مقالات

العبثيات الكبرى في حرائق المنطقة

سيهانوك ديبو

كحدٍّ أقصى؛ كل مئة عام يتكوّن نظام هيمنة جديدة. كل نظام مهيمن لا يمانع في وجود عشرات القوى الأدنى تأثيراً؛ وليس من الضرورة أن تتوافق مع رأس النظام المهيمن. بل ربما يظهر في منظر المعادي؛ انطلاقاً من القاعدة الأساسية في السياسة الكلاسيكية منذ خمس قرون وحتى اللحظة المتضمنة بدورها في إبقاء القوى المتناقضة متوازنة. منذ الآن؛ بعد قرنٍ من الزمان؛ قد نكون من يشارك بشكل أساس في وضع الخطط والمخططات، بالإضافة إلى؛ نماذج الحل المناسبة. ما تقدم ليس له بعلاقة بهرطقة أو شِطاح فكري؛ إنما محاكاة أو محاسبة البراديغما الناجحة للتاريخ؛ للذي جرى في التاريخ. إنْ لم يكن كذلك؛ هل كان الروسي قبيل ثورة البولشفيك – قبل مئة عام – أن يفكر بأن امتداده كي يكون منَ الأساسيين في رسم ما يجري في المنطقة وعموم العالم؟ بالرغم من عدم انكار تأثير روسيا القيصرية واعتبارها قوة سياسية وعسكرية واقتصادية فيما قبل البولشفيك، وصولاً إلى خمس قرون سبقت ثورتها في العشر الثاني من القرن العشرين. بل هل كان الأمريكي متأكداً بأنه يصبح اللاعب الأكبر في السياسة الدولية، ويتربع على عرشها منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن؟ الأمريكي الذي أثقل كاهله حربهم الأهلية قبل قرن ونصف القرن؛ مع وجود اشكاليات هائلة في الجغرافيا والديموغرافيا، وعبأً ثقيلاً من التوترات الداخلية؛ حتى أينعت الجمهورية الأمريكية المبكرة. بالرغم من الأمثلة الدامغة في التاريخ؛ إلا أن الأغلب لن يكون بمقدوره التوقف عندها. السبب يعود في خروج روحه من جسمه. ووجود دماغ له؛ (لا ينتمي) إلى القيم التاريخية والحديثة التي يمتلكها الشرق الأوسط. مثل أي مسخٌ -لكنه- يحمل هوية آدمية؛ فيستلذ بالانتماءات الأولية؛ لا دخل له بانشائها وتحديثها؛ مفروضة عليه. يتوقف عندها، لا يستطيع صناعة الانتماء ما فوق الوطني. ولأن الستاتيك لا يمكن أن يكون؛الذي يحدث أن هذا السكون يتعرض لوابل من الديناميك الآتي من الخارج، فيتسفخ المسخ المتوقف عند الانتماء الأولي وتبدأ حينها عملية التشظي إلى الانتماءات تحت الأولية: العقدية والطائفية والعشائرية. كل شيء يضمن القهقرى. ولا توجد منطقة تفيض بالممسوخ فكرياً أكثر من منطقة الشرق الأوسط..

لا توجد منطقة في العالم تضاهي الشرق الأوسط من ناحية تعرضها لكافة أشكال العنف والإبادات المادية والثقافية. وكأنه انتقام تاريخي مزمن منه. من الشرق الأوسط صُيِّرَتْ الحضارتين الديمقراطية والمدينية، ومنها تم السلب والاستيلاء، وكأن تعرضها على طول الخط لمثل هذه الضربات – بمباركة من الأنظمة الاستبدادية وكافة زمر الاستبداد في الشرق الأوسط – يكمن في عدم وقوفه على رجليه مرةً أخرى والممشى في الاتجاه الذي يتناسب ودوره الحضاري المعيش في التكامل والتتام.

عبثيات السوريين الستة

اليوم ولاحقاً قريباً؛ ينقسم السوريون فيما بينهم؛ إلى ست فئات. يمكن تسميتها بانقسام المجتمعيّة المرحلي لما بعد الأزمة السورية. مع التركيز على وجود استطالة لها تعود إلى ما قبل الأزمة؛ بشكل أو بآخر.

