PYDآخر المستجداتسوريةسياسةمانشيت

مئة عام على اتفاقية لوزان… ما للكُرد وما عليهم

تعتبر اتفاقية لوزان الموقّعة في 24 تموز 1923م  في مدينة لوزان السويسرية بمثابة المحصلة النهائية لكل المؤتمرات والاتفاقات والمعاهدات التي سبقتها بدءاً من اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916م ــ التي تعد ركيزة التقسيم لِتَرِكَة ما عُرِفَ  بـ "الرجل المريض"، وبداية لتشكيل الدولة القومية على انقاض وبقايا السلطنة العثمانية المنهارة، وانتهاءً بمعاهدة سيفر في 10 آب 1920م، وتتالت فيما بعد توقيع عدة اتفاقات بين قوى الهيمنة المركزية مثل اتفاقية موسكو مع الاتحاد السوفياتي واتفاقية أنقرة مع فرنسا ومعاهدة ألكسندر وبول مع الأرمن وقارص ومودانيا مع المملكة المتحدة.

وُسمت اتفاقية لوزان ذات الــ 143 بنداً بأنها غير العادلة وغير المنصفة بحق الشعب الكردي على وجه التحديد خاصة فيما يتعلق بقضيتي الهوية والوجود الطبيعيين لأي شعب في نيل حقوقه كما باقي شعوب المنطقة؛ وذلك لعدم وجود أي ممثل عنهم “الكُرد” أو حتى ذكرهم في أي بند خاص بهم من بنود هذه الاتفاقية، رغم ذكرهم بالاسم الصريح في اتفاقية سيفر ضمن موادها الـ 62 – 63 – 64 والإقرار بوجوب حقهم في تقرير مصيرهم ضمن مدة زمنية معينة والمحافظة على خصوصيتهم أيضاً.

وتسببت عملية التقسيم وتشكيل الدول القومية وترسيم الحدود في تشرذمهم وتشتتهم، وفيما بعد مورست بحقهم كل أشكال الإبادة والحرب من قبل الأنظمة المركزية القومية في الدول التي تقاسمت جغرافية هذا الشعب ولم تعترف لا بالهوية الثقافية ولا حتى بأدنى الحقوق الطبيعية له.

لم يكن الشعب الكردي فقط ضحية هذه المعاهدة وغيرها من المعاهدات التي فُرضت على شعوب المنطقة، بل كانت لها تأثير على عموم شعوب المنطقة، وعانوا من استبداد الأنظمة الشديدة المركزية.

بعد مرور مئة عام على الاتفاقية، يسعى الشعب الكردي إلى جانب سائر شعوب المنطقة إلى التخلص من تبعاتها ونتائجها، وذلك من خلال تطوير مفهوم جديد للحرية والديمقراطية والتعايش بين الشعوب، ولعل أفضل تجربة لمثل هذا المشروع ما أفرزته “ثورة التاسع عشر من تموز عام 2012” من نضال مشترك لشعوب شمال وشرق سوريا بتأسيسهم للإدارة الذاتية الديمقراطية التي تعبّر بشكل أو بآخر عن هوية المنطقة التعددية دون إقصاء أو إنكار لأي هوية، حيث إن كل المكونات الاثنية والدينية حاضرة بشكل فعّال وتعبّر عن نفسها في هذه الإدارة.

اليوم يصعّد الشعب الكردي نضاله على كافة المستويات لمواجهة جميع التحديات وحرب الإبادة التي تشنها أنظمة السلطة المركزية، وذلك للحفاظ على جملة من المكتسبات الديمقراطية التي حققها بدماء الآلاف من أبنائه وبناته.

في هذا السياق يرى نخبة من الباحثين والكُتّاب الكُرد أن اتفاقية لوزان ما زالت قائمة وعلى الشعب الكردي أن يمتلك استراتيجية لمجابهة لوزان وأنظمة السلطة المركزية.

 إلى ذلك يرى مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية NRLS

 أن نموذج الإدارة الذاتية القائمة في شمال وشرق سوريا، نموذج ديمقراطي يعبّر عن هوية المنطقة ويتشارك فيه الكرد إلى جانب بقية شعوب سوريا، لكن هذا المشروع لا يتناسب مع مشاريع قوى الهيمنة وأنظمة السلطة المركزية، لذا تُحَارَب الإدارة الذاتية من جهات عدة، ولولا تلك الإرادة التي تحلّت بها القوى والمكونات التي أسست هذه الإدارة في مواجهة هذه الجهات لشُنت حرب إبادة شاملة على هذه الإدارة.

