دراساتمانشيت

المؤامرة الدولية في هذا القرن

مَن هو عبد الله أوجلان؟

ولد قائد نظام الكونفدرالية الديمقراطية القائد عبد الله أوجلان (والمعروف بين الكرد بلقب آپو APO) في 4 نيسان 1948(لكنه مسجّل رسمياً بتاريخ 14 نيسان 1949) في قرية عمارة التابعة لبلدة خلفتي بمدينة أورفا (رُها). درس المرحلة الابتدائية في قرية “جبين” الأرمنية المجاورة لقريته، وأكمل دراسته الإعدادية في بلدة “نيزيب” بمدينة عينتاب. وفي عام 1968 أنهى المرحلة الثانوية في مدرسة “الثانوية الأناضولية المِهنية لهندسة المساحة في أنقرة”. وعندما كان موظفاً، سجّل في كلية الحقوق بجامعة استنبول عام 1970.

في تلك السنوات، وبناءً على موضوع القضية الكردية، تعرَّف القائد عبد الله أوجلان على أوساط “المراكز الثقافية لثوار الشرق DDKO” وعلى قادة “جيل شبيبة 68”. ونخص بالذكر أنه تأثر بوقفة “ماهر جايان” الراديكالية فيما يتعلق بحل القضية الكردية، ما أدى إلى تركه لكلية الحقوق، وتسجيل ذاته في كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة عام 1971.

قام القائد APO بريادة الاعتصام في كلية العلوم السياسية احتجاجاً على حادثة مقتل “ماهر” ورفاقه التسعة في قرية “قزل دره” في شهر آذار من عام 1972. ما أدى إلى اعتقاله في 7 نيسان 1972 وبقائه في السجن سبعة شهور. بعد إطلاق سراحه بدأ بمحاولة لمِّ شمل الكيانات اليسارية والاشتراكية الثورية تحت سقف جامع. وعندما لم تثمر محاولاته تلك، بدأ في مطلع عام 1973 بالتجهيز لتشكيل مجموعة مختلفة ملتفة حول أطروحة “كردستان مستعمَرة”. فعَقَدَ أول اجتماع تاريخي له مع رفاق المجموعة قرب “سد جوبوك” بأنقرة عام 1973، وتحولت فكرة “كمال بير” إلى نظرية أساسية للمجموعة، حيث قال: “إن تحرر الشعب التركي يمر من تحرر الشعب الكردي”.

وكمرحلة تنظيم الذات كمجموعة أيديولوجية -سياسية، مرّ عاما 1974-1975 كفترة عملياتية بتجربة رئاسة “الرابطة الديمقراطية للتعليم العالي في أنقرة ADYÖD”. وكان كراس “تقييمات حول الإمبريالية والاستعمار”، الذي كتبه القائد عبد الله أوجلان مع “محمد خيري دورموش” عام 1975، أول وثيقة مكتوبة للمجموعة. أما الأحاديث التي أدلى بها في اجتماعاته أثناء جولته في مدن كردستان “دوغوبيازيد، قارس-ديغور، ديرسم، بينغول، ألازغ، ديار بكر، ماردين، أورفا، وعينتاب” خلال شهر آذار من عام 1977، فتم سكبُها على الورق. لكن الردّ على هذه الجولة، التي انتهت في 15 أيار من ذاك العام، كان أن قُتِل “حقي قرار” في 18 أيار 1977. وتخليداً لذكراه قام القائد أوجلان بكتابة “برنامج الحزب” في خريف العام نفسه.

تم البدء بطباعة “جريدة سرخبون” في عام 1978، حيث صدر أول عدد من الجريدة في صيف عام 1978، فنُشِرَ فيه تحليل للقائد عبد الله أوجلان باسم “طريق ثورة كردستان”، والمعروف اختصاراً باسم “المانيفستو”. وفي 26-27 تشرين الثاني 1978 عُقِدَ المؤتمر التأسيسي في قرية “فيس” بمدينة ديار بكر، والذي انتهى بالإعلان عن تأسيس حزب العمال الكردستاني “Partiya Karkerên Kurdistan” (PKK).

بعد المجازر التي نظَّمتها الدولة في مرعش وملاطية وأديامان وألازغ، وإعلان قوانين الأحكام العرفية، وبدء حملات الاعتقال الكثيفة ومطاردته في كل مكان رداً على خطواته ونشاطاته تلك؛ عَبَرَ القائد أوجلان الحدود من بلدة “سروج” التابعة لمدينة أورفا على الحدود التركية نحو مدينة “كوباني” على الحدود السورية في 2 تموز 1979. وعلى الحدود السورية -اللبنانية، بدأ بتنظيم “الحرب الشعبية الثورية” رداً على انقلاب 12 أيلول 1980 العسكري. كتَبَ القائد أوجلان في تلك الفترة كراس “جبهة المقاومة الموحدة للنضال ضد الفاشية” إلى جانب إصدارِه عدة كتُب: “دور العنف في كردستان”، “مشكلة التحرر القومي وطريق الحل”، “مشكلة الشخصية في كردستان”، “حياة الحزب وخصائص المناضل الثوري”، “حول التنظيم”، “حول المشانق وثقافة الثكنات العسكرية”، “مشاكل التطور ومهامّنا”، “الصراع على كردستان في القرن التاسع عشر”، و”التقرير السياسي” المقدم إلى الكونفرانس الأول للحزب.

تجسَّدت كل هذه الأنشطة النظرية في العمليات النضالية المسلحة التي انطلقت في 15 آب 1984 في مدينتَي “أَرُوه” و”شمدينلي”. أما المشاكل البارزة خلال أعوام 1987-1990، فتناولَها على شكل “تحليلات” تم تحويلها إلى كتب مثل: “المقاربة الثورية الصحيحة من الدين”، “مشكلة المرأة والعائلة”، “تصفية التصفوية”، “فاشية انقلاب 12 أيلول ومقاومة PKK”، “الخيانة والتواطؤ في كردستان”، “الشخصية النضالية في تاريخ الحزب”، و”مختارات 1-2-3-4”. وفي نفس الوقت، تكفّل القائد APO في تلك الفترة بقيادة التمرد النضالي المسلح، الذي عَرَّفه بأنه “حرب حماية الوجود”، التي حظيت ثانيةً بدعم شعبي غفير وكثيف خلال أعوام 1990-1991-1992، ما دعاه ذلك إلى طرح الحل السياسي للقضية بنحو جاد في الأجندة. فنشَرَ في تلك المرحلة الانتقالية كتابَيه “قصة الانبعاث” و “اكتمَل الانبعاث وأتى دور التحرر”. وباتَ البحث عن الحل الديمقراطي ومبادرات السلام في تلك الفترة موضوعاً لعدة كتب: “لقاءات مع عبد الله أوجلان” (لكاتبه دوغو برينجاك، دار كايناك للنشر، تشرين الأول 1990)، ” APO وPKK” (محمد علي بيراند، دار ملييت للنشر، 1992)، “محادثات في الحديقة الكردية” (يالجين كوجوك، دار باشاك للنشر، 1993)، “حول القضية الكردية مع أوجلان وبورقاي” (أورال جاليشلار، دار بَنجَرة للنشر، 1993)، “أبحث عن مخاطب-أحاديث وقف إطلاق النار” (تموز 1994)، و”قتل الرجل” (ماهر سايين، دار زلال للنشر، آذار 1998). كما دوَّنَ في تلك الفترة عدة كتب تم نشرها: “مشاكل الثورة والاشتراكية”، “الإصرار على الاشتراكية إصرار على بناء الإنسان”، “لغة الحقيقة وممارستها”، “التاريخ مخفي فينا ونحن مخفيون في بداية التاريخ”، “كيف نعيش 1-2″، و”العشق الكردي”.

وبشكل عام، فإن مبادراتِ وتحليلاتِ القائد APO بشأن الحل الديمقراطي للقضية خلال عهود أوزال (1993) وأربقان (1995) وأجاويد (1998) على التوالي، والتي طرحها طيلة سياق الحل الذي أسماه أيضاً بمرحلة “تمكين الحرية”، قد تم جمعها في عدة كتب باسم “وثائق الحوار ووقف إطلاق النار والمؤتمرات الصحفية” (1993-1995-1998). لكن مبادراته وبحوثه تلك عانت الإجهاض في كل مرة بسبب هجمات ومؤامرات وحدات الناتو-الغلاديو، وعلى رأسها: حادثة مقتل 33 جندياً تركياً، موت أوزال المشبوه، ومحاولات الهجوم والاغتيال وحادثة السيارة المفخخة التي استهدفت القائد أوجلان شخصياً.

