مقالات

من دون مواربة: ما الذي فعلته مقاومة رأس العين؟

سيهانوك ديبو

في الظاهر؛ إنما يُعَدُّ جزء من الحقيقة حين القول بأن دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية منح الضوء الأخضر لاجتياح تركيا الأردوغانية المنطقة الممتدة ما بين سري كانيي/ رأس العين وتل أبيض/ كري سبي. على أن الحقيقة قد تكمن أغلبها في أن أردوغان استحصل الضوء الأخضر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها ال 74 في 17 أيلول سبتمبر الماضي حينما عرض خارطة شمال سوريا كلها وسمّها بهتاناً (المنطقة الآمنة)، وأن من يهدد (أمن تركيا القومي) هم قوات سوريا الديمقراطية الكردية العربية السريان الآشورية. معلوم بأن هذه القوات نالت رسمية عالمية كقوة ثورية ضد المجاميع الفاشية الإرهابية داعش وغيرها التي تشغِّلها تركيا عصاً سوداء في تعبيد الطريق إلى العثمانية الجديدة. كل الشك بأن أردوغان يبقى حتى عقد الاجتماع القادم؛ لكن إن بقي؛ كما أردفنا كثيراً وكما هو المعروف فإن بقائه منوط بنظام الهيمنة العالمية التي تحتاج أردوغان بسبب تنطعه لمهمة إشعال الحرائق، والتزامه اللامحدود بأن تبقى منطقة الشرق الأوسط في حال زعزعة مستمرة، لكن إنْ بقي: فأيَّها الخرائط التي يظهرها أردوغان في الاجتماع القادم للجمعية العمومية: هل هي في ليبيا أم مصر أم السعودية أو ربما تكون اليونان وبلغاريا؛ بالطبع في حال تنفيذ كل مراميه في العراق بشكل كامل؟ كل شيء وارد، وكل شيء مباح في زمن التواطؤ العالمي وحرص نظام الهيمنة العالمية على إسكات كل فم يدعو إلى محاكمة مجرم حرب القرن الواحد والعشرين أردوغان. وفي الوقت نفسه بعدم قدرة السلطات الوطنية الشرق أوسطية من الإقدام ما يلزم تحصينها وحفظ سياساتها الوطنية المحلية الإقليمية دون الرجوع إلى مراكز القرار للنظام المهيمن.

أردوغان نال موافقة الاجتياح الكامل لشمال سوريا ثلاث مرات: مرة حين عرضه لخارطة شمال سوريا التي أظهرها للعالم بأنه عازم على احتلالها لا محال، ومرة حين إعلان ما يسمى باللجنة الدستورية السورية في 23 أيلول سبتمبر بالتي خلت من كل القوى الديمقراطية السورية في مقدمتها مجلس سوريا الديمقراطية؛ وهذا ما أثلج صدر العثماني بالإضافة أيضاً هنا ما صدرت من تصريحات متهافتة من خارجية السلطة السورية واتهامها لقسد بأنها تنظيمات إرهابية؛ من المؤكد بأنها الحركة المقبوضة أثمانها؛ لا أتحدث عن الجانب المالي إنما المادي في صوغ تبادل مناطق النفوذ. يبدو أن سياسة ترامب الصفقاتية باتت موديلاً يتبعه الجميع: الذين معه والذين ضده والذين بغير الضد وبغير المع. أما المرة الأخيرة التي قال فيها ترامب لأردوغان بأنه الأحمق الشيطان …الخ من تلك الرسالة التي سُرِّبت عن دراية وبمقاصد معروفة مفهومة.

لكن ما الذي فعلته مقاومة سريي كانيه/ رأس العين؟

أولاً؛ على المنحى المحلي والإقليمي والعالمي: قالها أردوغان ذات مرة مصِّراً على واشنطن بأن تختار إما أنقرة أو الكرد في سوريا. مع العلم بأن الجواب المعقول هنا بأن أمريكا كما روسيا كما كل الدول والخرائط التي قامت في مطلع القرن العشرين: تختار مصالحها. لكن وهي المرة الثانية في مطلع الألفية الثالثة على الأقل: إن سكان الكرة الأرضية اختارت مقاومة رأس العين؛ اختاروا حل القضية الكردية (نراها بأنها غير المنفصلة عن حل القضية الديمقراطية)؛ بالعلم أنها المرة الأولى التي اختارت فيه الشعوب الوقوف إلى جانب مقاومة كوباني. أما فرض واشنطن على أنقرة اتفاق وقف اطلاق النار ما بينها وقسد فيعني بأن كوباني باتت المحصنة والخط الأحمر العصي حتى على نظام الهيمنة العالمية بتخطيه.

