للأمل  في هذا المضمار .

لكن الحداثة الرأسمالية  وركائزها، تجعله مكبلاً بأغلال غليظة، يشعر أصحاب الآمال تلك  بالتشاؤم    والخيبة  إزاء  عقد الآمال في قدرة هذا الاتحاد على تحقيق  قفزات كبيرة  في مجال حقوق الإنسان  والمزيد من الديمقراطية بوصفها  قدوة للبشرية .

وحتى لا تلقى البشرية  نصيبها في  الإخفاق  من  تلك الآمال المعقودة على الديمقراطية الأوروبية، كما كان نصيب  الثوار الروس في تطلعاتهم إلى توقع  قيام ثورات ولو في جزء بسيط من أوروبا، تكون معيناً وظهيراً لهم في ثورتهم، حيث  انتهت آمال الثوار الروس تلك إلى  قيام ثورات ليبرالية سرعان ما تمكنت  من التهام  روسيا وصهر ثورتها في  مجمل النظام العالمي القائم  .

الخشية ذاتها تسري  على يومنا هذا  وماسبقه من عقود على الثورات الديمقراطية  الراهنة أيضاً، وكي  لا تتلقى  هذه الثورات  نصيبها  من الإخفاقات مرة أخرى، باعتمادها على إيداع  المزيد من الآمال  المعقودة على  ديمقراطية  أوروبا في عصر ازدهار رأس المال العالمي.

فإن التطلع إلى الديمقراطية العالمية والمتطلبة  اتساع  رقعتها باستمرار، تعتبر  السبيل الأكثر واقعية  ونجاعة في هذا العصر لترسيخ تلك المبادىء في كل المجتمعات. إذ  دون توسع وانتشار للديمقراطية عالمياً، و كذلك قيم مرادفة لها كحقوق الإنسان  والحريات القائمة في أوروبا. لا يمكن  للديمقراطية وتلك المفاهيم أن تكتسب معانيها  إلا في ظل هذه الذهنية  “البراديغما”  التي تتطلب جهوداً تثري هذه القضايا  وتفتح الآفاق أمام  البشرية  للانطلاق صوب الحرية بوصفها غاية المعاني .

الأسلوب ونسق الحقيقة :

 الأسلوب :

هو السبيل أو المنهج أو الطريقة التي يختارها أو يعتمدها الباحث في ميدان البحث العلمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الفني الخ، للوصول إلى الهدف، وصحة الأسلوب تعتمد على مدى نجاحه في الوصول من أقرب الطرق  إلى الغاية وإلى الهدف  المحدد سابقاً، إذاً فخضوع الأسلوب إلى التجربة  هو المحك  والحكم  .

وفي هذا السياق لا بد من التعرف على بعض الأساليب التي عرفها الإنسان خلال تاريخه  الطويل  وخضعت جميعها إلى التجارب.  سنحاول  التعريف بها، وتحديد المفاهيم  والمعاني التي تدل عليها من خلال المصطلح، بتحليلها  وفك عناصرها، ولأجل ذلك لا بد لنا من أسلوب ومنهج نعتمد عليه في تناولنا لتلك الأساليب.

نسق الحقيقة :

هو الأسلوب الأمثل الذي يمكن الاعتماد عليه، كأفضل أسلوب يقودنا إلى الإجابة على الأسئلة الكبرى، كمعنى الحياة  والحقيقة  وكيف يمكن الوصول إليهما .و سنتطرق إلى  بعض   الطرق التي  يجوز تسميتها بالأساليب  قبل أن نصل إلى الأسباب التي دفعت بي لاختيار هذا المصطلح كأسلوب، تلك  الأساليب  التي استخدمها البشر أو هم استخدموها خلال حياتهم  حين  وجدوا أنفسهم في صراعهم  من أجل الوجود بين طبيعة تحيط بهم، كل شيء فيها لغز محير ومخيف  ومبهم.

سنحاول أيضا تسليط الضوء على بعض المصطلحات  وبيان تعبير تطابقها مع  المعنى الحقيقي من عدمه، وتقديم أدلة على أن الكثير من المصطلحات قد تم ربطها بمعاني لا تطابقها، وإنما تم  نسبها إلى آخرى مزيفة و مخادعة. و سنتناول  مفهومي “الزمان والمكان” مع إظهار استحالة تناول أي قضية بمعزل عن بعدي “الزمان” أو “المكان”. سنتناول أيضاً نشوء المجتمعات وتطورها  ضمن مقولة “الزمان” و”المكان” بالدراسة والتحليل، كذلك “المادية” و”المثالية”، و”الذات” و”الموضوع”.

أولى  المصطلحات المتداولة والمعروفة  التي سنتناولها  هو” الميثولوجيا”  أسلوباً :

الميثولوجيا     

هي حكايات و أساطير تحكى من خلال الرواة، تنتمي إلى ثقافة  منطقة  معينة، أحداثها  حقيقية  وأبطالها وأشخاصها  حقيقيون، ولكن  تم تعظيمهم وأضفيت الكثير من الصفات الخارقة عليهم، وألحقت بهم، وضُخمت قدراتهم التي تم استمدادها من خيال البشر بما يتجاوز المألوف من قدرات الإنسان. وللميثولوجيا وظيفتان  :

الأولى:

تفسير بعض الظواهر الطبيعية، ومحاولة الإجابة عن بعض استفسارات البشر، وللتعرف على الأسباب  المؤدية  إلى حصول وتكرار بعض المظاهر .

الثانية :

التبرير لنظام اجتماعي سياسي قائم وموجود، وتوفير عوامل  ومقومات الاستمرارية له، ومده  بالشرعية  التي ترسخ وجوده.

فالمثولوجيا  بهذا المعنى، هي أسلوب للكشف عن الحقيقة في تناولها  للقضايا الكونية المفعمة بالألغاز، كـ “الوجود”، “الخلق”، “البدايات” و”النهايات”، “مصير الإنسان”، “الموت” .

بتناولنا لهذه القضايا وتفسيرها، سنجد بأن الطبيعة حية وعامرة بالأرواح، وستبرز أهمية الميثولوجيا إن تم مقارنتها مع الأساليب  التي تسعى ـ بعد  كل هذا  التطور العلمي في عصرنا الراهن ـ  إلى التعامل مع الموجودات وعناصر الطبيعة على أنها جامدة و ميتة، وخالية من الحيوية والحركة. في تناقض واضح، وتنكّر لا مبرر له للحقائق الملموسة، التي تقدم الطبيعة نفسها لنا بها في جوانبها العديدة والمفعمة بالحيوية الذاخرة .

التعاطي الميثولوجي مع الحياة المنسجمة، مع الطبيعة وغناها، زوّد الإنسان بقدرات ألهبت فيه  النزوع  إلى تملك الحماس الهائل، والعنفوان اللامحدود لمجابهة عوامل الطبيعة والأخطار المحيطة، وعلى التعايش معها على أنها وحدة تضم كل عناصرها، وتمثيلً لتعددية لا حصر لها في الأنواع والظواهر. تأصلت في ذهنية الإنسان وحددت له وعيه لحقب طويلة من الزمن، واستمرت حتى مجيء عصر الديانات. إن تلك الذهنية التي كانت مترعة بالقيم المقدسة المستمدة من الأساطير، ونقدها  بكونها  تتناقض مع الواقع الموضوعي والحقائق المستجدة  باستمرار، لا يعني أبداً  عدم وجود إمكانية لدينا في هذا العصر على  تطوير مضامينها  ودلالاتها في فهم التاريخ، و الذي سيكون من الصعب علينا  فهمه ,  وفهم  مراحل تطور الأفراد والجماعات  في كل مرحلة، وكذلك المراحل التي  تلتها  لاحقاً .

فالميثولوجيا وفق هذا التوصيف، ليست إلا صنع اليوتوبيا وقرينتها، في قيامها بالتعبيرعن الفكر والذهن البشري، وأحاسيس ومدارك المجموعات البشرية في تلك الحقب من الزمن. دون فهم واستيعاب تلك التفاسير التي ظلت تلازم البشرية آلافاً من السنين، لا يمكن فهم التاريخ، ولا إدراك طبيعة الذهن البشري، ولا القدرة على فهم تلك التحولات الكبيرة  التي طرأت على البشرية  أفراداً ومجتمعات.

إن تلك الأراء والدعوات التي ترى أو تطالب بنبذ الميثولوجيا أو تجاوزها كأسلوب، بالاعتماد على العقل التحليلي العلمي، وباللجوء إلى النظريات الرياضية وما تقدمه لنا منجزات العلم في عصرنا، تتجاهل حقيقة تفرض نفسها علينا، وهي تستمد ذاتها من العلم، وهي واقعية ومحقة، حيث تقول :”هناك الملايين من الأذهان لمخلوقات وأحياء غير منتمية إلى العنصر البشري، لاتعرف الرياضيات ولا تدرك ما الذي يعنيه هذا المفهوم. بل كيف يمكن فهم حركة الجزيئات ما تحت الذرية، والأجسام الفلكية غير القابلة للقياس، كلها وغيرها الكثير، أمور تدفعنا بقوة إلى اعتبار هذه القضايا مسلمات وبديهيات، تمنعنا من الانقياد إلى تلك الدعوات والآراء والتسليم بها كحقائق نهائية.

حين التقليل من قيمة الأسلوب الميثولوجي، أو الحكم عليه  من خلال اختزال القضية برمتها في الأسلوب العلمي الوضعي، علينا في هذه الحالة ترك الباب مفتوحاً وعدم إغلاقه كلياً لفسح المجال أمام إمكانية اكتشاف استخدام أساليب جديدة , قادرة على النفاذ أكثر إلى مفاهيم ومعاني , تكون أكثر قدرة على الإجابة عن تلك الأسئلة الكبرى كي لا نقع أسرى لعقائد جامدة , وحتى لا نخضع أذهاننا لحدود نكون قد رسمناها نحن لتلك العقائد الجامدة .

يتبع….

زر الذهاب إلى الأعلى