وآخرُها كان جواب تلك القوى على مبادرة وقف إطلاق النار ومساعي الحل الديمقراطي، والتي أطلقها القائد أوجلان في 1 أيلول 1998، بحَبكِ وتنفيذ المؤامرة الدولية الشنيعة. حيث اضطر القائد إلى الخروج من سوريا في 9 تشرين الأول 1998 حصيلة الضغوط الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية المتعددة الجوانب على سوريا. وفي كل بلد وطأته قدَمُه أُرغِم تكراراً ومِراراً على الخروج منه نتيجة الضغوط الأمريكية الكثيفة. لكنه استمرّ اثناءها أيضاً على بذل الجهود وصياغة الإرشادات اللازمة لأجل السلام والحل الديمقراطي، والتي جُمِعت في كتاب “نحو السلام-أحاديث روما”. ولدى وصوله إلى اليونان، تحوَّلت مطاردته من قِبَل أمريكا واستخباراتها المركزية والموساد إلى تعاونٍ وتواطؤ مع الحكومة اليونانية، فنُقِلَ إلى كينيا. وهناك، اختُطِفَ القائد أوجلان من حديقة السفارة ليتم تسليمه في 15 شباط 1999 إلى الوحدة التركية التي كانت بانتظاره في مطار نيروبي. ووُضِع في الحجرة الضيقة التي هي أشبه بـ “التابوت” في السجن الانفرادي بجزيرة إيمرالي.

وقد أصبح سياق هذه المؤامرة أيضاً موضوعاً لعدة كتب. فرغم الحُجرة والعزلة المشددة ضمن السجن الانفرادي ذاك، ثابر القائد APO من جانبٍ واحدٍ وبإمكانات محدودة جداً على تسليط الضوء على المؤامرة الدولية المحاكة ضده وإفراغها من محتواها من جهة، وعلى تمكين الحل الديمقراطي للقضية الكردية واستتباب السلام الثمين والمشرّف من جهة ثانية. وضمن هذا الإطار، تحقَّقَ انسحاب مجموعات الكريلا المسلحة إلى خارج الحدود التركية بناء على النداء الذي أطلقه القائد في 2 آب 1999، وتوجَّهت مجموعات السلام من ساحة الكريلا وساحة أوروبا نحو تركيا في شهر تشرين الأول من عام 1999. وقد تم جمع أحاديثه ونداءاته وعكسُ وقفته هذه طيلة سياق الاعتقال بدءاً من مرحلة التحقيق والمحاكمة في كتاب نُشِرَ باسم “أمل السلام”. وعلى حد تعبيره، فقد واظب بدأبٍ على “تحويل جزيرة إيمرالي إلى جزيرة السلام”.

استمر وقف إطلاق النار، الذي أعلنه القائد APO من جانب واحد في 1 أيلول 1998 حتى عام 2004، أي حتى عهد حكومة أردوغان. أما المرافعات التي صاغها بنحو استراتيجي وفق نهج الحل الديمقراطي والسلام الذي انتهجه حتى ذاك العام، وكذلك “وثيقة الحل الديمقراطي للقضية الكردية” التي قدَّمها إلى محكمة إيمرالي، فنُشرَت عام 1999 تحت اسم “ثنائية الحل واللاحل في القضية الكردية”. وكان القائد APO قد قدَّمَ “مرافعة PKK إلى دعوى أورفا”، ولكنها لم تُدرَج في محاكمة إيمرالي. لذا؛ ولأجل إكمال مرافعة إيمرالي، التي لم يستطع طرحها بنحو شامل بسبب ظروف ذاك الوقت من جانب، ولأجل إعطاء الجواب اللازم لسياق “محكمة حقوق الإنسان الأوروبية”، الذي كان ما يزال قائماً من جانب آخر؛ فقد دَوَّنَ القائد كتاب “من دولة الكهنة السومريين نحو الحضارة الديمقراطية 1-2″، والذي رسم في الوقت نفسه الأُطُر النظرية والتاريخية لدعوى أورفا. وكمرفقٍ متمم أو نموذج مصغر من هذا الكتاب، فقد دَوَّن كُراسات “أورفا، التاريخ والقدسية واللعنة”، الذي ركَّزَ فقط على البُعد المعني بأورفا. ونُشِرَ هذان الكتابان في عام 2001. في حين نُشِرَ كراس “مرافعة الإنسان الحر”، الذي قدَّمه القائد إلى محكمة أثينا، في عام 2003. وبعدها أتمَّ تدوين كتاب “دفاعاً عن شعب” في عام 2004 وقدَّمه إلى “محكمة حقوق الإنسان الأوروبية”، ليُنشر في عام 2005.

استمر القائد أوجلان في محاولاته ومبادراته لأجل السلام والحل الديمقراطي بعد ذاك العام أيضاً، وذلك من خلال الإعلان عن وقف إطلاق النار الأحادي الجانب في عامَي 2006 و2009، رسم خريطة الطريق، محادثات أوسلو، توجُّه مجموعة السلام الثانية إلى تركيا في شهر تشرين الأول من عام 2009، وثائق وقف إطلاق النار وتجميد الاشتباكات في 2013، كتابة الرسائل، انسحاب الكريلا إلى خارج الحدود التركية بناء على “إعلان نوروز 2013″، مناشدات التفاوض، تصريحات نوروز في 2014-2015، واتفاقية دولما باخجة ذات البنود العشرة. وخلال تلك الفترة أيضاً نُشِر كراسه “خريطة الطريق” في عام 2011. كما نُشرَت على عدة أعوام مرافعتُه الضخمة التي قدّمها إلى “محكمة حقوق الإنسان الأوروبية” تحت اسم “مانيفستو الحضارة الديمقراطية -العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية”، والتي تتألف من خمسة مجلدات (المجلد الأول “المدنية”، المجلد الثاني “المدنية الرأسمالية”، المجلد الثالث “سوسيولوجيا الحرية”، المجلد الرابع “أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، المجلد الخامس “القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”). أما حواراته مع الهيئة السياسية التي كانت تلتقيه في إيمرالي، فقد جُمِعَت في كتاب “التحرر الديمقراطي وتأسيس الحياة الحرة” ونُشِرَت في عام 2016.

مدخل

إن أقصى درجات العاطفة والحسرة لدي تتمثل في الحنين إليكم جميعاً، وإلى الشعب والأرض والإنسان. لا شك أن هذا هو الأصعب على الإطلاق، بعد كل الحوارات العظيمة التي جعلتني أحتضن آمال الملايين في عقلي وفؤادي. لكنه بالمقابل أمر مفهوم بعد التعرض لمؤامرة دولية شنيعة كهذه بسبب الخيانة التي لا يمكن الصفح عنها من قِبَل أكثر المتظاهرين بالصداقة.

صحتي متداخلة تماماً مع التطورات السياسية. فصحتي لا تهمني كثيراً بقدر ما هي مهمة بالنسبة لكم وللمجتمع ولتركيا. فأنا لا أعيش بشكل شخصي، بل أحيا من أجل المجتمع. ولو أنني لم أُؤَدِّ دوري، لَظهَرَت عشرة نماذج فلسطينية في صفوفنا. لكنني منعتُ ذلك، ليس خوفاً مني، بل بدافع من الروح الوطنية والتآخي. فالنتائج التي سيؤدي إليها الموت غير الطبيعي أيضاً واضحة تماماً، بحيث ستتداخل فوراً مع المستجدات السياسية. لقد كانت المؤامرة الدولية تهدف منذ البداية إلى موتي، بغية تجذير الصراع الكردي-التركي. إلا إنّ المتآمرين قد ضُبِطوا بالجُرم المشهود.

بإمكان السلام أن يتطور أكثر. ولكن، قد يأتي الموت أيضاً. عليكم أن تكونوا جاهزين للاحتمالَين. إنني صادق فيما قلته بشأن السلام. عليكم إدراك ذلك. فإذا ما حصل لي شيء كالموت أو القتل أو افتعال الاشتباك، فاعلموا أنكم جميعاً آفلون. إنه أمر محسوم. ولو كان الأمر شخصياً، فإني جاهز للموت. ولكن، في حال موتي فسيموت خمسون ألف شخص معي. بالتالي، ولأجل إحياء خمسين ألف شخص، فإني أجهد إلى إطالة عمري يوماً بيوم. الدولة تدرك ذلك جيداً، وتقول: إنه يلزمنا اليوم، فليَعشْ، في حين قد لا يلزمنا غداً فسنقتله. هكذا هي بنية الدولة. وثمة الكثير من الألاعيب والتوازنات القائمة على هذا الحساب. وفي حال أنهم قتلوني غداً، فسيَقتلون معي كل الأشخاص المتميزين بهوية حرة وبشخصية نافذة. لا أدري إن كانت الدولة التركية ستسمح لي بالعيش دوماً. فقد يتواجد مندسّون يستهدفونني. وقد يقومون بتسميمي. لا أدري من أين سيأتي الموت. فالدولة لن تُخبِرني كيف سأموت أو إلى متى ستتركني أعيش. ولكن، عليكم التفكير في هذه الأمور جيداً. وفي المحصلة، فكل شيء ستُحدِّده التطورات والأحداث. وعليه، فإنني أجهد على مدار الساعة من أجل الحفاظ على السلام.

