مانشيتمقالات

بقيت حلبجة وعفرين تبقى. فالغزاة وحدهم يرحلون.

سيهانوك ديبو

التعرّف على الشعوب وعلى قضاياها بعد مقتلات يتعرضون لها ما هو سوى مدخلٌ لا إنساني؛ وباب من أبواب الهلوسة واللوثة البشرية. فأن نتعرف على الروهينغا –مثالاً- حينما يؤكل لحم شعبها؛ أشبه بالمشاركة في القتل؛ وفي أحسن الأحوال شهود على القتل.

أغلب حكّام الشرق الأوسط هم من الحمقى أو المجانين. ويبدو التسليم بهذا الوصف بعد خرائط سايكس بيكو؛ بالأكثر دقة. وشعوب الشرق الأوسط باتت مهددة بالفناء الفكري؛ نراهم إما مقتولين على يد الحكّام أو مسجونين في بلاد مسجونة. أما المرفّهة منها فهي التي تأكل وتحرص أن تشاهد دوري (الأبطال) مع قرقشة لكميات هائلة من البزر. هنا حتى مفهوم البطولة يستعاض عنها ببطولات من المفترض أن تكون؛ إذا كان من الضروري أن يكون؛ في المراتب الأخيرة بعد تحقيق أمور كثيرة لم نتعرف عليها ولم نعرفها؛ أقصد نهوض الشعوب الحرّة. مع العلم بأن السبب الحاسم في ذلك إن لم نقل الوحيد يكمن في غياب الديمقراطية (ديمقراطية القبول) (الكل يقبل بالكل كما هم وكما يقررون بإرادتهم الحرة أن يكونوا) (دون استعلاء ودون تنميط)؛ وإلّا يبقى المشهد الذي نعيشه يدوم: الجميع في حرب ضد الجميع. مشكلة كبيرة أن يستيقظ صدام حسين من صباح نهاري آذاري ويأمر ابن عمه حسن المجيد المكنّى لاحقاً بالكيماوي؛ فيأمر ستة طائرات حربية بقصف مدينة بأكملها ويعلن الموت في ثوانٍ لخمسة آلاف من المدنيين الكرد؛ أغلبهم من الأطفال والنساء. حدث ذلك في 16 آذار من العام 1988. ألا يعتبر ذلك بأنه مشهد من قصة موت معلن لشعب بأكمله؟. المشكلة الكبيرة لا تبدو هنا فقط إنما بأن من قامت بفضح هذه الجريمة هي إيران؛ من المؤكد ليس من منطلق عشقها نحو الكرد إنما كرهاً وتناقضاً وتباين مصلحة والنظام الديكتاتوري في العراق ذلك الحين. نظام استبدادي ضد نظام استبدادي آخر. كمثل الذي يجري اليوم في اجتماعات آستانا و(ضامنيها) أكثر ثلاثة دول لها من التناقضات التاريخية والمعاصرة؛ تناقضات من العيار الاستراتيجي الثقيل. بالرغم من ذلك تحوّلت إلى ضامنة لدوام المقتلة السورية. وبالتحديد في عفرين.

تضع عفرين ورائها هذه اللحظات ست وخمسون يوماً ثقيلاً تعتبر من أطول وأعظم وأشرف المقاومات التي تعرّفت عليها البشرية. شريفة وعظيمة لأنها وحدها. لأنها وحيدة تقاوم رافضة أنظمة الذل والظلام. شريفة لأنها تكاد تكون بقة الضوء الأخيرة في عصر الظلام الذي بات يدخل إليه العالمية من خلال النظام الدولتي المقيت القائم على سفك الدماء تحت عباءة مهترئة اسمها المصالح. عظيمة لأنها تنفّذ أجنداتها الوطنية والإنسانية ولم تتحول؛ بالأساس لا تقبل أن تتحول إلى مُشَغِّلة بيد غيرها. بالرغم من الحرص الشديد الذي تبديه هذه المقاومة كمحطة ناجزة من محطات ثورة روج آفايي كردستان وشمال سوريا من التزام بالمواثيق والعهود التي تتشارك فيها ثقافات العالم؛ إلّا أن قاتل أطفال ونساء ومدنيي عفرين يترك حراً فيتمادى في غيّه دون أن يعترض على ذلك أية جهة دولية؛ حتى اللحظة. باستثناء بعض الأصوات التي تشبه الثرثرة فلا قيمة رسمية لها. من قطع مصادر المياه. إلى اتلاف مصادر الطاقة. إلى استهداف الأفران. إلى هدم مراكز الصحة. إلى استخدام السلاح الكيماوي (نفسه الذي استخدم في حلبجة- الكلور) إلى قصف المشفى الوحيد في عفرين. إلى قصف مدفعي وجوي مكثف لمركز المدينة المكتظة بحوالي مليون مدني؛ نصفهم من اللاجئين فوقوع المئات من الضحايا بمبغى ترويع المدنيين وتفريغ المدينة وأخيراً إحداث أكبر تغيير ديموغرافي التاريخ المعاصر. وهذا كله يحصل أمام أعين العالم الصامت الأخرس الأطرش الأعمى. عالم مجنون يعيش بلا معايير ودون احساس بالمسؤولية.

لكن من العبث التفسير بأن الأعلام التركية؛ أعلام نظام فاشي ارهابي؛ المرفوعة في بعض مناطق عفرين تعتبر إشارة نصر الإرهاب. إنها علامة على سقوط الإنسانية وسقوط سوريا وتقسيمها في عفرين. بالرغم من ذلك فإنه من العبثية أيضاً بأن ذلك يدوم. إنها مهمة شاقة أمام عفرين، لكنها بدون شك سوف تنجز لصالح الشعب في عفرين ولصالح مقاومة عفرين. لقد عاث أجداد أردوغان الخراب والدمار في حضرموت؛ لكن حضرموت غدت مقبرة للعثمانية. ومن عند عفرين بدء مسلسل انكماش العثمانية قبل مئة عام. ومن عندها اليوم تتبخر العثمانية الجديدة وتبقى أثر بعد عين. حلبجة اليوم محافظة بذاتها. عفرين اليوم وغداً إقليم جميل من أقاليم الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا. النظام الفاشيّ في العراق ولّى دون رجعة، والنظام الفاشي في تركيا يولّى ويرحل, بقيت حلبجة وتبقى عفرين. إنها قصة الحرية وقصة الشعوب التي ترمي الأصفاد وتستحق أن تكون حرة أبية مهما سالت الدماء.

زر الذهاب إلى الأعلى