الأخبارمانشيت

المعهد الملكي «تشاتام هاوس» يشخص الإدارة الذاتية الكردية في سوريا

roj-avaفي ورقة بحثية صادرة عن المعهد الملكي للشؤون الدولية «تشاتام هاوس»، في إطار برنامجه المخصص للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يتناول الباحث “غادي صاري” موضوع الإدارة الذاتية الكردية في المناطق السورية، واضعاً إياه في حيز المنازعة بين «الطموح والبقاء»، منطلقاً من وضع الكرد قبل سنة 2011، منتهياً إلى الوضع الراهن المتزامن مع وقت صدور الورقة (أيلول 2016)، مروراً بتداخل القضايا الأمنية والإدارية في الموضوع.

ترصد الورقة الصعود الملحوظ للقوات الكردية السورية في حربها مع «داعش» في معركة عين العرب/ كوباني، وتمكّنها من الحصول على دعمٍ أميركيٍ واضح. الأمر الذي حدا بالكاتب إلى أن يعتبر الانتصار على «داعش» سبباً كافياً لكي تتحول تلك القوات إلى نموذج لـ «المقاومة الكردية» في باقي المناطق الكردية في المنطقة. ذلك أن أهمية القوات الكردية السورية تزايدت في المنظور الأميركي، بسبب ظهورها المفاجئ كحليفٍ بريٍ يمكن الرهان عليه في المعركة مع «داعش»، وذلك بعدما كان الاهتمام منصباً على كرد العراق.

والورقة هي بمثابة تقرير تحليلي موجز يمتد على مساحة العشرين صفحة، لكنه يعكس إلماماً دقيقاً بتفاصيل الموضوع، ومعالجة احترافية مبنية على تتبع كرونولوجيا الأحداث التي تسارعت منذ أن حدثت الطفرة في تنظيم «داعش» باستيلائه على الموصل. والسبب في ذلك الإلمام يعود إلى كون الورقة مبنية على بحث استغرق مدة عام من الاشتغال بين الباحث وبين «تشاتام هاوس»، بحيث كانت الغاية منه هي تقييم الإدارة الذاتية الكردية للمناطق التي تمّ تحريرها من سيطرة «داعش»، ومحاولة تبيان مواطن النجاح والإخفاق فيها، مع ميل واضح في الورقة إلى تثمين تلك التجربة، برغم إخفاقاتها التي لم تتخلّف الورقة عن معالجتها أيضاً.

ينطلق “صاري” في هذه الورقة من اعتبار مفاده أن المنطقة الكردية في سوريا هي حيزٌ جغرافيٌ تاريخيٌ وثقافي ينتمي إلى الهوية القومية الكردية. ولذلك يرى أن تلك المنطقة عبارة عن «واقع تاريخي وهوياتي وسياسي تمّ تجاهله قبل سنة 2011». هذا الواقع ما هو إلا «روج آفا» في الاستعمال السياسي القومي الكردستاني، أي «مغيب الشمس» باللغة الكردية، وهو يُستخدم للدلالة على «المنطقة الغربية من كردستان الكبرى». أي أن الحديث يدور عملياً عن ثلاثة كانتونات ممتدة على الحدود السورية الشمالية مع العراق وتركيا، وهي: عفرين، كوباني، الجزيرة.

إلا أن الكاتب لدى تعريجه على التعاطي «السيئ» للدولة السورية مع موضوع الكرد، خصوصاً في مرحلة «البعث»، يتغاضى عن الجذر التاريخي للمسألة الكردية، والتي يمكن وصفها بأنها «مسألة» في كل من تركيا والعراق وإيران إلى حد ما، حيث التكوين التاريخي المختلف لهذا الانتماء اللغوي والثقافي. أما الكرد في سوريا، فلم تكن تلك المناطق بالنسبة إليهم إلا نقاط نزوح أيام القمع الكمالي لثورة “الشيخ سعيد بيران”، ما جعل النزوح يستحيل توطيناً، فتحولوا من كرد أتراك في سوريا إلى كرد سوريين، ثم إلى سوريين. وهو ما يحصل غالباً في حالات النزوح التي تمضي عليها عقود فتتوطن أجيال لاحقة في كيان سياسي دونما التخلي عن خصوصياتها الثقافية.