سأعمل على العيش حتى آخر نفَس من أجل إظهار الحقائق. وإذا لم أتمكن من العيش طويلاً، فاعلموا أن موتي حينها سيكون أثمن عملية وأنه لحظة تاريخية لا بد منها. إذ سيكون الموت حينها لحظةَ ألمٍ وسعادةٍ ومودة في نفس الوقت. وفيما عدا ذلك، لا يمكن أن أَقبَل بحياة أخرى أو موتٍ آخر. حيث إنني أخاف من أشكال الحياة أو الموت الأخرى. إذ ثمة ألاعيب قذرة تستهدف النيل من حقوق وأهداف وعدالة وحقوق الملايين من الكرد. إنهم يسعون إلى حَبّكْ ألاعيب أسوأ وأشنع مما كانت عليه في عشرينيات القرن العشرين.

ينبغي فهم المؤامرة الدولية عميقاً

ينبغي فهم هذا الحدث بعمق وتنويره جيداً. إنها لعبة سافلة للغاية. لأَكُنْ مُهَمَّشاً من قِبَلهم، وليَقتَربوا مني كما يشاءون. ولكن الشعب انتفضَ بالملايين، وهناك دم أكثر من ثلاثين ألف شهيد. وهناك ظواهر التعذيب والآلام والمعتَقَلون. وهناك آمال الشعب. لكنهم لا يُولون اهتماماً لآلام الملايين. ويسدّون الطريق أمام انتعاش آمال الشعب الكردي وقِيَمِه وأمام طموحهم في ممارسة سياسة نزيهة. والأهم من كل ذلك أنهم يسلبون حريات شعبٍ بأكمله. إنها حقائق قائمة. فليضغطوا عليّ كما يشاءون، ولكن، ثمة آمال منتعشة لشعبٍ منتفض. وفي النتيجة، فإن الخسارة ستَكون من نصيب الصادقين من أبناء تركيا، والشعب التركي، وتركيا بذاتها. ولا يمكن أن يَكون هذا مَطلب الصادقين من أبناء تركيا.

إن هذه اللعبة قائمة منذ مئتَي عام. ومنذ 25 عاماً يلعبون علينا أيضاً. إذ يقولون للكرد “انتفضوا”، ويقولون لمصطفى كمال أتاتورك “أعدمهم”. هكذا استولوا على الموصل وكركوك. إنها سياسة “اهرب يا أرنب، اصطَده يا كلب الصيد”. والآن يطمعون في العراق. وسيحتلّونها باستخدام الكرد. وقد عارضتُ ذلك، وخطوتُ خطوةً هامةً للغاية في هذا الشأن. من الصعب عليهم أن يحتلّوا العراق. إن “حزب العمال الكردستاني PKK” يدرك ذلك حديثاً. والمثقفون الكُرد والأتراك انتبَهوا إلى ذلك للتو. أنا لستُ ضد الصداقة التركية -اليونانية، ولا ضد العلاقات بين تركيا وأوروبا. ولكن، ليس صحيحاً أن تتأسس تلك العلاقات على المؤامرة. على تركيا أن تتخلص من العلاقات التآمرية. فتأسيس الجمهورية الديمقراطية سوف يسدُّ الطريق طوعاً أمام الانفصال. ذلك أن الكرد يشكلون اختلافاً وغنى. فليَكُن هناك سبعة ألوان مختلفة، وليس الأبيض أو الأسود.

لقد انتبَهَ الإقطاعيون الكرد أولاً إلى بحثي عن الحرية. تلاهم بعد ذلك القوى الخارجية، أي الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وأخيراً انتبَه كلينتون إلى ذلك، فتدخّل في الأمر. أي أن اعتقالي لم يَكُن حدثاً بسيطاً. بل إنه من أهم أحداث السياسة الأمريكية بعد تسعينيات القرن العشرين. بالتالي، من الضروري الإدراك أن هذا الاعتقال لم يحصل كرماً لأجل تركيا فحسب. بل إنه حدث بالغ الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً. وهذا ما يمكن أن يكون موضوعَ رواية أدبية وسياسية شاملة. ينبغي شرح المأساة الكردية. لكن مثقفينا وفنّانينا لا يرَون ذلك.

إن أمريكا هي التي عَظَّمَت شأن صَدّام حسين في المنطقة، ووَجَّهَته لغزو الكويت. وهي التي حَثَّته على استخدام الأسلحة الكيماوية لإبادة الكرد. لقد جعَلَت الكرد بمثابة “الأرنب”. مما اضطر الملايين من الكرد للهجرة إلى الخارج. انظروا إلى أي حال أَوصَلَت الكرد؟ لقد أَعَدَّت كُردَ العراقِ طيلة أربعين عاماً ليصبحوا على ما هم فيه الآن. وخَلَطت الأمور في تركيا. إنهم يهدفون إلى تقسيم العراق. حيث ستَعمل إسرائيل، وبدعم من أمريكا وإنكلترا، على تأسيس دولة كردية هناك، سواء كانت دولة فيدرالية أم مستقلة. ذلك أن هذه الدولة الأداة تلزمهم هناك من أجل ضمان ثبات إسرائيل في المنطقة. أي أن الولايات المتحدة الأمريكية تتخلى بالتالي عن سياستها التي كانت تنتهجها منذ ستين عاماً، وتتخلى إنكلترا أيضاً عن سياستها التي مارستها طيلة قرنَين من الزمن. إن السياسة الإنكليزية المعمِّرة مئتَي عاماً، والتي تبدأ تحديداً في عام 1808، تنتهي هنا، لأنها لم تتمكن من ضمان أمنِ إسرائيل، فأَفلَسَت. بمعنى آخر، يتم تخطي الإسلام الراديكالي أيديولوجياً وتخطي القوموية والاستبدادية سياسياً. أي أنه سيتم تخطي القوموية العربية والشيعية والتركية، وسيُخلَق نموذج على النمط الأوروبي. لقد حاولوا تجريب ذلك في تركيا، ولكنهم فشلوا. لذا، فسيركزون على العراق. وقد يتوجَّهون نحو إيران وسوريا أيضاً في سبيل ذلك. إنني أمارس السياسة. وقد كتبتُ مقالاً موجزاً بعنوان “من إيطاليا إلى جراهام فولر”، قلتُ فيه مخاطباً أمريكا: “سياستكم خاطئة من الأساس”. بعد ذلك اعتَرفَ روبرت جيمس وولسي، مدير “وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA” الأسبق، بهذا الأمر حينما قال “حقاً كانت سياستنا خاطئة”. وماذا قال بوش في 6 تشرين الثاني؟ لقد قال: “سياستنا خاطئة، وسوف نغيِّرها من الأساس”. تتخلى أمريكا عن ثلاثة أمور: أولها؛ سياستها بشأن الشرق الأوسط، والتي ترتكز إلى التطرف القومي كأيديولوجية تقليدية، بما في ذلك تخَلّيها عن الكمالية والشاهية. ثانيها؛ التعصب الديني باعتباره مشروع الجيل الأخضر، والذي كانت وضَعَته مكان التطرف القومي. ثالثها؛ تتخلى عن الأنظمة المَلَكية والإقطاعية القديمة. من الجيد أنها تتخلى عن كل ذلك، وأنها تُروّج للديمقراطية. إلا إنها تتخبط في سياستها، وغير جاهزة للبديل. ولذلك، فهي تلاقي الصعوبة في العراق. ذلك أنه من غير الممكن خلق “صَدّام” جديد، أو الاستمرار في التطرف القومي. فماذا سيكون البديل إذاً؟ خاصةً وأنها غير جاهزة لتكريس الديمقراطية.

لقد أَثاروا التطرف القومي التركي طيلة خمسين سنة. وسيعملون على تأجيج التطرف القومي الكردي الآن لمدة خمسين سنة أخرى. ثمة مؤامرة تُحاك على الكرد. ولكننا لن نسقط فيها. حيث سيَعملون على تأجيج النزعتَين القومويتَين، لتؤدي في النتيجة إلى الصراع والنزاع. وإذا ما بدأ الصراع على كركوك قريباً، فلن يتوقف إزهاق الدماء. وسيَكون شعبنا الأعزل والبريء ضحية ذلك. لذا، سنَعمل على إفراغ هذه المؤامرة. لقد تشكَّلَت الدولة الكردية الفيدرالية في العراق على حسابي. وإذا سمحَ لي عمري، فسأعمل على إضفاء المضمون الديمقراطي عليها عاجلاً أو آجلاً، أو أنهم سيَعملون على تبديدها ونسفها خلال 24 ساعة، أو أنهم سيَرتكبون مجازر مروّعة. لقد تشكلت هذه الدولة على حسابي وحساب رفاقي. والآن يعمل الجميع على تَبنّي هذا الإرث. لقد قدَّمنا آلاف الشهداء. عليكم بإقامة القيامة. فقد طوَّرتُ النهج الاشتراكي، دون أن أنزلق نحو الأنارشية ولا نحو الاشتراكية المشيدة. كما إنني تخطّيتُ التطرف القومي تماماً. وسنعمل على تجاوز القوموية في عموم الشرق الأوسط. أي أننا لن نسمح بإيقاع الشعوب في فخ التطرف القومي. ولن نقع في مصيدة القوموية الكردية-التركية.

