مانشيتمقالات

حين تُعرض الشهادة الأكاديمية على بازار السياسة

صالح بوزان

ما يشبه مدخل

في طريقينا إلى بلدية آمد من الفندق لحضور افتتاح مؤتمر ثقافة شعوب الشرق في تركيا عام 2003 (أعتقد هكذا سمي) جلس إلى جانبي في الباص سياسي كردي من تركيا، وهو طبيب . تحدثنا في الطريق عن دور المثقفين الكرد في الحركة الوطنية الكردية على الصعيد السياسي والثقافي. قال لي: أقوم بزيارات متكررة لأوروبا وألتقي بالجاليات الكردية في المهجر. وما لفت انتباهي أن العديد من كرد سوريا يحملون شهادة الدكتوراه. لكن عندما تتحدث معهم تصاب بخيبة أمل لمعارفهم السطحية. لا أدري كيف حصل هؤلاء على شهادة الدكتوراه؟
تذكرت هذا الحوار الذي مضى عليه خمسة عشر سنة عندما قرأت مقال الدكتور عبد الباسط سيدا ” داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي: تكامل وظيفي وتناقض ظاهري” المنشورة في جريدة العرب بتاريخ 14/09/2018.

في هذه المقالة لا أرد على الدكتور سيدا ولا أدافع عن حزب الاتحاد الديمقراطي، وإنما أناقش الأفكار.