لم يتوقف الأمر عند ميلان الشعوب إلى جانب مقاومة سريي كانيه/ رأس العين إنما أيضاً الرأي الرسمي. القاهرة بشكل كبير وعموم بلدان الجامعة العربية التي أدانت الغزو التركي اعتبرت بأن مقاومة قسد مشروعة تؤكدها القوانين الدولية نفسها في مقدمتها القانون 51 المتعلق بحق الدفاع المشروع؛ من المتوقع أن لا تقتصر موقف الجامعة العربية هنا إنما قد يرتقي إلى اجراءات تتعلق بالجوانب الاقتصادية والسياسية الرادعة أيضاً. بالفعل لقد تلمّس شركاء الكرد التاريخيين؛ ليس بدايتها من عند مقاومة صلاح الدين الأيوبي؛ إنما قبل ذلك بكثير وبعده إلى اليوم؛ بأن تحقيق مطامع تركيا الأردوغانية في شمال سوريا يعني بأن عواصم الدول العربية تتحول أبوابها إلى أرقام للضرب من قبل العثمانية الجديدة؛ سيّما أننا نعيش حربا عالمية ثالثة بالرغم من أنها بالشكل المسيطر عليها. هذا الشيء ينطبق أيضاً على الاتحاد الأوربي وإدانته بالاجتياح التركي وما رافق ذلك من عدة اجراءات تراوحت ما بين انهاء العلاقات الدبلوماسية وتعليق نقاش عضوية تركيا في أوربا؛ إلى وقف تصدير السلاح الأوربي إلى أنقرة. ناهيكم عن عشرات من المواقف الرسمية الأوربية على ضرورة وقف فوري للعملية العسكرية التركية. كما أن هذه المقاومة وما رافقها من حراك عالمي إقليمي أدت إلى توقيع تفاهم عسكري ما بين قوات سوريا الديمقراطية وروسيا/ السلطة السورية. لن تستطيع دمشق بعد اللحظة رمي التهم جزافاً إزاء أهم قوة عسكرية وطنية في سوريا وهي قسد. على العكس تماماً لقد ناقضت نفسها بنفسها. لا نقولها هذا هنا لإظهار عدم تماسك السلطة السورية وتناقض تصريحاتها إنما للتصحيح الذي نحتاجه جميعاً كسوريين.

ثانياً؛ ولأول مرة نتأكد نحن الكرد ليس فقط في سوريا بأن القضية الكردية حان وقت حلها حلاً عادلاً يقرره الشعب الكردي بالتوافق مع شركائهم واخوانهم في المصير الواحد. واللحظة المتأتية من قوة مقاومة رأس العين أعلنت بصراحة وضجيج قوي إلى درجة الارتطام الكوني ودرجة ولادة الأفكار كما في نظرية الأمة الديمقراطية بأن القضية الكردية في سوريا ليست بالقضية الوطنية فحسب إنما باتت اللحظة بالقضية العالمية. وتدويل القضية الكردية باتت مفتوح باب حلها على مصراعيه.

ثالثاً؛ لمرة أخرى يجب التكرار بأن مقاومة رأس العين أفشلت بشكل شبه نهائي مرامي العثمانية الجديدة، وأسقطت خارطة السلطان وهو يترنح بها في مبنى الجمعية العامة وقلص مساحتها حيثيات وقف اطلاق النار؛ فتكون بدلاً من كامل شمال سوريا وروج آفا إلى رأس العين وتل أبيض. وهنا يمنع منعاً باتاً التفكير لحظة بأنها تضحية برأس العين أو تل أبيض مقابل انحسار الخطر على ديريك وقامشلو/ قامشلي ودرباسية وكوباني وعموم شرقي الفرات، إنما جعل الجهود مجمّعة بدلاً من تشتيتها وإضعافها على طول خط طويل تعجز عن القيام بها أعتى الدول. إنما جعل هذه الجهود منصبة في تحريرهما إلى جانب تحرير عفرين الجرح الذي لا يندمل في ظل دوام مقاومة العصر في عفرين مستعرة متكبدة العدو ومرتزقته الخسائر الكبيرة.

رابعاً؛ وهي مثالية استراتيجية تتعلق بإفشال كل ما يبتغيه العثماني الجديد في حصول حرب بينية عرقية ما بين الكرد والعرب. لقد أفشل العرب والسريان الآشوريين والكرد وجميع المكونات في شمال سوريا طريقة الاستعمار هذه في الإيقاع ما بين مكونات المنطقة الواحدة. وأكدوا اليوم مرة أخرى بأن مشروع الإدارة الذاتية الحل المثالي للأزمة السورية. وفي لبنان وحتى في فلسطين واسرائيل.

من المبكر الحديث بأن انسحاب قوات سوريا الديمقراطية عن سريي كانيه/ رأس العين هي النهاية. لا توجد في قضايا الشعوب –بخاصة القضية الديمقراطية- نهايات إنما دائما البداية ودوام النهوض. وحينما نتفق كلنا ككورد وشركائهم التاريخيين بأن ما يحدث هو لعبة الأمم فإن الأنظمة الاستبدادية تدرك قبل غيرها بأن الذي تحصَّل ويلحقهم على طول الخط هو لعنة الكرد. وأنه ليس أصدقاء الكرد فقط الجبال؛ إنما شعوب تسكن الوديان والسهول وعلى ضفاف الأنهار أيضاً، في الشرق والغرب. ولمن يشكك فليسأل -من كان فقيراً بالتاريخ- كل دفقة من دفقات دجلة والفرات عن تاريخ الكرد وكردستان.

زر الذهاب إلى الأعلى