لن يمنحوا الكرد شيئاً. قد يؤسس القومويون البدائيون دويلة صغيرة، نظراً لأنهم يأتمرون بإمرتهم. قد يسير الكرد القومويون مع أمريكا مدةً ما، ولكن إلى ماذا يفضي السير معها ضمن منطقة الشرق الأوسط؟ لقد سار الأرمن خمسين عاماً مع الإنكليز والفرنسيين، وسار الإيونيون مئة عام مع الإنكليز. لكنهم مُسِحوا من هذه الأرض في النهاية. كان هناك الآشوريون والسُّريان في نينوى، والذين قُضي عليهم أيضاً على التوالي. قد يصبح الكرد دويلة، ولكن إلى أي مدى يمكن الثقة بها؟ وهل ستغدو تلك الدويلة إسرائيلاً ثانية؟ وهل ستُقحِمهم في أتون الحرب؟ إن هذا غير معلوم. لقد بدأ تأليب الأتراك على الكرد في عهد الإنكليز. لكن الكرد أصبحوا أقوى الآن نوعاً ما. لماذا لا يَكتب المثقفون الأتراك عن المؤامرة؟ ليَكتبوا عنها من أجل الشعوب، وليس لأجلي. علينا تحليل وتفكيك هذه المؤامرة كضرورة لازمة، وليس خوفاً من الموت. فإن موتي أو إعدامي أو تفسخي هنا لا يعني سوى تفسخ تركيا أيضاً. لكن المثقفين واليساريين والإسلاميين على السواء لا يفقهون ذلك. إنهم لا يفهمون شيئاً من الدين الإسلامي، ولا من الروح الوطنية، ولا من الأخوّة. لقد جَعلَتهم أمريكا سُكارى ثَمِلين. ونحن هنا بمثابة جالون بنزين مسكوب على كومة حطب. فالوضع المروّع في العراق حالياً، سوف ينتشر غداً في سوريا وإيران وتركيا.

لقد طوَّروا تركيبة “الإسلام التركي” الجديدة. لكنها فشلت على غرار ما لوحظ في مثال تنظيم “القاعدة”. ولذلك اضطروا إلى التخلي عنها أيضاً. ما هو نمطها الذي في تركيا؟ إنه “حزب الله” الذي يُعَدُّ اشتقاقاً من تنظيم “القاعدة”. لقد كان التحالف الكردي-التركي صحيحاً. ولكن، ثمة أسباب أيديولوجية أدت إلى فشل “الشيخ سعيد”، بالإضافة إلى حبك المؤامرة ضده. ولولا وجودنا الآن أيضاً، لَكان الكرد في العراق سيَلقَون العاقبة نفسها. إنني لم أستسلم إلى تلك القوى بعد تسعينيات القرن العشرين. ولم ألتجئ إلى أوروبا لأنني مناضل في سبيل الحرية. كما لم أَحتَمِ بالدولة، ولا بأمريكا. إنني لم أستسلم لأحد، نتيجة التزامي بقِيَمي المعنوية الأيديولوجية. وعليه، فإن نهج الحل الديمقراطي يمثِّل الحالة المستحدَثة لنهج الميثاق المللي الذي كان قائماً في عشرينيات القرن العشرين. أي أن حل القضية الكردية على أساس ديمقراطي، إنما يمثل الحالة العصرية للإرث الجمهوري لنهج الكمالية. وعكسُ ذلك إنما يخالف الإرث التقدمي. الجيش أيضاً يقول أن الأساس الأيديولوجي والسياسي للجمهورية قد زال. والحال هذه، فأين يجد الجيشُ الحل؟ ذلك أن مبادرة المعارضة لدى بايكال وباخجلي وآغار لا تكفي لإنقاذ الدولة. ما هو مضمون “حزب العدالة والتنمية AKP”؟ إنه تربع على عرش السلطة في فرصة سانحة. حيث ساد الإرهاقُ بيننا وبين الدولة، فاستفاد AKP من الفراغ الحاصل ومن التوازنات السائدة آنذاك. وهنا بدأت علاقاته مع أمريكا تتطور. كان عليهم أن يُبدوا مواقفهم الصارمة نوعاً ما تجاه السماسرة في الداخل، كي يتمكنوا من الثبات. الجيل البورجوازي الثالث هو تلك البورجوازية التي طوَّرَتها الدولة، من أمثال كوج وصابانجي. والجيل الثاني هو تلك البورجوازية المتصاعدة بعد سبعينيات القرن العشرين. وسيعمل AKP على تطوير جيل آخر من البورجوازية، والتي تفتقر إلى الأرضية الأيديولوجية الصلبة وإلى القدرة على الإصلاح، على الرغم من مبادراتها في هذا السياق. أما “حزب الشعب الجمهوري CHP” برئاسة دنيز بايكال، فهو يمثّل الرؤية التي كانت سائدة في أعوام الثلاثينيات. أما رؤية أعوام الخمسينيات، فأرادوا إحياءها متجسدة في شخص آغار وباخجلي. لكن الجمهورية التركية لن تتمتع بالأمن والرفاه عبر التطرف القومي. كما لن يثمر المحافظون والليبراليون المزيفون عن أية نتيجة ملموسة. بالتالي، لا يتبقى أمامنا كحلّ جذري سوى صياغة وتشكيل مشروع ديمقراطي شامل، وبرنامج ديمقراطي معتمد على الحرية الكردية-التركية المشتركة، دون المساس بالدولة المركزية. إذ نكتفي بالمعايير الدستورية للجمهورية. ولدى تحديد ما ينقصها، ينبغي إدراج الشعب في الأجندة لجهة تمكين المشاركة الديمقراطية. كما يتوجب تركيز كل ساحة على تكريس التنظيم التحتي وعلى التوعية والتعبئة في الأحياء والضواحي والقرى والأرياف وفي كل مكان. وإلا، فقد تُؤجَّج النعرات الدينية والقومية المتطرفة أكثر.

أسباب المؤامرة الدولية

كانت مذهلةً فترةُ الشهور الأربعة من 9 تشرين الأول 1998 وحتى 15 شباط 1999. وما كان لأية قوةٍ عالمية عدا أمريكا أن ترتب لهذه العملية التمشيطية الممتدة أربعةَ أشهر بأكملها في تلك المرحلة. أما دور قوات الحرب الخاصة التركية آنذاك (رئيسها كان الجنرال أنكين آلان)، فكان منحصراً في نقلي إلى إمرالي على متن الطائرة تحت الإشراف. لقد كانت فترةً شاهدةً على تنفيذ أهمّ العمليات التي عرفها تاريخ الناتو بالتأكيد. وقد كان هذا ساطعاً بجلاء، لدرجة أن أي شخص لم يقُم بأي تصرف مختلف في أيّ مكان حلَلنا فيه. ومَن فعل ذلك، شُلّ تأثيره على الفور. فحتى روسيا الكبرى شُلّ تأثيرها بجلاء ساطع. في حين أن موقف اليونانيين كان كافياً أساساً لإيضاح كل شيء. فقد اتَّخذوا تدابير استثنائية بخصوص الأَسْر، ولَم يسمحوا لي حتى بخطوِ خطوة واحدة خارج المنزل. وكانت وحدات الأمن الخاصة تراقب كل مكان، بل وحتى باب غرفتي، على مدار الساعة. كانت حكومة داليما يساريةً ديمقراطية. وكان داليما قليل الخبرة وعاجزاً عن اتخاذ قرار بمفرده. لقد جاب أوروبا بأكملها. وقد بَيَّنَت إنكلترا له ضرورة اتخاذ قراره الذاتي، ولم تتعاون معه كثيراً. في حين كان موقف بروكسل غامضاً. وفي النتيجة، أُحِلنا إلى القضاء. ما كان ممكناً عدم رؤية تأثير الغلاديو في اتخاذ هذا الموقف. وبالأصل، فقد كانت إيطاليا واحدةً من البلدان التي يتمتع فيها الغلاديو بالنفوذ القوي. كان برلسكوني قد استنفرَ كافة قواه. وهو بذاته كان رجلَ الغلاديو. وعليه، كنتُ مرغَماً على الخروج، لأنني علمتُ بعدم قدرة إيطاليا على تحمُّلي. وبالطبع، كانت تركيا قد صُيِّرَت مقابل ذلك واحدةً من أكثر البلدان التي تثق بها أمريكا وإسرائيل، بعدما جعلتاها تدور في فلكهما. من هنا، فالسياق الذي يُزعَم أنه عولمة طائشة، ما هو في واقع الأمر سوى حكايةِ تقديمِ تركيا هِبَةً للرأسمالية المالية العالمية.

