مانشيتمقالات

اعتقال أوجلان… اعتقال إرادة شعب

عبدالباري أحمه ــ

من الثقافات البغيضة التي تمارسها الحكومات الدكتاتورية وعبر التاريخ هي اعتقال، أو اغتيال شخصيات اعتبارية، تلك الشخصيات تمثل إرادة شعب يناضل من أجل حريته، ففي نهايات القرن العشرين، كان لظهور المفكر “عبد الله اوجلان” التأثير الواضح في تصحيح مسار الحركة التحررية الكردية في شمال كردستان، هذه النقلة النوعية في المفاهيم الثورية والانضباط الثوري الذي مارسه حزب العمال الكردستاني من خلال شخصية زعيمه؛ أعطت للحركة الثورية والتحررية في عموم كردستان والشرق الأوسط ذهنية جديدة في العمل الثوري بشقيه العسكري والسياسي.

كرَّس أوجالان حياته وفكره في خدمة وطنه وشعبه، وكان لشكل النضال الذي رسخه بين صفوف الحزب سبباً واضحاً للحكومة التركية أن تلاحق هذا المفكر، وما زاد من توتر الأتراك أكثر عندما أعلن اوجالان الكفاح المسلح في منتصف آب من عام 1984 وتتالت الانتصارات الشعبية، وأصبح الشعب الكردي حاضناً حقيقياً لكل المقاتلين، ولم تجد الحكومة التركية وسائل لمحاربة هذه الحركة الثورية التي تبنت الفكر اليساري الثوري لتحرير شعبها ووطنها.

في هذه الأثناء لجأت تركيا إلى العمل الاستخباراتي للنيل من هذا القائد، وكونها أي تركيا عضو في حلف الناتو طلبت من أمريكا وإسرائيل وبعض الدول الأخرى أن تساعدها في هذا العمل الإجرامي.

ووفق سيناريو بين الدول المتحالفة مع تركيا، بدأ الضغط على حكومة دمشق لإخراج أوجلان ومقاتليه من البقاع، أو إشعال حرب ضد سوريا على طول حدودها الشمالية، ففي عام 1999 خرجت طائرة تقل أوجالان نحو روسيا، ثم ايطاليا، وحطت الطائرة في اليونان التي امتنعت هي الأخرى من استقباله، ثم توجهت الطائرة نحو كينيا، وفي عاصمتها اكتملت مشاهد المؤامرة الدولية باعتقال المفكر عبد الله اوجالان، وسجنه في جزيرة إمرالي التركية، بهذا الصدد أكدت نيويورك تايمز شباط 1999 (إن الضغط الدبلوماسي والأمني الذي مارسته واشنطن لمدة أربعة شهور مكنت في النهاية تركيا على اعتقال اوجلان)*. بهذه الخاصية مارست واشنطن ضغوطاً دبلوماسية كبيرة على جميع الدول التي منعت طائرة اوجلان من أن تحط في مطاراتها، كي تسهل عملية ملاحقته واعتقاله.

من النتائج التي لم تكن بالحسبان عند الأتراك، كونها كانت، أي تركيا، تعتقد بأن مسيرة الكرد التحررية سوف تنتهي بعد اعتقال زعيمهم، حتى الدول الشروق أوسطية والدول العظمى دخلت في متاهات التحولات الفكرية والذهنية التي تبناها اوجلان في سجنه، ولم تأت هذه المتغيرات الفكرية والفلسفية من فراغ، بل جاءت حين جعل من سجنه مساحة كبيرة للإبداع، وخلال أعوام قليلة انتشرت فلسفته وأفكاره إلى ذهنية مجتمعية. من هنا باتت هذه الفلسفة أكثر خطورة من ذي قبل، فلجأت تركيا إلى تضييق الخناق عليه.

قد تكون مؤلفات “اوجالان” من أعظم نتائج اعتقاله، والتي أبهرت كل المكونات الكردستانية بمفاهيمها وفلسفتها، فكانت الموسوعة التي شغلت عقول الحكومات والشعوب (من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية) جزء من مرافعاته أمام المحكمة، ففي هذا المؤلف أعاد صياغة المفاهيم التاريخية والفكرية للحضارة البشرية، ثم اتبعها بمؤلفات أخرى (سوسيولوجيا الحرية) وما زالت (مانفستو الأمة الديمقراطية بأجزائها الخمسة خطة طريق لحل القضية الكردية وقضايا باقي الشعوب في كردستان والعالم.

من الملاحظ على ديناميكية فكر “اوجالان” أنه لم يبقَ في قالب الجمود العقائدي، ولم يبقَ أسير أفكاره السابقة، بل أحدث تغييراً مفصلياً في ذهنيته وذهنية كل المكونات (فإن انتبهنا، القائد لا يبقى أسير ما قاله في الأمس)** دائماً لرجال الفكر والفلسفة والسياسة محطات مهمة، وقد تكون فلسفة المفكر “اوجالان” واحدة من الفلسفات المهمة في نهايات القرن العشرين، وسوف تستمر هذه المفاهيم والفلسفة الجديدة بمثابة دروس لكل مكونات المنطقة؛ لأن القائد الحقيقي هو من يترك إرثاً وطنياً وتاريخياً يصلح لكل الشعوب والمكونات، إرثاً إنسانياً لا يمت بِصِلةٍ لأي دين أو قومية.

زر الذهاب إلى الأعلى