  • فئة تأن فقط؛ دوام السؤال على المقارنة على مكانة السوري وتميّزه والحال الموصول إليه اليوم. هؤلاء يعانون من واقعة اضطرارية هي النوستالوجيا؛ هؤلاء في الوقت السابق من الأزمة تراهم يعيشون في فترات سابقة في أية فترة يعيشونها.
  • فئة تريد الخلاص؛ كيفما كان؛ هؤلاء أنفسهم من ينتمي إلى المشاركة الضدية للنظام الاستبدادي؛ كيفما كان؛ لا يملك هذه الفئة العيون الحقيقية؛ يرى من خلال الآخرين، ويتكلم من لسان الآخرين، ليصل إلى درجة التفكير كما يريده البعض. كما أن هذه الفئة تلعب أسوأ الأدوار – في مرحلة حساسة – كما المرحلة الحالية فتظهر مواقفها وتحركاتها في دعم مباشر لموقف النظام الاستبدادي؛ كما في حالة إصراره على إعادة إنتاج نفسه في صيغة المركزية؛ لا تمنع أن تكون هناك مواد مُجمِّلة للمركزية ضمن سياق اللامركزية الهشة أو المبتورة.
  • فئة الضد من الضد. ربما هي فرصة مناسبة لتصويب القلم نحو أساس المشكلة في سوريا. والتفكير بصوتٍ عليٍّ بأن أغلب المعارضات في سوريا لم تكن معارضة. هل من المعقول أن يكون أول ظهور للمعارضة في سوريا، وأن يكون السوريون في موعد تاريخي ويروا أن بديل النظام الاستبدادي (المجلس الوطني السوري) ومن ثم (الائتلاف)؛ كليهما؛ بأغلب الموجودين فيهما؛ على نية وفعل مشروع إسلاموي في سوريا؟ ينتقل بهؤلاء؛ لاحقاً؛ كي يتم اكتشاف بأن لجبهة النصرة (يسار لها ) معتقلون سابقون في أقبية النظام البعثي. ويزيد بالحال بلّة أن يتم تفضيل داعش على النظام الاستبدادي؛ وفي الوقت نفسه يتم التفاوض من قبلهم مع الأخير، أو بالأحرى؛ يؤمرون في ذلك.
  • فئة الخائفين من التغيير. لم تكن منظومة الاستبداد في سوريا ورئيسها هي المشكلة الأولى على عتبة التغيير الديمقراطي الجذري في سوريا. المشكلة الأولى هي الأخيرة؛ والتي حوّلت إلى أزمة مستعصية، وتكاد تكون سوريا تتصدر مركز الفوضى في عموم الشرق الأوسط. المشكلة تكمن في طبيعة النظام المركزي الذي يخالف الطبيعة الاجتماعية في سوريا؛ والحل الذي يناسب ذلك يكمن بالفيدرالية الديمقراطية. فيدرالية سوريا الديمقراطية؛ التي؛ ربما؛ تتألف من أربع فيدراليات، متوزعة عليها السلطات وقضايا التنمية وتمثيل شعوب سوريا؛ كما المتعارف عن الأنظمة الفيدرالية الرصينة، المعهودة بوزنها بالنسبة لشعوبها أو فيما يتعلق بتأثيرها على ما يحدث في المنطقة والعالم. هذه الفئة تخشى التغيير، فتختار الرمادي من الألوان. ليست بالكامل مع النظام، وهي ترفض بطبيعة الحال أية معارضة. المسألة هنا لها استطالات ذات منبع اقتصادي وهرمية سلطوية زائفة ضمن نطاق محدد. إذْ أنه في فترة ما قبل الأزمة يظهر وكلاء رسميون وغير رسميون في المجتمع؛ يتقاسمون هدف إبقاء النظام.