إن سيناريو احتلال العراق أيضاً مرتبط بعُرى وثيقة بموضوع تسليمي. وفي الحقيقة، فقد بدأ الاحتلال بالتزامن مع العملية التمشيطية التي استهدفَتني. والأمر عينه يسري على احتلال أفغانستان أيضاً. أو بالأصح، كانت تلك العملية التي استهدفَتني إحدى وأولى الخطوات المفتاح لتطبيق “مشروع الشرق الأوسط الكبير”. فقول أجاويد: “لم أفهمْ بأي حال من الأحوال سببَ تسليم أوجلان لنا” لم يَكن عن عبث. فكيفما أن شرارة الحرب العالمية الأولى اشتعلَت مع قتل ولي عهد النمسا على يد قوموي صربي متطرف، فإنّ ضرباً من “الحرب العالمية الثالثة” كان قد ابتدأ مع عملية المطاردة التي استهدفَتني.

ولكي نستوعب السياق اللاحق لتلك العملية، فمن الضرورة إدراك الأحداث الجارية قُبيلها وأثناءها بأحسن وجه. ذلك أنه وكي يتحادث الرئيس الأمريكي كلينتون مع الرئيس حافظ الأسد حول إشكالية إخراجي من سوريا، فقد التقى معه في اجتماعَين داما لأكثر من أربع ساعات، بحيث عُقد أحدهما في دمشق والثاني في سويسرا. وخلال هذَين اللقاءَين انتبَه حافظ الأسد إلى أهمية شأني، فوَجدَ أن المماطلةَ أنسب له. ولم يتقدم، ولو مؤقتاً، بأي طلبٍ لي بشأن خروجي من سوريا. بل كان يود الاستفادة مني حتى الأخير كعنصرِ توازن جيدٍ تجاه تركيا. أما أنا، فأَرغَمتُ سوريا على اتخاذ موقف استراتيجي. إلا إن قوتي أو وضعي آنذاك لم يَكن يخوّلني لإنجاح ذلك. ولو أني كنتُ في إيران، لَربما كنتُ قادراً على عقد تحالف استراتيجي حينها. لكني لم أَكنْ أستطيع الثقة بإيران أيضاً في هذا المضمار. بل كنتُ أتحاشى مواقفها الكلاسيكية (كجنايات قتل سمكو وقاسملو ومثيلاتها من المؤامرات، والمكائد الضاربة بجذورها في القِدَم وصولاً إلى عهد الإطاحة بالمَلك الميديّ أستياغ على يد هرباكوس). كان كلينتون والقيادات الكردية المتعاملة معه لا يَعتَبرون تواجدي في سوريا مناسباً لمآربهم الاستراتيجية. ذلك أن كردستان والكرد كانوا يخرجون من تحت سيطرتهم تدريجياً. كما كانت إسرائيل أيضاً مغتاظة جداً من هذا الوضع. فمجرى الأحداث في كردستان، وانفلات زمام السيطرة على الكرد من ايديهم، كان وضعاً لا يُمكنهم القبول به. حيث إن إحكام قبضتهم على كردستان يتسم بدور مصيري على صعيد تطبيق مشاريعهم المتعلقة بالعراق خصوصاً. وعليه، كان يُفرَض عليّ أن أخرج من هناك دون بد، وأن أحسمَ موضوع الهوية الكردية المستقلة ونهج الحرية بنحو لا يقبل الجدل.

كان حزبنا ونهج الحرية سببَ وجودنا. وكانت أمريكا وإنكلترا مُرغَمتَين على الوفاء بالعهد الذي أقسَمَتا عليه أمام تركيا منذ سنة 1925 (التضحية بكردستان تركيا بشرط عدم المساس بكردستان العراق). وعلى خلفية ذلك دخلَت تركيا حلفَ الناتو، بعدما اتفقا حول القضية الكردية. بينما موقعُنا واستراتيجيتنا كانا خطراً يهدد هذا التوازن وتلك الهيمنة السائدَين في منطقة الشرق الأوسط، التي تتميز بعظيم الأهمية تقليدياً وراهناً على السواء. فإما كان علينا أن نلتحق بمدار تلك الهيمنة، أو أنْ يُقضى علينا. أما الجمهورية التركية، فكانت ترمي إلى الاستفادة من المعاهدات التي أبرَمَتها مع قوى الهيمنة تلك منذ عام 1925 (اتفاقية عام 1926 بشأن الموصل وكركوك، ودخول الناتو في 1952، واتفاقيتا عام 1958 وعام 1996 مع إسرائيل)، بتوظيفها في محو الكرد من صفحات التاريخ. كانت الأيديولوجيا الوضعية القوموية العلمانية تزودها بإمكانية ذلك. وكان الكادر الجمهوري قد أُقنِعَ بذلك. في الواقع، لقد كان هذا وضعاً مخالفاً جداً لروحِ وتحالفِ العلاقات التركية-الكردية. ولكن، كان وكأنه ما من طيشٍ إلا وسيفعله النظام، انطلاقاً من حساباته في تشييد إسرائيل. وتأسيساً على ذلك أُنشِئَت الأيديولوجية المصطَنعة المسماة بالحقيقة التركياتية البيضاء وكيانها الكادري والطبقي. علاوة على أن PKK كان قد ألحق الضربة المميتة بذلك الكيان. حيث إن القبول بالهوية الكردية والاعتراف بخصوصيتها كان يعني إنكار ذاك الكيان، أو يقتضي التراجع عن تلك السياسات المميتة بأقل تقدير. بينما المعاهدات المُبرَمة مع إسرائيل كانت تتحلى بمعانٍ مصيرية بالنسبة إلى ذاك الكيان. وبالأساس، كانت الدولة القومية التركية قد شُيِّدَت كإسرائيل بدئية.

لقد عُمِل على إنشاء كيان كردي أبيض مماثل أيضاً ارتباطاً بـPDK. فعلى صعيد وجودهم (من أجل أمن إسرائيل ومصالح الهيمنة لقوى الغرب على منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها أمريكا وإنكلترا)، كانوا يُولون أهمية مصيرية لاختلاق قوتَين متماثلتَين بين الأتراك والكرد على حد سواء، بحيث تنبثقان من نفس المركز، وتَكونان على تنافر وتناقض فيما بينهما. وهكذا، فصَونُ منافعهم في المنطقة تأسيساً على هاتَين القوتَين التابعتَين لهم ولكنْ المتنازعتَين فيما بينهما، كانت سياسة عقلانية إلى أبعد الحدود. إلا إن ظهور PKK كان يُفسد عليهم هذه اللعبة التاريخية والراهنة في آنٍ معاً. فولادة فرصة السلام والحل في عامَي 1993 و1998 كانت تعني النهاية المحتومة لهذه اللعبة. ولذلك بالتحديد، لَم يُسمَح بهكذا نمط من الحل، فدُبِّرَ لاغتيالات ومكائد كبيرة. بمعنى آخر، فإنقاذ PKK للكرد من نير السيطرة والتحكم، وتأمينُه مسالمتهم مع المجتمعات والدول الأخرى (وعلى رأسها الأتراك)، كان يعني إلحاق ضربة استراتيجية قاضية بألاعيب الهيمنة وبسيرورة منافع تلك القوى في الشرق الأوسط. هذه النقاط التي بمقدورنا ترتيب مبرراتها على نحو أشمل، تبرهن كفايةً أسباب كون مؤامرة 1998 عظيمة الشأن واستراتيجيةَ المآرب.

كان كلينتون يخصّ حملةَ الهيمنة تلك بأهمية بالغة في تلك الفترة، مشدداً دوماً على أهمية دور تركيا فيها. وقد صرّح مستشاره الخاص، الجنرال جالتيري، شخصياً أنهم أشرفوا على عملية المطاردة التي استهدفَتني بأمر مباشر من كلينتون. أما فيما يتعلق بـ”الحرب العالمية الثالثة”، فيكفي لاستيعاب حقيقتها أن ننتبه إلى أن إحصائيات الأحداث والمجريات القائمة في العديد من البلدان الرئيسية (يتصدرها العراق وأفغانستان ولبنان وباكستان وتركيا واليمن والصومال ومصر) قد تخطّت إحصائيات الحربَين العالميتَين الأولى والثانية منذ زمن سحيق وعلى أصعدة مختلفة. أما كونُ “الحرب العالمية الثالثة” ستَكون متقطعةً غير متواصلة، وممتدةً على مسار زمني طويل المدى، وستُسَيَّر بتقنيات مختلفة؛ فهو أمر مفهوم من الأساس بسبب الأسلحة النووية. وقمة لشبونة التي عقدَها الناتو مؤخراً، وتشديد أمريكا طوقَ الحصار حول إيران، إنما يزوّدنا بالمعلومة اللازمة بشأن مجرى “الحرب العالمية الثالثة”.