بني الدكتور عبد الباسط سيدا مقاله على فكرة أن ما قام به كل من داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي لعبة مخابراتية، وتحديداً أن بعض القوى داخل الصراع السوري لا تملك أفكاراً أو أيدولوجيات خاصة بها، وإنما هي مجرد توابع لأجندة من أسسها من وراء الستار ورسم لها طريق السير. ويقصد داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي، اضاف جبهة النصرة لكي يتخلى عن تأييد السابق للأخيرة. هو يعتبر أن هناك عقلية أسست هذه المنظمات وأدخلتها إلى سوريا. بمعنى آخر، كلهم غرباء عن المجتمع السوري.
يقول سيدا أن المشروع الداعشي “في أصله حصيلة التعاون الاستخباراتي بين النظامين الإيراني والسوري”. وسرعان ما يناقض نفسه عندما يؤكد أن داعش اختار نهجه ” فداعش قد تبنى الإسلاموية السياسية بأكثر أشكالها تطرفا وعنفا”. يعترف سيدا في هذا الكلام أن داعش هو الذي اختار أيدولوجيته. لا شك أن القارئ يفهم لماذا استخدم سيدا مصطلح “الاسلاموية” وليس الاسلامي. لأنه يريد أن يقول بأن داعش لا يحمل الأيدولوجية الاسلامية الحقيقية، وإنما أيدولوجية اختلقها بعيداً عن الاسلام.
ليس من المعقول أن نتصور أن مثقفاً أكاديمياً مثل سيدا لم يقرأ كيف أسس محمد الرسول دولته الاسلامية. وأنه لم يعتمد على التبشير والحوار في نشر دينه وتأسيس دولته منذ انتقل إلى المدينة. بل تصرف مثل أي قائد عسكري. وقد سار جميع الخلفاء على نهجه حتى نهاية الدولة العثمانية. وداعش ليس إلا نسخة مطابقة لما قام به الرسول في غزواته من النهب والقتل والسبي والتوسع. وقد ظهرت فيديوهات في هذه السنوات الأخيرة يتحدث فيها كبار علماء المسلمين، ويؤكدون أن داعش لم يخرج عن سلوك النبي محمد.
استخدم سيدا مصطلح “الاسلاموية” لخداع الشبيبة الكردية وإخفاء السبب الحقيقي لتحالفه مع إخوان المسلمين، وتأييده للكتائب الإسلامية الجهادية في سوريا بما فيها جبهة النصرة عندما احتلت ادلب. يبدو أن سيدا لم يسأل نفسه لماذا شيخ الأزهر وقرداوي لم يكفّرا داعش؟ لأن هذين الشخصين يعلمان علم اليقين أن ما قام به داعش من جرائم، قام بها رسول سيدا في البداية وكل الخلفاء من بعده. وبالتالي فمحاولة ربط داعش بالمخابرات السورية والايرانية يشبه ما يقوم به حكام العرب من القول المتكرر أن وراء كل النكسات العربية مع الأعداء وعلى الصعيد الداخلي تقف الإمبريالية والصهيونية العالمية. هكذا يتهرب حكام العرب من مواجهة الحقيقة، وهكذا يتهرب سيدا من مواجهة حقيقته الفكرية والسياسية التي يخفيها عن الشباب الكرد.
سيتساءل العديد ممن سيقرؤون مقاله: لو أن الجيش السوري انتصر على الجيش الحر بشكل نهائي قبل أن تقضي قوات سوريا الديمقراطية على داعش، أ كان داعش سيحل نفسه بأمر من أسياده السوريين والايرانيين نتيجة انتهاء وظيفته؟ وأتساءل بدوري أيضاً: لماذا تركيا، حبيبة سيدا، دعمت داعش بالمال والعتاد والطبابة، وسمحت بتمرير كل من يريد أن ينضم إليه من خارج سوريا عبر حدودها؟ هل كانت تركيا تساعد منظمة أسسها النظام السوري والايراني لاحتياجاتهما؟ ألم تكن تركيا التي طالما مدح سيدا أردوغانها ووزير خارجيتها السابق في عداء شرس مع النظام السوري حينها؟ ألم يقرأ سيدا تقرير ديرشبيكل الألمانية عن التعاون الوثيق بين تركيا وداعش وتجارة البترول بينهما؟ ألم يشاهد الفيديو الذي يصور قصف الطائرات الروسية لقوافل صهاريج البترول الداعشية الذاهبة من مناطق سيطرته إلى تركيا؟
هل يجهل سيدا هذه الحقائق أم يتجاهلها لإخفاء خلفياته السياسية ونواياه عن الشعب العربي والكردي السوريين؟ لماذا لم يتجرأ سيدا حينها القول بأن وراء الدولة الاسلامية تركيا؟ هل هناك مجنون من عصفورية حلب سيصدق أقوال سيدا بعد هذه الأسئلة؟
يقول سيدا أن داعش استند أولاً إلى المظلومية السنية في سوريا. بمعنى أن داعش يتبنى فكر طائفي. وأنا أؤيده في هذا التشخيص. لكن لماذا يتغافل أن الاخوان المسلمين هم أيضاً استندوا إلى هذه المظلومية منذ أحداث عام 1980. هل الطائفية الاخوانية مقبولة من سيدا؟ أم أن المظلومية السنية لها مكانة في عقل سيدا الباطني أيضاً؟
لا توجد ضغوطات على سيدا حتى يكون باطنياً ويخفي بعض آرائه من السلطات الاستبدادية، كما كنا نفعل جميعاً قبل الخروج من سوريا. فهو يعيش في أكثر بلدان أوربا تصون حرية الرأي والمعتقد. فلماذا لا يجرأ على أن يكون واضحاً أمام قرائه ولا يتخفى وراء مصطلحات لها تفسيرات عدة حسب الاستخدام؟ عندما نكتب بالرمز أو الغموض أو نصيغ كلامنا لتحمل عدة احتمالات، فنحن نفعل ذلك عن دراية في ظل نظام استبدادي. ووراء ذلك الخوف من السجن والتعذيب. أما عندما نفعل ذلك في بلد ديمقراطي، فبماذا نفسر الحالة؟ هل هناك ما يخجل منه سيدا لو انكشف أمام الرأي العام الكردي؟ بمعنى آخر، ليقل لنا سيدا هل هو علماني أم هو الآخر يدعي لوناً اسلامياً يتقاطع مع اسلام الاخوان. وفي هذه الحالة سينطبق عليه مصطلحه “الإسلاموي” أكثر مما ينطبق على داعش.

