مقالات

هل ستنجح روسيا بإدارة الحلبة إلى النهاية…؟  

دوست ميرخان

تحولت الأزمة في سوريا إلى حربٍ أهلية وصراع دولي متعدد الأبعاد على الأرض بغض النظر عن الدوافع والاسباب والتوجهات المتشابهة والمركبة للقوى الدولية والاقليمية التي تدير الأزمة والصراع.

ما يقارب التسع سنوات والأطراف الداخلة تبحث عن مخرجٍ للأزمة ترضي جميع الأطراف لكن دون أية نتيجة أو تقدم يذكر، ولعل الأسباب التي تكمن في عدم قدرة هذه الاطراف في الدنو من الحل واضحة لا تحتاج إلى براهين، وهي تكرر ذاتها في كل مرحلة من مراحل الأزمة، وبينما يستمر النظام الحاكم في دمشق في التمسك بذهنيته القائمة على نظرية أنا أو لا أحد أخذت روسيا بتوسيع نطاق تدخلها حتى أصبحت الحَكم الفعلي في إدارة الحلبة في سوريا ووضعت كل الأزمة بجزئيتها وكليتها في خدمة اجنداتها على الصعيد السوري والاقليمي والدولي، من جانبها ارتهنت “المعارضة” السورية أيضاً للخارج على غرار النظام  ففي الوقت الذي كان شعارات التغيير والحرية تتعالى في المدن والبلدات كانت مجموعات المعارضة تبحث عن الوسائل التي من شأنها سحب كرسي السلطة من تحت نظام البعث القومي لتتحكم هي بسوريا وبمصير الشعب السوري وفق ايديولوجيتها التي تغلب عليها الطابع الاسلامي السياسي الراديكالي، لكنها فشلت في مسعاها إلى السلطة وجلبت كل أشكال الدمار إلى البلاد لدرجة أنها باتت ارخص أدوات الدول الإقليمية الداخلة في الصراع، بدأت الحرب في سوريا بعد أن هُيِّئ لها هذا المناخ المناسب وأخذت بالتصعيد مع تعالي الشعارات الطائفية والمذهبية التي اتقنتها المعارضة، لتصل بذاتها إلى درجة الإرهاب والفتك بقاعدة الخصم الذي بادر هو أيضاً ومنذ بدايات الأزمة إلى توظيف كل أدواته ووسائله الاستبدادية القمعية ورافق هذا التصعيد المزيد من التدخل والتمدد الاقليمي والدولي، لدرجة أصحبت الأرض السورية مستباحة لكل الجيوش والمجاميع المذهبية والطائفية والأخرى الاقليمية والدولية والتي رأت في الأزمة السورية فرصة مناسبة لإعادة تموضعها ورسم استراتيجيتها في المنطقة وعلى مستوى الشرق الاوسط عموماً، وجاء تدخل الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى في العالم على رأس تحالف دولي تحت شعار محاربة الإرهاب و ساهمت فعلاً في كسر شوكة الإرهاب عسكرياً، وذلك في اطار سياستها العامة في الشرق الأوسط دون أن تضع نفسها في عمق ومعمعة الأزمة واكتفت بحضورها عسكرياً في شمال وشرق سوريا.

 الشعب الكردي والقوى السياسية الكردية في سوريا لم تكن بعيدة عن الأزمة وكانت لها سياستها ومنظورها الخاص للأزمة وابعادها لذا فقد كانت متريثة ورزينة في اختيار موقعها من الأزمة بالرغم من إن الحراك الشعبي كان سباقاً للحراك السياسي فشوارع كوباني وعفرين وقامشلو وعامودا كانت تعج بالمتظاهرين مع انطلاقة الأزمة، ومع تبلور شكل الصراع بأحداثه المتسارعة أخذت الطبقة السياسية الكردية برسم استراتيجيتها في التعامل مع الأزمة على الصعيد السياسي الاجتماعي وفيما بعد العسكري كسوريين أولاً وكأكراد ثانياً لتكون أول ثورة من نوعها على مستوى سوريا، ومع مطلع العام الثاني أخذ المسار الذي اتخذه الكرد يتوضح واطلق عليه “الخط الثالث” والذي تميز باستقلاليته دون أن يرهنوا إرادتهم وقرارهم إلى طرف دولي أو اقليمي، وهذا لا يعني بأنهم لم يسعوا إلى اسناد ظهرهم إلى طرفٍ دولي أو اقليمي أو أنهم لم يسعوا إلى التواصل مع الحراك السياسي في سوريا عموماً وحتى فتح قنوات التواصل والحوار مع النظام الحاكم.