إن “الحرب العالمية الثالثة” حقيقة قائمة. ومحورها المركزي هو ساحة الشرق الأوسط وأوساطها الثقافية. والأحداث المُعاشة في العراق بصفته مركزَ تَرَكُّز “الحرب العالمية الثالثة”، توضح بشكل كافٍ أن الحرب المندلعة ليست معنية ببلد واحد، بل بمصالح ووجود قوى الهيمنة العالمية. ولا يمكن إنهاء هذه الحرب، إلا بشَلّ تأثير إيران كلياً، وباستتباب الأمن والاستقرار في أفغانستان والعراق، وبإخراج الصين وأمريكا اللاتينية من كونهما عنصرَ تهديد. وعليه، فما زلنا في منتصف الحرب، التي ستَدوم فترةً قد تصل إلى عشر سنوات أخرى بأقل تقدير، على الرغم من عدم صواب الجزم بذلك على صعيد العلوم الاجتماعية (آخِر المخططات الاستراتيجية للناتو أيضاً ترتأي استمرارها لعشر سنوات). هذا وسيتكاثف الحراك الدبلوماسي فيها أحياناً والعنف أحياناً أخرى. وسيجري التدخل في الأجندة عبر أزمات اقتصادية شديدة ومضبوطة. قد تتغير أولويات المناطق والساحات. لكن الحرب ستستمر في العديد منها بمنوال شمولي بهذا الشكل أو ذاك. من هنا، لن يَكون بالوسع فهمُ دوافع عملية عام 1998، التي استهدفَتني على الصعيد الدولي بأفضل صورة، ولا إدراك أسباب كونها أكبر تمشيط للغلاديو يُدبّره الناتو؛ إلا في حال وضع هذه الطبيعة الأساسية للحرب نُصب العين. وما لا شك فيه هو أنّ مَن يربح دوماً في الحروب الكبرى ليس قوى الهيمنة فقط. بل قد تَكسب الشعوب الكثير. وحتى إنه قد تخسر قوى الهيمنة على صعيد النظام، وتكسب الشعوب بالمقابل وعلى صعيد النظام أيضاً.

مرحلة إمرالي

دارت المساعي لتطبيق أهم قسم من مؤامرة الغلاديو الكبرى في جزيرة إمرالي. فوظيفة الجنرال أنكين آلان، رئيس الوحدة التي جلبَتني إلى الجزيرة، تكفي وحدها لتسليط الضوء على هذه الحقيقة. إذ كان قائدَ القوات الخاصة آنذاك، أي أنه بمثابة الرئيس الرسمي للغلاديو التركي. أما مقاربة مسؤول المفوضية الأوروبية، والذي استقبَلني في الجزيرة، فكانت تكشف النقاب أكثر عن البُعد المتعلق بالاتحاد الأوروبي في هذه المؤامرة. وهكذا كانت قد تجلّت المعاهدة المُبرَمة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي والحكومة التركية. وعليه، ما من برهان قاطع ومُنَوّر بخصوص أن مؤامرة المطاردة تلك قد سُيِّرَت على يد غلاديو الناتو وبرعايةٍ سياسية أمريكية وأوروبية، أكثرَ من هذه الدلائل الثلاثة (تصريحات المستشار الخاص للرئيس الأمريكي كلينتون، الجنرال جالتيري؛ ومقاربة السيدة المسؤولة في المفوضية السياسية للاتحاد الأوروبي؛ ودور رئيس أركان القوات الخاصة التركية أنكين آلان). لم يَكن يساورني الشك، حتى قبل ظهور هذه الحقائق، في أنّ مَن يشلّ تأثيري ليست قوات الأمن في الحكومة التركية. إلا أني كنتُ عاجزاً عن إدراك آلية تلك العملية بصورة تامة. حيث كان السياق يُعكَسُ بنحو مغاير تماماً لِما هو عليه في الواقع. كان ثمة إصرار شديد على خَلقِ أجواء تُومئ بأن الحكومة التركية تسحقنا وتجني ثمار قمعها لنا. فإقرار رئيس الوزراء بولند أجاويد بجهله لأسباب اعتقالهم إياي، وبعدم استيعابه لأسباب رغبتهم في إعادتي إلى تركيا؛ هو بحد ذاته برهان حاسم يثبت مصداقة ادعائي هذا. وسوف تُبَرهَن صحة ادعائي هذا مع زيادة الغوص في تحليل الأحداث واتضاح المستجدات.

أول مَن استقبلَني في الجزيرة كان جندياً برتبة عقيد، ويرتدي البزة العسكرية الرسمية. وقد عرَّف نفسه على أنه ممثل عن هيئة الأركان العامة. وهو مَن قام بالمحادثات المهمة اتي وجدَ أنه من المفيد أنْ تَكون سرية ومنحصرة بكِلَينا. وكانت له أحاديثه المهمة والمختلفة عندما بدأ التحقيق رسمياً بعد ذلك أيضاً. حيث استمر عشرة أيام ذاك الاستجوابُ الذي أجرَته هيئة مؤلفة من أربع خلايا أمنية (هيئة الأركان العامة، قوات الدرك، مديرية الأمن، والمخابرات الوطنية). وقد تخلّله حديث لي مسجَّل على الكاسيت وموجَّه إلى قيادات تلك القوات. كما أُجرِيَت بعد ذلك أيضاً محادثات متبادلة بمثابة دردشة دامت لشهور. وكانت تأتي شخصيات أخرى أحياناً، وتأتي هيئات من أوروبا أيضاً في بعض الأحايين.

أَوليتُ الأهمية لمفهوم مرافعةٍ تضع ماهية المؤامرة الدولية نُصب العين يما يخص سياق إمرالي. فالمتحركون باسم التركياتية كانوا قد بتروا أواصرهم مع الحقيقة، بسبب وعيهم التركياتي المتشدد. بالتالي، فإدراكُ الفلسفة الكامنة وراء المؤامرة كان يخالف طبيعتهم، لأنهم –هم أيضاً-ثمار البنى التي شادتها فلسفة المؤامرة تلك طيلة مئة عام على الأقل. وعليه، كان من غير المتوقَّع أن يتنكروا لتلك البنى المشادة أو يتناولوها بعين ناقدة. وكان لا طائل من التعويل على أنْ يُبدوا أية إرادة للتغير الإيجابي، سواء أثناء كوميديا المحاكمة أم خلال مرحلة الاعتقال. أما تصديقُ أنه سيتم التصرف بمقتضى الأقوال التي هَمس بها ممثل رئاسة الأركان العامة، فكان سيغدو سذاجة في ظل الظروف القائمة. فبالأصل، إنهم مجرَّدون من قوة القرار التي تُخوِّلهم لتطبيق أقواله. لقد ابتُكِر نظام تدعمه أمريكا في الخفاء، ويشرف عليه الاتحاد الأوروبي. وإنكلترا هي مَن صمَّم هذا النظام، في حين أن تطبيقه كان من حصة الأتراك.

من عظيم الأهمية استيعاب الذهنية الفلسفية والسياسية للمؤامرة الدولية. ولذلك أتحدث مراراً وتكراراً عن خلفية المؤامرة التي تمتد لقرنٍ بأكمله، وأصرّح بذلك في كل فرصة. كما وتطرقتُ إلى المؤامرات التي تُعدّ حجر زاوية في عهدها. ومما يتعلق بالكرد فحسب منها: مؤامرة تشكيل الألوية الحميدية، مؤامرتا قتل الملا سليم في بدليس عام 1914 وقتل الشيخ سعيد عام 1925، مؤامرتا سحق انتفاضتَي آغري 1930 وديرسم 1937، دعوى الـ 49 عام 1959 ودعوى الـ 400 عام 1960، مقتل فائق بوجاق، مقتل سعيد قرمزي توبراق على يد قوات PDK؛ إضافة إلى المؤامرات التي يمكن ذكر المئات منها دفعةً واحدة، والتي تمتد من المرحلة الأيديولوجية لـ PKK وحتى يومنا الراهن، والتي تُحاك من طرف العقلية نفسها. إن مُدبّري المؤامرات يَعتَبرون ذلك فناً سلطوياً مُرَتَّباً بحذافة. أي أن المؤامرة بمنزلة الروح في فن السلطة، أو هي أهم وسيلة فيه. وكان من الضروري تسيير هذا الفن بالنسبة إلى الكرد على خلفية المؤامرة دون بد. ذلك أن تنفيذ المؤامرة بأسلوب علني كان سيفضي إلى وضعٍ شبيه بالقصة التي يقول فيها الطفل: “أمي، المَلِك عارٍ”. وعليه، ما من أداة في متناول قوة السلطة، التي تهدف إلى ممارسة أفعالٍ تصل حدّ التطهير الجماعي، سوى المؤامرة والعقلية التي تُحدِّد مسارها. المهم هنا هو التعرف الصحيح على القوى المندرجة في سياق المؤامرة، والتعريف السليم لها.