الدكتور عبد الباسط سيدا وحزب الاتحاد الديمقراطي

في كل الأحوال، ما كتبه سيدا عن داعش مجرد مدخل فكري وسياسي مفتعل لموضوعه الأساسي، وهو تشبيه حزب الاتحاد الديمقراطي “وظيفياً” بداعش. يدرك سيدا أن داعش مات والنصرة في طريقها إلى الموت، والجيش “الحر” الاسلامي أصبح جيش أردوغان. أما الذي يقلق سيدا، على ما يبدو، هو بقاء حزب الاتحاد الديمقراطي الذي أصبح له الدور الواضح ليس بما يتعلق بالقضية الكردية السورية فقط، وكذلك بما يعلق بالحل النهائي للأزمة السورية.
يقول سيدا: ” وإذا قارنا بين دور داعش في الساحة السنية، وبين دور حزب الاتحاد الديمقراطي -الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني- فإننا سنلاحظ أن المهمة كانت ذاتها، والمقومات كانت عينها. ولكن مع فارق من جهة الرسالة الأيديولوجية”.
نتساءل من الذي كلف داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي بهذه المهمة المشتركة؟ طبعاً يجاوبنا سيدا النظام السوري والايراني. هو يريد أن يوحي للشبيبة الكردية أن قادة هذين التيارين مجرد عملاء للنظام السوري والايراني اللذين يتحكمان بهما من الخلف. ثم يضيف موضحاً فكرته أن “حزب الاتحاد الديمقراطي سوق نفسه برسالة هجينة، متعددة المقاصد. فعلى الصعيد الكردي أوحى للناس بأنه يعمل من أجل ضمان حقوق الأكراد، ورفع الظلم عنهم، عبر المحافظة على مناطقهم، وإبعادهم عن الصراعات والأعمال القتالية. وادّعى في أكثر من مناسبة بأنه يلتزم الخط الثالث الذي لا يتقاطع مع خط النظام أو خط المعارضة”.
لنناقش هذه الأفكار بهدوء
إذا كان داعش، وبطلب من النظام حسب سيدا، قد اغتصب المناطق التي حررها الجيش الحر من سلطة النظام السوري، فالنظام السوري هو الذي سلم المناطق الكردية حسب كل تصريحات سيدا وتصريحات ائتلافه والمجلس الوطني الكردي لحزب الاتحاد الديمقراطي. وبعد أن استلم حزب الاتحاد الديمقراطي هذه المناطق، قامت وحدات حماية الشعب بحمايتها، وأقامت فيها سلطتها وليس الحفاظ على سلطة النظام. أليس الجيش الحر هو الذي هاجم هذه المناطق لاغتصابها من وحدات حماية الشعب. فمن الذي فتح المعركة ضد الآخر؟ ألم يقتحم الجيش الحر القرى الكردية في مناطق الباب وطرد الكرد منها؟ ألم يهاجم العكيدي تل حاصل وتل عرن اللتين كانتا تحت سيطرة وحدات حماية الشعب وطرد الكرد منها؟ ألم يهاجم الجيش الحر تل أبيض وطرد الكرد منها؟
أضف إلى ذلك أن السؤال الأبرز الذي يمكن أن يوجهه أي قارئ غبي وليس قارئ ذكي لسيدا: إذا كان حزب الاتحاد الديمقراطي هو مجرد عميل للنظام السوري، فلماذا لم يقدم له هذا النظام السلاح ومساعدته بالطيران عندما اقتحم داعش كوباني؟ هل كان النظام يريد عندئذ أن يسلم الشمال السوري لداعش؟ وفي هذه الحالة سيبرز سؤال آخر: لماذا تحالف هذا الحزب “العميل” للنظام مع أمريكا ضد داعش؟ وهل كان هذا أيضاً ايعازاً من النظام السوري؟
نعلم جميعاً أن داعش لم يقاوم تركيا في جرابلس. كل ما في الأمر حلقوا ذقونهم وبدلوا جلبابهم وتخلوا عن راياتهم المقدسة واستبدلوها بالعلم التركي وقالوا “عاش أردوغان”. هل كان ذلك أيضاً بإيعاز من النظام السوري والايراني بالاستسلام لتركيا؟ والأهم من ذلك، هل عدم مساعدة النظام السوري للقوات الكردية في عفرين كان يعني تحالف النظام مع تركيا ضد حزب الاتحاد الديمقراطي؟