طبعاً المسألة السورية مرتبطة بالسياسات الدولية ومشاريعها المتضاربة تجاه المنطقة، فبالنسبة للدول الإقليمية التي شهدت موجات الربيع العربي والدول التي انخرطت في هذا الربيع؛ لا حلول جذرية لديهم سوى إعادة تدوير انظمتهم الاستبدادية وإنكار الحقوق سواء لشعوبهم أو القوميات والأقليات التي وردت ضمن الاتفاقات الدولية، ومنها “اتفاقية لوزان”، فقد وجدوا أنفسهم ضمن حدود هذه الدول، كالكرد والأمازيغ وغيرهم، أما بالنسبة للدول الكبرى فإن الأزمة السورية جزء من عموم الأزمات التي تشهدها المنطقة والعالم سواء الصراع الروسي الصيني الأمريكي حول النفوذ وطبيعة النظام العالمي المتشكل أو الحرب الدائرة في أوكرانيا كحرب كسر العظم ما بين الانفراد الأمريكي الغربي بالنظام العالمي وفرض الهيمنة  وبين روسيا الساعية إلى العودة كقطبٍ ثانٍ في العالم ومن يقف خلفها من الأنظمة الشمولية والديكتاتورية ككوريا والصين وإيران وتركيا، ولهذه القوى رؤى مختلفة حول الحلول في سوريا،

فروسيا ومَنْ خلفها لا يريدون تغييراً ديمقراطياً في المنطقة حيث سيؤثر هذا التغيير حتماً على طبيعة انظمتهم؛ لذلك يسعون إلى إبقاء الوضع كما هو وإعادته إلى ما قبل موجات الربيع العربي وكأن شيئاً لم يحدث.

أما القوى الغربية فهي تدرك استحالة استمرار الهيمنة على الشرق الأوسط من خلال النماذج السابقة للحكومات وطبيعة الدول القومية الفردية والعائلية والشمولية؛ ولذلك تسعى إلى فرض النموذج البديل من خلال تقسيم الدول داخلياً من دون المساس بالحدود الدولية من خلال الفيدراليات أو الإدارات الذاتية وذلك لتحجيم هذه الدول والتحكم بها بعد أن أصبحت الدول المركزية عائقاً أمام المشاريع الغربية ومساهمة في أزمتها العامة؛ لذلك وبحسب المشاريع المتضاربة للقوى الكبرى فإن النموذج الذي سيفرض نفسه هو نموذج القوى التي تفرض انتصارها في الحرب الأوكرانية التي تُعتبر “حرب عالمية ثالثة” في بقعة جغرافية محددة؛ نتيجة لحجم ونوع الأسلحة الفتاكة المستخدمة فيها والتي تشير المعطيات إلى أن توسع ساحة هذه المواجهة قد تؤدي إلى تدمير العالم، ويبدو أن روسيا لن تتمكن من الخروج منتصرة وبالتالي فأن النموذج الغربي أو الأمريكي للحل سيكون السائد في الشرق الأوسط ومن ضمنها سوريا.

أما بالنسبة للإدارة الذاتية الديمقراطية التي تأتي في مقدمة نماذج “الحل الأمثل” لعموم سوريا؛ فإن ذلك مرتبط بالدرجة الأولى بمدى التوافق ما بين مفهوم الأمة الديمقراطية كنموذج حل لعموم الشرق الأوسط، وبين الرؤية الغربية التي تتشابه مع مفهوم الأمة الديمقراطية في الإدارات الذاتية والفيدراليات، ولكن هذه الرؤية الغربية تختلف من حيث المضمون وجوهر هذه  المفاهيم، إلا أنه ونتيجة اكتساب الإدارة الذاتية شرعيتها كمفهوم ديمقراطي جامع لكل المكونات في المنطقة إلى جانب النجاحات العسكرية ضد الإرهاب على أرض الواقع وتحوّلها إلى شريك فاعل ضمن التحالف الدولي والقُوى الرئيسية في فرض الأمن والاستقرار في المنطقة ومواجهة التمدد الإرهابي والتمدد الإيراني في سوريا، وإدارة المنطقة من خلال مؤسساتها المدنية (الخدمية والاقتصادية والاجتماعية) إلى جانب الدور المميز للمرأة في مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية فإنها “أي الإدارة الذاتية” أثبتت بأنها النموذج الأفضل للحل في عموم سوريا، حتى باتت مناطق سوريّة عديدة تدعو إلى الاقتداء بالإدارة الذاتية حتى عسكرياً في مواجهة الإرهاب. فالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تمثل النموذج الأقرب للحل في سوريا ويمكن تعميمها من خلال تشكيل الإدارات الذاتية في المناطق المختلفة وإن كانت في الجوهر مختلفة عن جوهر الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ولكن ليس متضارباً معها،

فالإدارة الذاتية تحولت فعلاً إلى نموذج للحل في عموم سوريا بعد أن باتت الحلول الأخرى، سواء الروسية أو الإيرانية أو التركية أو ما تُسمّى بالمعارضة السورية، حلولاً لاغيةٍ للحل في سوريا ومرتبطةٍ بالأجندات ومصالح الدول في الوقت الذي فرضت فيه الإدارة الذاتية من خلال التطبيق العملي لمفهوم الأمة الديمقراطية كنموذج وطني جامع يلقى قبولاً دولياً نسبياً وقبولاً داخلياً شيئاً فشيئاً.