  • فئة الثابتين في اللا ثبات. أو المتحولين. يعود ظهور هذه الفئة إلى حالة الشح الكامل من أي انتماء لبراديغما. هذه الفئة لا تواجه الواقع. إنما تدير له الظهر. وتبدأ بالتحول عن كل شيء وهجران البلد. ولا نية لها بالأساس لأية مواجهة. أفضل من يمثِّل هذه الفئة أغلب المهاجرين أو المغادرين من روج آفا وشمال سوريا تحت حجج واهية تؤكد ما قلناه وتفنِّد ما يتحججون به. من يتحوّل من واجب الحماية الذاتية يجب على الأقل عدم الخوض في أية مسألة تتعلق بالأوطان وقضايا التغيير. والمتحوّل يفقد حقوقه مجرد إقدامه على خطوة الهروب من الوطن تحت حجج وذرائع؛ الحقوق والواجبات وجهان لعملة واحدة هي الفرد الحر والجماعات الحرة والمجتمع الحر.
  • فئة الواهمين. ترتيبها من هذه الفئات هي الأولى بالرغم من وروده هنا، هذه الفئة موجودة في النظام وموجودة في معارضته التي تشبهه أكثر من أن تختلف معه. وأما الوهم فهي كينونات غامضة ومبهمة لم تحدث إلّا لصاحبها أو معتقدها، إنه الشخص المستعد لفعل أي شيء يعادي الحقيقة، ويرى الفيلسوف أوجلان بأن الوهم يتعدى الفردية الواهمة كما تفسير أفلاطون، والشخصية الواهمة كما تفسير نيتشه، إلى أنظمة ونمطيات كاملة واهمة، فحينما تصر أمة نمطية على أن تكون على حساب صهر ثقافات وقوميات وأعراق أصيلة فإنها أمة واهمة تسحقها حججها التي تتآكل بفعل عوامل الحقيقة، ونسق الحقيقة في الأمم الواهمة تشتد بفعل التضليل والإبادة التي يمارس ضدها، وأن المجتمعات المنظمة هي المجتمعات الحقيقية التي تستحق العيش دون وهم، وعلى عكسها تماماً فإن المجتمعات الواهمة هي المجتمعات غير المنظمة والتي لا تعير أية أهمية للتاريخ ولعنة الجغرافية في التاريخ والمستقبل. ومثل هذه المجتمعات تصدق الأوهام على أنها حقيقة وتساعد في الوقت نفسه أن تُصدق الأمم النمطية الواهمة وهمها، وفي هذه الحالة يجب العمل لتحقيق الفرد الندي والشخصية الثورية عبر أداة الذهنية التي تقف في وجه أوهام النمطيين، وتنتصر عليهم أو تقبل بانتصارها، وأن حقيقة الأمة الديمقراطية تلقى معارضة كبيرة من وهم الأمم النمطية التي تبدأ بارتكاب المجازر والدمار، لأنها ترى فناءها بل ووهمها في الحقيقة التي تبددها. الجماعات الواهمة أو المتخيّلة السورية تعادي حقيقة الفيدرالية الديمقراطية في سوريا، وترفضها وتنعتها بالواهمة كما حال النظام الاستبدادي وكما حال المعارضة الاستبدادية، وكلاهما اليوم وفي الفترات القادمة سيظهرونها على أنه الشر والخطر على العروبة التي في الحقيقة هم الذين أساؤوا إليها وشوهوا كل جميل فيها، كما أنه في الحقيقة فإن الفيدرالية الديمقراطية هي التي تعبر عن الكلية لمجموع الجماعات القومية والتجمعات الدينية وغيرهما، وأنها الخيار الأمثل للنجاة. وإذا كانت اللغة والفكر والنفس (الرغبات) هي مصادر للوهم وأدواته في الوقت نفسه؛ فإننا اليوم نرى بأن هذه الفئة تعادي حقيقة حقيقيّة مفادها بأن شعب سوريا يتألف من شعوب، العرب، الكرد، السريان، الآشوريين، التركمان، الأرمن، الشركس. مسلمين مسيحيين وإيزيديين.