عليَّ التبيان أني لاقيتُ صعوبة في هذا الموضوع خلال مرحلة إمرالي. فموضوع الحديث هنا هو تواجد قوى متنافرة إلى أبعد حدّ ضمن المؤامرة. حيث أُدرِجَت كثير من الدول ضمنها، بدءاً من أمريكا إلى روسيا الاتحادية، ومن الاتحاد الأوروبي إلى الجامعة العربية، ومن تركيا إلى اليونان، ومن كينيا إلى طاجكستان. فما الذي وَحَّد الأتراكَ واليونانيين بعد عداء قرونٍ بأكملها؟ ولِمَ يُعقَدُ على حسابي كلّ هذا الكمّ من التحالفات او اتحاد المصالح غير المبدئية؟ زدْ على ذلك أن الأتراك والكرد اليساريين والقوميين المتواطئين المغتبطين في قرارة أنفسهم جراء استهدافي كانوا كُثُراً لدرجةٍ لا تُعدُّ ولا تحصى. وكأن العالم الرسمي قد أَوقَعَ أخطرَ رقيب له في الفخ متجسداً في شخصيتي. لكنّ ما لا جدال فيه هو أنّ رصداً عاماً للأمر منذ البداية سيبسط للعيان أن كافة تلك القوى تتشكل من الشرائح التي تحتل الصدارة في لائحة اللاهثين وراء المصالح الليبرالية للحداثة الرأسمالية. وأنا كنتُ خطراً يهدد المصالح والعقلية الليبرالية الفاشية لجُلِّهم.

فمثلاً؛ إنكلترا هي الأكثر خبرةً من بين تلك القوى. وهي القوة التي أَطلَقت الإنذار الأول بعدم السماح بمزاولتي السياسةَ داخل أوروبا. وما أنْ وطأَت قدماي أرضَ أوروبا حتى سارعَت إنكلترا للإعلان بأنني “persona non grata”، أي “الشخص غير المرغوب فيه”. لَم تَكُن هذه خطوةً بسيطة. بل كانت من الخطوات التي تقرر النتيجة النهائية سلفاً. حسناً، ولماذا اتُّخِذ بحقي هكذا موقف فوري لَم يُتَّخَذ حتى بحق خميني أو لينين؟ لقد سعيت إلى توضيح العديد من البوادر والعلائم المعنية بذلك في العديد من فصول مرافعتي. لذا، لا داعي لمزيد من التكرار هنا. وباقتضاب؛ كنتُ حجرَ عثرة لا يُستهان به على درب حسابات الهيمنة المعمّرة قرنَين من الزمن بشأن الشرق الأوسط، وبالأخص بسبب سياساتها المتعلقة بكردستان (باختصار، بسبب السياسة التي مفادها “إليكَ كركوك والموصل، واقضِ على الكرد داخل حدودك”). كنتُ قد أمسيتُ خطراً يهدد كل مخططاتها، ويقضُّ مضاجع منفّذيها.

أما هَمُّ أمريكا فكان مختلفاً. إذ كانت لها مطامعها في تمرير “مشروع الشرق الأوسط الكبير”. لذا، اتسمَت التطورات في كردستان بأهمية حياتية. بالتالي، فإن شلّ تأثيري بصورة أكيدة كان من ضرورات الأجواء الحرجة حينذاك بأقل تقدير. وكان القضاء عليّ يتناسب مع السياسات العالمية في تلك الأيام. أما روسيا التي كانت تمرّ بأزمة اقتصادية بالغة الأهمية في تاريخها، فكانت في مسيس الحاجة إلى قرضِ مَعونة عاجل. ولَئِنْ كان سيصبح دواءً لدائها، فلن يبقى أيّ سبب لعدم لعب دورها واحتلال مكانها في المؤامرة ضدي. أما الآخرون، فكانوا من الأساس “كالإِخوة الصغار المهذّبين والطائعين لأخيهم الأكبر” الذي يُعَدّ تاجاً على رؤوسهم أياً كان كلامه. في حين أنها كانت فرصة سانحة لأجل كلٍّ من اليسار التركي (عدا الاستثناءات) والمتواطئين الكرد والمستائين داخل PKK، كي يتخلصوا من ندٍّ ذي شأن. وفي نهاية المآل، فالفلسفة الكامنة في الأغوار السحيقة لجميع هذه المواقف هي فلسفة المصالح اليومية والمنفعية والأنانية في الليبرالية.

أعتقد أنني بذلك أسلط النور أكثر على الحقيقة. فمناصَرة حرية كردستان ونيل الكرد هويتَهم في تلك الأيام، كانت تقتضي تذليل شتى أشكال المصالح الليبرالية اليومية والبراغمائية والأنانية، وتأمرنا بالتخلي عن حياة الحداثة الرأسمالية بيمينها ويسارها، وتُرغِمنا على الانتفاض في وجهها. وخِلاف ذلك، فعالَم تلك الأيام كان شاهد عيان على انتعاش الليبرالية العالمية في حربِ غزوِها للعالم. كنا نعيش سنواتٍ أعلَنَت فيها الفاشية الليبرالية سيادتَها عالمياً. أما من الناحية السياسية، فكانت منطقة الشرق الأوسط تمثّل بؤرةَ صراع الهيمنة. لذا، كان الصراع على كردستان يتسم بدورِ المفتاح لجهةِ حسابات الهيمنة. وكان شأن PKK الأيديولوجي والسياسي على تناقض صريح مع تلك الحسابات. وعليه، فالقضاء عليَّ كان يعني إفساحَ المجال أمامها.

انتعشَت كل هذه الحسابات التاريخية مرة أخرى ضمن دوامة إمرالي، متمثلةً في شخصي. ولكي أستطيع تحليل مرحلة إمرالي، كان يتعين عليّ أن أتمتع بوعيٍ يمكِّنني من الانتباه إلى صراع المصالح اليومية المرتكزة إلى خلفيةٍ تاريخية طويلة المدى. الخاصية المهمة الأخرى التي ينبغي توخّي الحساسية الفائقة إزاءها بشأن الحسابات التآمرية للنظام المهيمن، هي عدم التحول إلى أداةٍ بِيَد سياسته “فرِّقْ تَسُد” المُرتّبة بمهارة والمُسَلّطة على المنطقة ببراعة خلال القرنَين الأخيرَين، وعدم السماح بالدخول في دوامة مصالح تلك القوى الرامية إلى تجذير الصراع التركي-الكردي بشكل خاص. لكنّ الأرمن والإغريق والبنى الأثنية في بلاد البلقان، والعرب والسُّريان والأتراك والكُرد الذين أضحوا أداةً في يد تلك السياسات، كانوا قد خسروا الكثير. فبعض هؤلاء قد استُؤصِل من وطنه وجُرِّد من ثقافته المعمّرة آلاف السنين، وبعضهم الآخر أُخرِج حتى من كونه مجتمعاً وطنياً. علاوة على أن قوى عديدة كانت تضمر الحقد تجاه الكرد لعيشهم المشترك مع الأتراك. وهكذا، فإن هذه الوحدة التي ما فتئَت تحافظ على أهميتها الاستراتيجية منذ معركة ملازكرد، قد ذهبَت أدراج الرياح مع سياسة الإنكار والإبادة المنَظّمة منذ عام 1925 على وجه الخصوص. ولدى سبرِ أغوار مرحلة إنكار وإبادة هذا العنصر الأصلي في الجمهورية، وتفسيرها بفلسفة التاريخ؛ يتبدى للعيان أن المستهدَف ضمنياً هنا هو هذه الوحدة الاستراتيجية. من أهم خطوات المؤامرة هي قيام الإنكليز وامتداداتهم الداخلية بافتعال الضائقات على درب مصطفى كمال أتاتورك. بينما لَم يَكُن ثمة محلّ لنزعة العداء تجاه الكرد وصهرهم ضمن ظاهرة الإدارة التركية التقليدية وفلسفتها. لكنّ بذور تلك العداوة قد غُرِسَت لمآرب خاصة. ومجريات مراحل التمرد وما بعدها تؤكد صحة هذه الحقيقة. هذا الوضع الذي لفتَ انتباهي بقوة، فضاعفتُ التركيزَ عليه في إمرالي، قد أفضى إلى تحوّلٍ جذري في فلسفتي السياسية.