يبدو أن للذكاء حدود ولكن للغباء ليس حدود

يستخدم سيدا كلمة أخرى غامضة سياسياً عند الحديث عن سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي فيختلق لنا مصطلح السياسة “الهجينة”. هذا المصطلح هو الآخر يدخل في باب التضليل الأكاديمي. فبرنامج حزب الاتحاد الديمقراطي عند تأسيسه عام 2003 واضح من حيث حقوق الشعب الكردي في سوريا وعلاقة هذه الحقوق بالدولة السورية.
نعلم علم اليقين، لو قام كرد سوريا بملايينه الثلاث كرجل واحد ضد النظام السوري لما استطاعوا اسقاطه في دمشق. وهذا ما أكد عليه كل الساسة الكرد السوريين. وأعتقد سيدا أيضاً يقر بذلك. فتغيير النظام يتم من قبل القومية الأكبر سواء بمساعدة أو عدم مساعدة الأقليات. لا يمكن للأقليات أن تقوم بدور الريادة في التغيير العام. كما لا يمكن لهذه الأقليات أن تدعم حركة القومية الكبرى للتغيير إذا لم تضمن حقوقها في برنامج التغيير. ألم يستطع سيدا الأكاديمي الاستنتاج أن هذه الفكرة كانت من الأسباب الجوهرية لانفضاض الكرد عن الثورة السورية وعن المعارضة السورية؟
لا أعتقد أن سيدا لم يشاهد ولم يقرأ كيف وقف عرب سوريا، بما في ذلك المعارضة مع النظام ضد الانتفاضة الكردية عام 2004. لم تتظاهر مجموعة عربية واحدة تضامناً مع الانتفاضة الكردية. ولم يصدر حزب معارض سوري واحد بياناً للتضامن مع المنتفضين. بل سارعت هذه المعارضة بالقول أن هذه الانتفاضة قامت بتحريض من أمريكا، وأنها دعوة للانفصال. هل استنتج سيدا درساً من هذا الحدث؟
كانت المعارضة السورية بعد الثورة، ولا سيما عندما كان سيدا رئيساً للمجلس الوطني السوري، تريد أن يكود الكرد وقوداً في هذه المعركة دون أن تعترف في وثائقها بحقوق الشعب الكردي بنص صريح. بل لاحظنا أن هذه المعارضة كلما كانت توقع على وثيقة فيها شيء من حقوق الشعب الكردي السوري سرعان ما يقوم قادة المعارضة بالتنصل منها في تصريحاتهم الفردية. ألم يتصرف صديقه العزيز برهان غليون هكذا؟ ألم يقل جورج صبرا في ندوة وبحضور سيدا: يطالبوننا بحقوق(يقصد الأكراد الذين خارج الائتلاف) وهل حقوقهم بجيبي حتى أقدمها لهم؟ ألم يشعر سيدا عندئذ بالإهانة؟ ففي المحافل الدولية يدعي صبرا أنه يتكلم باسم الشعب السوري وليس باسم الائتلاف فقط، أما عندما يجري الحديث عن حقوق الكرد يتحول صبر إلى مجرد فرد لا يملك في جيبه حقوق الشعب السوري.