حرائق المنطقة

هناك حريق بحطب قومي. وحريق بحطي ديني. وحريق بحطب طائفي (نصف قومي ونصف ديني). العبثيات الكبرى التي تحدثنا عن أهمها (ست فئات أو ست لعنات) يمكن النظر لها بأنها من تستجلب الحرائق إلى سوريا والشرق الأوسط، وتؤدي دوراً وظيفياً  في جعل استعار الحريق في أوج مرحلته. والفوضى في أوجها. الفوضى التي يتبعها نظام يتمثّل بها ومنها ولها.

في فقرة الأزمة والقضايا في مجتمع الشرق الأوسط، من مجلده الرابع (أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط) يقول الفيلسوف أوجلان:

“وتَغدو استحالةُ سيرورةِ المجتمعِ تحت ظلِّ النظامِ القائمِ أمراً واقعاً. فَبِتَبَعثُرِ بُنيةِ النظام، يتَوَلَّدُ وسطٌ من الفوضى لأجلِ ظهورِ بُنى نظاميةٍ جديدة. وحسبَ استعداداتِ القوى الاجتماعيةِ أيديولوجياً وبُنيَوِيّاً، فإن مَن يَمتَلِكُ الأجوبةَ الأرقى هو الذي يَكتَسِبُ فرصةَ أو مكانةَ احتلالِ الدورِ الرئيسيِّ في إنشاءِ النظامِ الجديد. أَفضَت كلُّ قضيةٍ في تَبَعثُرِ النظامِ وتأسيسِ الجديدِ منه إلى تسمياتٍ منحرفةٍ وشاذةٍ في مفهومِ العلمِ الوضعيّ. فقد نَمَّت مفاهيمُ التاريخِ ذي الخطِّ المستقيمِ على وجهِ الخصوصِ عن نتائجَ وخيمةٍ وسلبيةٍ للغايةِ عبرَ نشاطاتِها في تحديدِ ورسمِ أشكالِ المجتمعِ بمفهومٍ قَدَرِيٍّ جديد. ذلك أنَّ نشاطاتِ صياغةِ المشاريعِ بمنوالٍ هندسيٍّ لطبيعةٍ مُعَقَّدةٍ للغايةِ كالمجتمع، قد عَمَّقَت من الأزماتِ أكثرَ فأكثر على مرِّ التاريخ، فما بالُكَ بأنْ تَكُونَ حلاً للأزمات. وسواءً التعاملُ الميتافيزيقيُّ (الإسلامي، المسيحي، البوذي الهندي وما شابه)، أم التعامُلُ الوضعيُّ (الأمة، الاقتصاد، الحقوق)؛ جميعُها يَخرُجُ من البوابةِ نفسِها. بل حتى أنّ المناهجَ الوضعيةَ بَرَزَت إلى الوسطِ في ظاهرةِ الفاشية، مثلما أَفسَحَت السبيلَ أمامَ نتائجَ أبعدَ من أنْ تَكُونَ أزمةً، لِتَصِلَ حدَّ الإباداتِ الاجتماعية. وحصيلةَ الثوراتِ العلميةِ والفلسفيةِ القائمةِ بعد الحربِ العالميةِ الثانية، بالإمكانِ القولَ أنّ مُناقشاتٍ أكثرَ عُمقاً قد دارت وتصاعدَت بشأنِ الطبيعةِ الاجتماعية. هكذا صارت عباراتُ الأيكولوجيا، الفامينية، الثقافة، والديمقراطية أكثر إنارةً، وقادرةً على تحديدِ فُرَصِ الحلِّ وزيادتِها بمنوالٍ سليم”.

من المهم جداً؛ أن نبرز اليوم الحل الأنسب لسوريا الديمقراطية؛ ضمن هذه الفوضى؛ والاحتمالات المفتوحة لكل شيء بما فيها احتمال الحرب من بعد تأسيس تحالفات تتناقض مع قديماتها. ومثل هذا الإعلان يلتزم به الشجعان. سوريا تتألف من شعوب والجميع فيها يعترف بالجميع: المادة الأولى لنجاح المفاوضة والحوار والاجتماع وتصلح أيضاً كي تكون المادة الأولى فوق الدستورية.

زر الذهاب إلى الأعلى