نتائج المؤامرة الدولية

بالمقدور استشفاف تطوُّر هذا الفكر السياسي في مرافعاتي، التي دوَّنتُها في ثلاث نُسخ. إذ كانت النتائج التي توصلتُ إليها بخطوطها العريضة كالتالي:

آ- لَم تُنسَج خيوط المؤامرة ضد الكرد فقط متمثلين في شخصي، بل وضد الأتراك أيضاً. فشكل تسليمي، ونية الذين لهم دور في ذلك، لا يشيران إلى الحل والحد من “الإرهاب”، بل إلى تجذير وتكريس الخلاف والشقاق بحيث يطول قرناً آخر من الزمن. وإيقاعهم إياي في فخ المؤامرة كان قد قدّم لهم فرصة مثالية لتحقيق نواياهم المُغرضة تلك، فحاولوا انتهاز هذه الفرصة حتى الأخير. إذ ما كان ممكناً التفكير بعكسِ ذلك. حيث لو أنهم أرادوا، لَكان بمقدورهم الإسهام في إنجاز مستجدات إيجابية جداً في هذا الاتجاه. لكنهم كانوا يدفعون الأمور نحو الهاوية دوماً، ويُصيِّرون المشكلة عقدةً كأداء بدلاً من حلها. كانت ثمة مساعٍ لخلقِ ثنائية نموذجية على غرار ثنائية إسرائيل-فلسطين. فكيفما خدم الصراعُ الإسرائيلي-الفلسطيني الهيمنةَ الغربية في الشرق الأوسط قرناً كاملاً من الزمن، فقد كان بإمكان الصراع التركي-الكردي الأوسع بكثير أن يخدم حسابات الهيمنة قرناً آخر من الزمن بأقل تقدير. وقد أُخِذَ الهدفُ عينه أساساً أثناء تصعيد العديد من القضايا الأثنية والمذهبية كي تتخبط في اللاحل ضمن المنطقة خلال القرن التاسع عشر. لقد أَنضَجَت حقيقةُ إمرالي معلوماتي الخام جيداً في هذا الشأن. إلا إن المعضلة الأهم تجسدت في كيفية إفهام المسؤولين الأتراك بذلك.

ب- بالتالي، فإن إقناعهم بأن المؤامرة محاكة ضد الأتراك أكثر مما هي ضدي أو ضد الكرد، قد أمسى أهمّ إشكال لدي. فكنتُ أشدد على ذلك مراراً أمام المحققين معي. لكنهم كانوا مهووسين بنشوة النصر. وقد استمرّت مقارباتهم هذه إلى أن أدركوا عام 2005 أن حركة الهوية والحرية الكردية ازدادت حيوية وانتعاشاً عما كانت عليه في الماضي. ولدى تركيزي على الموضع بإمعان أكبر، رأيت عن كثب العناصرَ التآمرية الكائنة خلال عهد المَلَكية الدستورية وعهد الجمهورية. وفطنتُ إلى أن الحدث المسمى بالاستقلال التركي ما هو إلا أسوأ أشكال التبعية. لقد كانت تبعيةُ الأتراك تبعيةً أيديولوجية وسياسية. ومع مضيّ الوقت، استطعتُ الإدراك أكثر فأكثر أن القوموية والوطنيةَ المنشأتَين هما ذاتا منشأ غريب، وأن علاقتهما نادرة جداً مع الظاهرة الاجتماعية التركية وتاريخها. لقد كانت القوى المهيمنة عالِمةً بمدى ضعف النخبة الحاكمة التركية بشأن السلطة، وتستفيد منه. كما إن السيطرة اللامحدودة التي بسطَتها هذه الأخيرةُ على الكرد كانت تتأتى من نقاط الضعف عينها. لكن هذا التحكم كان يَأسرها في نفس الوقت. فحاكميتُها كانت موجَّهة على الدوام. وكانت تفتقر إلى الأيديولوجية الذاتية. أو بالأحرى، كانت قاعدةُ “الحاكمية كل شيء، والأيديولوجيا لا شيء” هي التي تُفَعَّل ميدانياً.

ج- اتَّبَعت قوى الهيمنة أسلوبَ “اهرب يا أرنب، امسكْه يا كلب الصيد” لتكريس الصراع التركي-الكردي. بحيث سيسقط الأرنب وكلب الصيد مُنهكَين في هذه المطاردة، وسينهمكان في نهاية المطاف بخدمة أربابهما دون قيد أو شرط. وما طُبِّق عليّ شخصياً يؤكد ذلك. فمقاربات المفوضية الأوروبية وقرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبية كانت تخدم مزاولةَ هذه السياسة بكل ما للكلمة من معانٍ. ومنطق ربط الطرفَين بهم بلا حدود هو الذي كان سارياً. لم يَكن الهدف من ذلك إحلالَ العدالة واستتباب الحل. ولذلك بنيتُ مرافعاتي على فضح هذا المنطق بالأكثر. ذلك أن وضعَ شبكة الغلاديو على قمة جهاز الدولة بشكل لا نظير له في أي بلد من بلدان حلف الناتو، أمر يستحيل إيضاحه بالنوايا الطيبة ودواعي الأمن. بل تغاضت القوى المهيمنة عن امتدادات الغلاديو داخل تركيا، لأنه يُسلِّمها زمام الأمور ويقدّم لها فرصة نفيسة للتحكم بالبلد على مزاجها. ولدى التمحيص الكثيب في شبكة الغلاديو ككل متكامل، وإماطة اللثام عن فلسفتها؛ فسيُلاحَظ أن الغاية تتجسد في احتلال البلد من أقصر الطرق، وفي تقسيم شعبه إلى أجزاء مُؤَلَّبة على بعضها البعض. إذ يكشف هذا الواقع عن نفسه ضمن امتداداتهم في الشرق الأوسط على وجه الخصوص من خلال الممارسات المُعاشة بكثافة. لقد كانت هذه الوسيلةَ الأكثر تأثيراً للتحكم بشعبٍ ما. حيث يستفزون الشعبَ ضد الدولة من جانب، ويحرّضون كِلَيهما على سحق بعضَيهما بعضاً من جانبٍ ثانٍ. كما كانوا يقضون على مَن يرَونه خطيراً باتّباع الأسلوب عينه. لقد كانت هذه الظاهرةُ لافتةً للأنظار بنحو واضح في حقيقة الحكم داخل تركيا خلال الأعوام الستين الأخيرة. فكأن البلد أصبح مختبراً لتسيير اشتباكات الغلاديو. فالصِّدامات التي تَسبَّبَ بها الغلاديو في كافة المراحل المهمة من تاريخ PKK، كانت تَفي لوضع حد نهائي لعلاقات الصداقة التقليدية المستمرة منذ قرون مديدة بين الدولة وشعوبها.

د- قَيَّمتُ مرحلةَ إمرالي كمحفل نموذجي لإفساد هذه اللعبة. فعززتُ أرضيتي النظرية لأجل ذلك. وطوَّرتُ جميع المقومات الفلسفية والعملية اللازمة لاستتباب السلام وتوفير شروط الحل السياسي. وركزتُ على خصوصية الحل السياسي الديمقراطي. إذ بمقدور هذه الأنشطة العصيبة والتي تستلزم الصبر وسِعَة الصدر أن تحطّم جدران الدوامات العقيمة للمؤامرة، وأن تخلق بدائل الحل المرتقب. لم يَكن بوسعي في هذا المضمار سوى الثقة بالنفس. في الحقيقة، كانت نوايا القائمين على مهامّهم في سياق المؤامرة مختلفة. إذ كانوا يتطلعون إلى إنهاء وجود PKK وحركة الحرية متجسداً في شخصي. وكانت إجراءات السجن وجميع مقاربات محكمة حقوق الإنسان الأوروبية والاتحاد الأوروبي مرتبطة بهذه الغاية. كان يتم التطلع إلى حركة كردية مُنَقّاة مني، ويُراد خلق نسخة حديثة للتواطؤ التقليدي، بحيث تَكون مخصية ومُسخَّرة لخدمة أسيادها. وكانت فعاليات أمريكا والاتحاد الأوروبي على المدى الطويل تتمحور حول ذلك بشكل خاص. إذ كانوا منفتحين على التحالف مع النخبة التركية الحاكمة بناءً على ذلك. وباختزال، فنموذج الخَصي هذا، والذي نجحَت الهيمنة الإنكليزية خصوصاً في تطبيقه على حركة العمال ثم على حركات التحرر الوطني والحركات الثورية والديمقراطية، قد أحرز النصرَ مع أسلوب حقوق الإنسان وحرياته الليبرالية. حيث قاموا بتصفية القيادات والتنظيمات الثورية. وعلى غرار أساليب التصفية التي مارسوها طيلة قرون عديدة، كان يُطبَّق أسلوب مشابه على PKK والحركة الثورية وحركة المساواة والحريات العامة أيضاً. كانت هذه هي النتيجة الأولية المأمولة من سياق إمرالي، وهذا هو المخطط المعمول عليه بكثرة بهدف تطبيقه بمهارة. وكانت الاستراتيجية والتكتيكات تُصاغ مُؤَطَّرة بهذا المخطط. أما المرافعة التي طوَّرتُها مقابل ذلك، فلَم تَكن تعتمد على الموقف الأرثوذكسي الدوغمائي التقليدي، ولا على إنقاذ نفسي وتحسين ظروفي. بل إن طريق الحل السلمي والديمقراطي المُشرّف والمبدئي والمتماشي مع واقع الشعوب التاريخي والاجتماعي، هو الذي رسم مسار مرافعتي.

عبد الله أوجلان

الحجرة الانفرادية في سجن إيمرالي

زر الذهاب إلى الأعلى