ماذا حقق سيدا للكرد وماذا حقق حزب الاتحاد الديمقراطي؟

ربما حقق سيدا مكاسب شخصية مختلفة، وهذا لا يهمنا. لكنه الآن يجلس في غرفة معتمة للائتلاف السوري المعارض، ويكاد لا يُسمع له صوت إلا عندما يريد أو يُطلب منه (لا أعلم) أن يجدد ولاءه للمعارضة السورية الاخوانية. فيظهر علينا بين حين وآخر، وليس له عندئذ سوى مادة واحدة لتجديد هذا الولاء، وهي الهجوم على حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب. هذا هو انجاز عبد الباسط سيدا خلال السنوات الأخيرة. ففي كل مقالة لسيدا وفي كل ندوة ستجد النقطة الرئيسية في حديثه هو هذه المادة التي تخصص فيها. وبما أن سيدا هو الذي خلق لنا مصطلح “تكامل وظيفي”، فيحق لنا أن نتساءل: مع من يتكامل وظيفياً سيدا؟
لننظر إلى ما حققه حزب الاتحاد الديمقراطي في المقابل. لا أحد يستطيع أن ينكر بأنه حمى المناطق الكردية بالدم من سيطرة التكفيريين وداعش ومرتزقة الجيش الحر. ولو لم يكن تخاذل النظام السوري والصفقة الروسية التركية لما كان يحلم أردوغان والجيش الحر التابع لمعارضة سيدا باحتلال عفرين ونهبها مثل اللصوص. ثانياً، جنّب هذا الحزب الشعب الكردي من العودة إلى القرون الوسطى اجتماعياً وذهنياً تحت شريعة داعش والكتائب الجهادية الاسلامية. يبدو أن سيدا لم يلاحظ أن الشعب السوري الذي وقع تحت سيطرة هذه الجماعات التكفيرية وجيشه الحر عاد إلى تلك القرون المظلمة. فوضعوا النساء في أكياس القمامة، وطبقوا الشريعة الاسلامية على المجتمع بالذبح. وثالثاً، فالمقاتلات والمقاتلون الكرد هم الوحيدون الذين أوصلوا القضية الكردية إلى المحافل الدولية التي اقتات عليها سيدا والمجلس الوطني الكردي. فلولا هذه المقاومة الباسلة لما أثيرت القضية الكردية السورية في تلك المحافل. والبرهان الأكبر لما نقوله، هو الجنون الذي أصاب أردوغان في علاقته مع حليفته التاريخية أمريكا بسبب هؤلاء المقاتلين. وعندما يأس من أمريكا، ذهب راكعاً أمام الرئيس الروسي لمساعدته ضد هؤلاء المقاتلين، ولمنع حزب الاتحاد الديمقراطي من تنظيم وترسيخ الادارة الذاتية مع شركائه في شمال سوريا، وخوفاً من يُقرّ ذلك في الدستور السوري القادم. لقد اصيب أردوغان بفزع لانهيار صديقه السري بغدادي تحت أقدام المقاتلين الكرد. فمدعي إعادة الامبراطورية العثمانية، ورئيس دولة بثمانين مليون نسمة، وقائد أكبر جيش في الشرق الأوسط بسلاحه الحديث، هذا المدعي فقد صوابه أمام ظهور مقاومة كردية باسلة لم يستطع أردوغان زرع عملائه في داخلها كما كان يفعل أسلافه.
وقف سيدا والمجلس الوطني الكردي في كل المحافل الدولية لمنع الاعتراف بالإدارة الذاتية. وطالبا من التحالف الدولي بقطع العلاقة مع المقاتلين الكرد، وعدم امدادهم بالسلاح، ووضعهم في لائحة الارهاب الدولي. هل هي الصدفة هذا “التكامل الوظيفي” بين ما يريده سيدا والمجلس الوطني الكردي والمعارضة السورية الاخوانية وخليفة المسلمين أردوغان؟
يقول سيدا، وهو ينظّر، أن حزب الاتحاد الديمقراطي يرى: ” أن المشروع القومي قد بات بالنسبة إليه جزءا من الماضي. ونادى بفكرة الأمة الديمقراطية الهلامية التي تحمل كل تفسير، ولا تلزم صاحبها بأية مسؤولية”.