 بدوره  يشير  “وليد جولي” الباحث في مركز الفرات للدراسات، إن لوزان هي نتيجة توافقات قوى الهيمنة حول دور وشكل الدولة القومية التركية التي ستخدم أجندات تلك القوى كبريطانيا وفرنسا في المقام الأول.

بطبيعة الحال، اتفاقية لوزان تُعتبر واقع سياسي وتاريخي، تم التخطيط له في ظروف سياسية واجتماعية مختلفة عن المرحلة الراهنة، وأيضاً جاءت نتيجة مخاضات دولية وإقليمية تمحورت حول الجمهورية التركية ومستقبلها السياسي، كدولة وليدة يكمن دورها في تثبيت مشروع الدولة القومية في المنطقة من منطلق إقصاء وتهميش الشعب الكردي والشعوب الأخرى، ولكن هذا لا يعني الانغلاق التام على التغيير، هناك هامش كبير للتغير تحت مسميات مختلفة عن لوزان 1923 مرتبطة بشكل مباشر بمشروع النظام العالمي الجديد الذي يقوده الشركات العابرة للقارات والتي لا تقبل الحدود القومية المعيقة لعمليات السيل المالي الرأسمالي.

وعليه فالتغيير لا بد منه، والدولة التركية مدركة لذلك، وهي تعمل ليل نهار للاستفادة من التغيير، لذلك نجدها تشدد على التوسع تجاه سوريا والعراق في سياق “الميثاق المللي” والعثمانية الجديدة.

لذلك لا بد للكرد أيضاً أن يكونوا على مستوى التغييرات المحتملة والاستفادة من المشاريع الدولية المطروحة حول الأنظمة اللامركزية الاتحادية.

 

من جانبه يؤكد الدكتور فارس عثمان “الباحث والأكاديمي في التاريخ الكردي” على أن الشعب الكردي عليه أن يستفيد من تجاربه وإلا لن تقوم له قيامة في ظل الحرب الموجه ضده.

ويقول: في حال استفاد الكرد من التجارب التي مروا بها بعد لوزان وقاموا بتوحيد الصفوف والتنسيق والتعاون الجدي بين الأطراف الرئيسية للحركة وفتح المجال أمام النخبة الثقافية ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني، وخاصة أن للكرد قوة عسكرية مهمة في إقليم كردستان وروج افا وكذلك لهم حضور سياسي وشعبي كبير في كردستانا باكور وكذلك في إيران.

 

و يؤكد  “محمد جزاع” الباحث في الشؤون السياسية” إن القوى الدولية سواء روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية لن يقدِّموا أي شيء للشعب الكردي، فمصالحهم فوق مصالح الشعوب،  متسائلاٍ ؛المهم ماذا يقدّم الكرد لأنفسهم ولقضيتهم؟

من خلال مراجعة أحداث التاريخ في الشرق الأوسط وخاصة القضية الكردية، نرى أن كِلا الطرفين يعملان من أجل مصلحتهما، وما أكثر المواقف التي غَدَرَ فيها الطرفان الكرد.

ليس مهماً أن نقول نحن يجب أن نكون بهذه الضفة أو تلك، فالأهم من كل ذلك أن نسأل أنفسنا: نحن أين؟ وماذا نقدّم للعالم من أجل قضيتنا؟

هل من المفيد أن نسعى للحوار أو التفاوض أو أخذ موقف ما، والحركة الكردية مشتتة بشكل عام، والالتزام المبدئي بالقضية مغيبة في ذهن أدعياء الكردايتي…

القضية الأهم هو حوار الكرد مع بعضهم والوصول إلى توافق في الرؤى وأن نقدم للعالم برنامجاً واضحاً، ماذا نريد للكرد قومياً ووطنياً، وعندما يتحقق هذا المسعى، عند ذلك يكون أمامنا الخيارات.

بعد دراسة الموقف الأمريكي وجديته من القضية الكردية، ومدى مصداقيته، وبنفس الوقت دراسة الموقف الروسي، هناك شيء هام جداً علينا الحرص عليه ــ وضع الإدارة الذاتية وقوات “قسد” وما استطاعت من تحقيقها ــ والحفاظ على هذه المكتسبات حتى ولو كُنتُ مختلفاً بمقدار ١٨٠ درجة مع وضع الإدارة القائم؛ لأن هناك حقيقة أصبحت واقعاً وهو أن وجود هذه الإدارة على علاّتها، يعني وجود الشعب الكردي، وذهابها يعني خسارة كل شيء.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى