ثقافةمانشيت

“ممالك النار” حقيقة الأتراك تحت المجهر

اجتاحت الدراما التركية المدبلجة خلال العقود الأخيرة الشرق الأوسط بشكل عام وسوريا بشكل خاص، وتأثر بها فئة كبيرة من المجتمع، وأصبحت ثقافة المسلسلات التركية طاغية وبكثرة بين جميع الفئات وعلى وجه الخصوص الفئة الشابة حيث كانت اللهجة السورية هي الرائدة لدبلجة تلك المسلسلات بأصوات ممثلين سوريين لهم باعٌ طويل في مجال الدراما، وكانت الشهرة التي حصلت عليها الدراما التركية بفضل أداء هؤلاء الممثلين لتفاصيل المسلسل من خلال أصواتهم بِحِرَفيَّة عالية، وكانت هذه المسلسلات الدرامية مقتصرة على الحديث عن جوانب معينة من المجتمع التركي المعاصر، بعيداً عن تاريخ تركيا الآن والدولة العثمانية في السابق، وبعيداً عن نقاط التشابه الكثيرة بين ممارساتها قديماً ووقتنا الراهن.

إلا إن الدراما السورية سلطت الضوء على الحرب التي اندلعت في وجه الاحتلال العثماني الذي حكم طيلة أربعة قرون من الزمن، وذلك من خلال الكثير من الأعمال الدرامية، ومن الأعمال الدرامية التي أخذت شهرة واسعة هو “أخوة التراب” الذي تم عرضه عام 1996، حيث تناول انتهاكات الدولة العثمانية وما كانت تقوم به تجاه الشعوب المسالمة.

وعلى مدى العقود الأخيرة كانت الدراما التركية تحاول إخفاء ما كانت تقوم به الدولة العثمانية من جرائم وتلميع للتاريخ الدموي لها، إلا أن مسلسل “ممالك النار” جاء متمماً لما بدأه “أخوة التراب” لفضح الصفحات السوداء للعثمانيين، وما كان يفعلونه من جرائم، وبالرغم من صدور حلقات قليلة منه إلا إنه كان هناك غضب من تركيا حول هذا المسلسل مدعية إنه يشوه التاريخ التركي ويُظهر العثمانيين بطريقة دموية.

هذا وتحدث الكاتب حسن يوسف، كاتب مسلسل “إخوة التراب” لـ RT، عن الفترة ما بين “أخوة التراب” في 1996 و”ممالك النار” الآن، فيقول حسن:

“إخوة التراب” كان يحتوي الكثير من المشاهد “القاسية”، وخاصة مشهد “الخازوق” الذي أثار جدلاً كبيراً، حين عرض لأول مرة، خاصة أنه عُرض مرتين في نهاية حلقة، وبداية الحلقة التي تلتها، حيث كان صادماً لأنه جاء نوعاً من التجسيد الدرامي لما يتداوله الناس في أحاديثهم عن “الخازوق” أو “الخوازيق” التي أصبحت رمزاً لكل مصيبة تحل بهم.

ورغم أن العمل جاء في فترة كانت فيها العلاقات التركية السورية تشهد توتراً، يؤكد يوسف أن ذلك لم يكن ما دفعه لكتابة المسلسل، قائلاً:

“عندما أكتب لا أضع المحفزات السياسية بالاعتبار أنا أنظر بوجداني فقط وأكتب”.

ويتحدث يوسف عن شقيق جده الذي “ذهب بالسفر برلك ولم يعد” إلا أنه اتخذ مساراً آخر في المسلسل: “انطلقت من واقعة تاريخية حقيقية من تاريخ عائلتي ولكنني وضعتها في خط آخر تمشي فيه كي أحكي قصة هذا الرجل وقصة البلد”.

حين تحدث حسن يوسف عن المراجع التي اتكأ عليها في كتابة العمل، لم ينسَ الحديث عن المذكرات التي وجدها في المكتبة وكانت لا تزال مخطوطة”، ومنها استطاع أن يوثق المشهد الذي أثار جدلاً كبيراً، وحقيقة وجود “الخازوق العثماني”.

لذا وفي سبيل محو آثار تلك الجرائم من الدراما وعدم تسليط الضوء عليها، جندت تركيا أجمل شبابها وشاباتها في صورة العشاق المضحين، إضافة إلى إظهار “السخاء التركي” في سبيل “دبلجة” مسلسلاتها.

إلا إنه رغم ذلك لم يتوقف الكتّاب عن الكشف عن انتهاكات الدولة العثمانية وتسليط الضوء عليها من خلال الدراما، كمسلسل “ممالك النار” الذي يُعرض في الوقت الحالي على قناة ”إم. بي. سي“.

فقد أثار المسلسل، الذي أُنتج بميزانية فاقت 40 مليون دولار، جدلاً واسعاً في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرته تركيا مسيئاً لتاريخها، بينما رأى آخرون أن المسلسل جاء تقويماً للاعوجاج الذي كرسته المسلسلات التركية التي لطالما مررت رسائل سياسية عبر انتاجات ضخمة صرفت عليها الملايين، مثل مسلسل ”الفاتح“ و“قيامة أرطغرل“.. وسواهما.

ووفقاً لمتابعين للشأن الدرامي، فأن ”ممالك النار“ كسر القناعات التي رسختها الدراما التركية، إذ بدت رؤية المسلسل مختلفة عما اعتاد عليه المشاهد، من جرأة في الكشف عن المسكوت عنه، والتصريح بحقائق ووقائع طمستها الدراما التركية التي سعت إلى تمجيد تاريخ السلاطين العثمانيين، من دون الاقتراب من المحاذير التي تفرضها السلطات التركية الرسمية، كإنكارها، مثلاً، للإبادة الأرمنية التي راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني مطلع القرن الفائت، باعتراف المؤرخين، ومختلف المصادر التاريخية.

وبدا كاتب مسلسل ”ممالك النار“ المصري محمد سليمان عبدالمالك، واعياً للتشويه الذي مارسته الدراما التركية، إذ قال في تصريحات صحفية إن مسلسله يُعد ”محاولة لاستثمار الفن في توسيع وعي المتلقي ومداركه“، مشيراً إلى أن ”علينا أن ندرك أننا في معركة وعي مستمر، تحاول تركيا حسمها لصالحها بتقديم أعمال زائفة ولا ترصد الحقائق بصورة محايدة“.

ووصف عبدالمالك فترة حكم العثمانيين بأنها كانت ”مليئة بالمجازر التاريخية“، وهو ما يحاول تسليط الضوء عليه عبر عمله الذي جاء من الناحية البصرية، متقناً، ومنفذاً بطريقة ملحمية جذابة.

ولم يشأ كاتب العمل أن يقدم عملًا ساذجاً، ووقائع مفتعلة، شبيهاً بالدراما التركية، وإنما استعان بورشة عمل بهدف كتابة عمل يخلو من الأخطاء التاريخية، كما استعان بالكثير من المراجع والمصادر الموثقة، ومن أبرزها: ”بدائع الزهور من وقائع الدهور“ للكاتب المصري ابن إياس، وهو مؤرخ مصري عايش الفترة التي يغطيها المسلسل، وكان يكتب ما يشبه يومياته ويعتبر شاهداً على تلك الحقبة، ومرجع آخر، وهو ”واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني“، لكاتبه ابن زنبل الرمال بطريقة السير الشعبية وباللغة العامية المصرية.

المسلسل بدأ بسرد جزء من سيرة السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي وصل في سنة 1451 م إلى عرش السلطنة العثمانية، إلا أن المسلسل سرعان ما ينتقل إلى فترات تاريخية لاحقة ليتناول الصراع العثماني المملوكي ودخول العثمانيين إلى الشام ومصر في عهد السلطان العثماني سليم الأول، وقصة آخر سلاطين المماليك، طومان باي، الذي هُزم أمام جيش السلطان العثماني سليم الأول في مصر عام 1517 في معركة الريدانية، بعدما تعرض لخيانات متتالية من أمرائه.

وتولى إخراج المسلسل، المؤلف من 14 حلقة، المخرج البريطاني بيتر ويبر في أول عمل له بالمنطقة، بعد أن أخرج أفلاماً ملحمية شهيرة، مثل ”الإمبراطور“ عام 2012 ، وفيلم ”الفتاة ذات القرط اللؤلؤي“ عام 2003.

وجرى إنتاج العمل بميزانية ضخمة تتجلى في طريقة تصويره الملحمية، ومشاهد المعارك والمجاميع الضخمة، والموسيقى التصويرية المرافقة، فضلًا عن الحوار الذي ينم عن حس تاريخي فريد، ويشارك فيه نجوم الدراما، مثل: خالد النبوي (في دور آخر سلطان المماليك طومان باي)، والممثل السوري محمود نصر (في دور السلطان العثماني سليم الأول)، ورشيد عساف (في دور سلطان المماليك قانصوه الغوري)، ومنى واصف وديمة قندلفت، وعبدالمنعم عمايري، ورفيق علي أحمد.

ويبدو أن تركيا قد تنبهت، سريعاً، إلى ما سيفصح عنه العمل، وذلك بدءاً من التترات والعبارة التي ظهرت في المقدمة، ”قانون دموي حكم إمبراطورية، فأصبح لعنة تطاردهم“، إضافة إلى حوارات تقول: ”السلطان أهم من الإنسان“، وعبارة ”العرش لا يقبل القسمة على اثنين“، وعبارات أخرى عن سرقة الأرض والحكم واغتصاب النسب والدين“.

ورغم ردود الأفعال التركية الغاضبة من سياسيين وكتّاب وصحفيين، إلا أن متابعين يرجحون أن المسلسل سيضع حداً للادعاءات التركية عن تاريخ العثمانيين وكيف كانوا ينظرون إلى الشعب نظرة دونية، ويفعلون ما بمقدورهم للتوسع، وهو الأمر الذي ما زال إلى الآن يلقي بظلاله على سياسة تركيا التوسعية ورغبتها الحالية في السيطرة وبسط النفوذ، إضافة إلى ممارسات وانتهاكات لا إنسانية بحق شعوب المنطقة.

 

 إعداد: آلندا قامشلو

زر الذهاب إلى الأعلى