لقد حاولت الحركة السياسية الكردية في سوريا مراراً التفلت من وصاية مسعود برزاني، إلا أن تلك الوصاية خيّمت على مجمل تلك الحركة لاحقاً. فمنذ تأسيس «الائتلاف الوطني الكردي» في تشرين الأول 2011، إثر تجمع أحزاب كردية سورية معارضة للنظام السوري في أربيل، بدأت مساعي أربيل في الوصاية، وصولاً إلى دعم كرد سوريا في المعارك مع «داعش» بإرسال مقاتلين من «البشمركة»، على خلفية الدعم الأميركي البريطاني، وذلك بعدما كان للبرزاني موقف سلبي من حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي» بسبب انتهاجه «خطاً ثالثاً» حيال الأزمة السورية ونظام الرئيس الأسد.

ويرى الباحث أن التناقضات بين المكوّنات الكردية السياسية والعسكرية، أجهضت حلم «كردستان الكبرى»، فبدأ كمن يسلّم بأولوية الاعتبارات الذاتية في تظهير هذا الحلم، علماً أن مشروع كردستان يقع ضمن معادلات إقليمية يرفض أطرافها رفضاً باتاً قيام تلك الدولة على أجزاء من جغرافياتهم، وفي مقدّمتهم تركيا. وهو الأمر الذي لا يتجاهله الكاتب على أي حال.

صحيحٌ أن «وحدات حماية الشعب الكردي» في سوريا أبلت بلاءً حسناً في مواجهة تمدد تنظيم «داعش»، إلا أن هذا الإنجاز كان فقط مقدّمة لتثبيت نقاط سيطرة على المناطق المحرّرة من «داعش»، على إيقاع الدعم الجوي الأميركي، وذلك لتبدأ فصول الإدارة الذاتية الكردية بقيادة «حركة المجتمع الديموقراطي»، في إطار حكومة أطلق عليها «حكومة الأمر الواقع»، حيث إنه منذ إعلان «الإدارة الذاتية» بشكل غير رسمي في تشرين الثاني 2013، فإن الحكومة السورية لم تعترف بما يمكن تسميته حكماً ذاتياً في «روج آفا».

برغم ذلك فإن الورقة تتبنى أسلوب الإدارة الذاتية المبسط الذي قام على معادلة الأمن وتدبير شؤون السكان، وذلك باعتباره جزءاً من حلٍ شاملٍ يمكن إعماله في سوريا. حيث إن براغماتية الحركة سمحت لها بأن تكون على مسافة متقاربة من جميع الأطراف، ولم تفرّط في الخدمات التي كانت تقدمها الدولة السورية.

ويختتم “صاري” منحاه التحليلي بالتطرق إلى العلاقة بين حكومة روج آفا وبين دمشق، حيث التنسيق الحذر واللامركزية متبناة من جانبٍ واحدٍ فقط، والمحاذير كثيرة. إذ يصعب على حكومة روج آفا أن تراهن على الجمع بين الدعم الأميركي وعلاقتها مع دمشق، لا سيما أن تغليب الحرب على «داعش» وما يرتبط بها من لوازم أمنية، يتحول إلى ضغط يؤثر حكماً على واقع الإدارة الذاتية. هذا فضلاً عن أن التقدم في مواجهة «داعش»، واستخلاص المزيد من الأراضي يجعل من الموكول للقوات الكردية أن تدير مناطق ذات غالبية عربية، ما قد يعصف بشكل الإدارة الذاتية الكردية نفسها، حينما يصبح من الضرورة ترك الأمر للأهالي العرب في إدارة مناطقهم بأنفسهم، أو العودة إلى سلطة الدولة السورية.

ويمكن القول إن الفدرالية كحل للأزمة السورية هي السردية المهيمنة على هذه الورقة البحثية. علماً أن الفدرالية للمجتمعات المتعددة التركيب العرقي والديني واللغوي قد تكون مفيدة إذا جرى إعمالها في سياق مستقر نسبياً. لكن هل يمكن القول مع مضمرات الورقة التي بين أيدينا أن اللامركزية البسيطة أو الفدرالية أو الكونفدرالية هي صيغٌ قد تخدم الواقع الاجتماعي والسياسي السوري الراهن؟ صعب أن نجيب على هذا السؤال بنعم.

زر الذهاب إلى الأعلى