نجح الكرد في قيادة مسارهم السياسي بين الفوضى العارمة، واستطاعوا أن ينجزوا الكثير ويحققوا العديد من المكتسبات على الصعيد الوطني السوري وعلى الصعيد الكردي القومي أي أنهم كانوا في ثورة ثقافية وفكرية وسياسية إلى جانب كفاحهم العسكري في مجابهة التنظيمات الإرهابية بكل صنوفها، واستطاعوا خلق نموذجٍ سياسي للتعايش في سوريا المستقبل في شمال البلاد في الوقت الذي كانت “المعارضة” ترتمي بكليتها في احضان الدولة التركية التي سنأتي على موقعها ودورها الهدام في الأزمة السورية لاحقاً. وتوجهت هذه المعارضة بتشكيلاتها العسكرية نحو الإرهاب والتطرف إلى أن جنحت تحت راية تنظيم القاعدة في سوريا والعراق ولم يكن تنظيم النصرة وداعش إلّا الواجهة الأكثر تنظيماً لتلك التشكيلات التي جمعتهم تركيا اليوم تحت مسمى “الجيش الوطني”.

وبالرغم من كل التحديدات والعراقيل التي واجهتها الحركة السياسية الكردية ونموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال سوريا وبالرغم من احتلال الدولة التركية لمناطق في غربها إلا انها استطاعت المضي قدماً في القسم الشرقي منها خاصة بعد أن تمكنت قوات سوريا الديمقراطية كأحد مكتسبات الشعب والثورة  في تحرير المناطق التي كانت تحت نفوذ تنظيم داعش الإرهابي.

في المراحل المتقدمة من عمر الأزمة اخذت المعارضة السورية تنكمش وتتقلص على كافة الاصعدة خاصة على الصعيد الميداني لتنحسر وجودها في المناطق التي احتلتها تركيا، و لتبقى تركيا الآمر الناهي في توجيهها، الأمر كذلك بالنسبة للنظام السوري الذي انهكته الحرب من كل الجوانب  وبالرغم من نشوة الانتصار الذي تحقق بفضل الروس إلا إن تكاليف الاحتفاظ بالسلطة  كانت باهظة الثمن مادياً وبشرياً  لتكون لموسكو كلمة الفصل في القرارات وهذا ما أكده القادة الروس الذين يديرون الصراع في سوريا، وليبقى الحفاظ على النظام ورقة لهيمنتهم على سوريا والتي من خلالها يمارسون سياستهم واستراتيجيتهم في المنطقة والشرق الأوسط عموماً.

ثماني سنوات من الصراع كانت كافية لتحول سوريا إلى ساحة لصراع الدول والانظمة والايديولوجيات المذهبية والطائفية أنها أصبحت ميدان حلبة مفتوحة تديرها روسيا اليوم بالدرجة الأولى كونها تدخلت من “البوابة المشروعة” وهي التي وضعت كل طاقاتها في هذه الحرب لتكسبها أسوة بالولايات المتحدة الأمريكية التي اصبحت لها موطئ قدم في كل بقاع الأرض براً وبحراً وجواً فما العيب في أن تكون لروسيا نصيب الأسد في هذه البقعة التي انبطحت لكل القوى لكنها عصت على التغيير سورياً.

بعد ثماني سنوات يمكن القول بأن روسيا نجحت في أن تدير الحلبة في سوريا وأن تمدد نفوذها على الصعيد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، خاصة بعد أن اصبحت تركيا الشريك الأساسي لها في سوريا وفي المنطقة عموماً، وذلك بعد أن قلصت الولايات المتحدة من نفوذها في المنطقة عموماً والاحتفاظ بقوة صغيرة تثبت وجودها.

 تلعب موسكو اليوم دور الوصي والوسيط الرابح في المنطقة وبدا ذلك جلياً منذ قمة سوتشي الأولى بين بوتين وأردوغان

وما تبعه من ابتعاد أوروبي بشكلٍ عام عن الملف السوري واكتفائهم بالتصريحات والتنديد، وكنتيجة لسياسة واشنطن  العامة تجاه الشرق الأوسط فقد اصبحت الساحة مفتوحة امام موسكو مع الاحتفاظ باحترام التواجد الأمريكي في بعض نقاط تمركزها، ولعل الاتفاق الأخير فيما يخص شمال شرق سوريا بين كل من روسيا وأمريكا وتركيا والتي بموجبها احتلت تركيا كلٍ من رأس العين وتل ابيض وذلك في الوقت الذي اتفقت فيه هذه الاطراف على تكوينة لجنة الدستور السوري “الروسية – التركية” فقد اصبحت روسيا الحَكم والطرف الوحيد الذي يدير الحلبة.

زر الذهاب إلى الأعلى