لنتكلم عن القومية الكردية التي يرى سيدا وكأنه مفكّرها. لماذا لم يتفضل سيدا بتوضيح ماذا يقصد بالقومية الكردية؟. قد نغفر لشاب يعبر عن عشقه للقومية الكردية دون القدرة على شرحها. وقد نغفر له حماسه حتى في المطالبة بتأسيس دولة كردية في شمال سوريا. لكن أن يتلاعب رجل أكاديمي بهذه الكلمة، فهو تصرف مقصود لا يمت للفكر بشيء.
لا تهمني كثيراً مصطلحات حزب الاتحاد الديمقراطي. لكنني أعلم أن رؤيته حول القومية الكردية واضحة ومعلنة ، سواء أ كنت مع هذه الرؤية أو ضدها. وباتت هذه الرؤية أكثر وضوحاً خلال السنوات الثمانية من الأزمة السوريةً. فرغم المصطلح الهلامي الذي يذكره سيدا، ورغم أخطاء هذا الحزب العديدة، إلا أن الأسس المكونة لرؤيته تتجلى في الحصول على اعتراف الدولة السورية دستورياً بالشعب الكردي وبالإدارة الذاتية التي هي بدورها فدرالية داخلية لشعوب الشمال السوري. مما يعني الاعتراف بكل القوميات الموجودة في سوريا على قدم المساواة. وثانياً جعل اللغة الكردية لغة رسمية في هذه الادارة مع اللغة العربية والاقرار بلغاه الشعوب السورية الأخرى وثقافتها. وثالثاً، رفض أي فكرة للانفصال عن سوريا، ورفض فكرة دولة كردية في الشمال السوري. ورابعاً، توزيع الثروة بشكل عادل على جميع شعوب سوريا ومناطقها.
ولنسأل الأكاديمي سيدا ماذا يتضمن مفهومه للقومية الكردية في سوريا؟ هل يريد إنشاء دولة كردية؟ هل يريد انشاء فدرالية كردية خالصة في المناطق الكردية الثلاث، ويقيم جسراً سماوياً أو نفقاً أرضياً لربط هذه المناطق ببعضها البعض؟ وأخيراً، ما هي البنود التي يريدها سيدا من خلال مفهومه للقومية الكردية أكثر مما يريدها حزب الاتحاد الديمقراطي؟ والسؤال الأهم من كل ذلك: هل استطاع سيدا ورفاقه في المجلس الوطني الكردي الحصول على موافقة حلفائهم في المعارضة السورية على ما يريدون؟ وهل أقنعوا مولاهم أردوغان للقبول بذلك؟
لم تكن فكرة القومية في الشرق تعني يوماً المساواة بين الشعوب. كانت تعني دائماً توجه عنصري ضد القوميات الأضعف. وهنا لا معنى لما قد تقوله الأقليات عن قوميتها السمحة، لأنها ليست في السلطة حتى نعرف هل حكامها يؤمنون فعلاً بمساواة القوميات أم لا؟ وهل يريد سيدا أن يقلد العرب والترك والفرس تجاه الآشوريين والسريان والأرمن كردياً؟ أليست هذه الشعوب موجودة تاريخياً في الكثير من مناطق كردستان؟
إن الفكرة القومية والفكرة الدينية، كما هي موجودة في ذهن مدعيها في الشرق، هي فكرتان بغيضتا ، وأدت بمعتنقيهما إلى ممارسة العنصرية القومية والدينية، وتأسيس الدكتاتوريات عليهما.
وأخيراً، أعود ثانية إلى ما قاله جليسي في الباص في مدينة آمد قبل خمسة عشر عاماً، لأقول أن المشكلة الكبرى للشعب الكردي، على ما يبدو، هي أنه ابتلي بمثقفين يركّعون الفكر لنزواتهم الخاصة، ولا بد لهذا الشعب أن يتحرر منهم قبل التحرر من ساسة زعماء العشائر وأمراء المدن.

المصدر: الحوار المتمدن

زر الذهاب إلى الأعلى