مقالات

مقاومة الرابع عشر من تموز تثمر من جديد

قبل أيام مررنا بمناسبة عظيمة كعظمة المقاومة في  تاريخ الشعوب، ذكرى مقاومة الرابع عشر من تموز التي شكلت انعطافة حقيقية في مسيرة شعبنا وحركتنا نحو الحرية بقيادة “خيري وكمال وعاكف وعلى جيجك” الذين باتوا رموزاً حقيقية لأمة حطمت قيود العبودية والإنكار والإبادة، سنظل ملتزمين بأهدافهم وأهداف كل الشهداء وننحني أبداً إجلالاً لهامات هؤلاء الأحرار الذين رسموا معالم نهجنا الثوري المقاوم ووضعوا استراتيجيات العمل الثوري الحقيقي في هذا الوطن الذي أراد الآخرون دفنه حياً، نستنبط من مقاومتهم العِبر والدروس، نقف في ذكراهم الجليلة هذه لنوجه من خلالها لهم ولكل المقاومين المرابطين في الجبهات والذين ما زالوا في مجابهة الإرهاب دفاعاً عن القيم الانسانية والكونية المجيدة، ولكل السائرين الثائرين على هذا الطريق عبر تاريخ المقاومة المعاصرة التي بدأت قبل الرابع عشر من تموز ولم تنتهِ، اليوم بعد أن قطعت أشواطاً في طريق بناء الوطن الحر.

كانت مقاومات السجون ومنها مقاومة الرابع عشر من تموز الرد الطبيعي السليم والثوري لحملات الإبادة والإنكار التي كانت تستمر فيها الفاشية التركية وخصوصاً عندما أمعنت فيها بعد الانقلاب الفاشي الرهيب الذي استهدف الشعب الكردي وكل الحركة الديمقراطية التركية والكردستانية على حد سواء. عمد النظام الفاشي الذي فشل في ترويض الثوار إلى حملات إبادة إضافية داخل السجون أيضاً وهذا ما استوجب الرد الثوري واستمراره بكل أشكاله بدءاً من مقاومة مظلوم دوغان في نوروز 1982 مروراً بمقاومة الرابع عشر من تموز وما تلتها من مقاومات أسفرت بنتيجتها النهائية إنقاذ الحركة ومن ثم الشعب الكردستاني من خطر الإبادة من بين أنياب ومخالب أعتى الإرهابيات الفاشية في العصر الحديث خصوصاً أنه كان إرهاب الدولة المنظّم الشبيه بإرهاب داعش وفقاً لمقاييس تلك المرحلة.

كانت ثورة حقيقية بدأت في السجون، انطلقت من عملية “كاوا العصر” مظلوم دوغان واستمرت عبر عملية فرهاد قورتاي ورفاقه لتصل إلى الرابع عشر من تموز وتنتشر المقاومة في كل السجن وبين الشعب مما نقل راية المقاومة من داخل الزنزانات نحو قمم الجبال لتعلن ميلاد ثورة وحرب شعبية، وجيش وتنظيم شعبي ساهم في دفع شعبنا نحو الحرية مسافات ومسافات.

كانت الصفعة القوية في وجهة الفاشية التركية والتي كانت مفاداها بأنه هذا الشعب استيقظ من غفلته وسلك طريق المقاومة والحرب الشعبية وما خطوة الخامس عشر من آب، وإعلان قوات تحرير كردستان إلا نتيجة حقيقية لانتفاضات السجون المقاومة عند انطلاقتها إلى الجبال.

وهكذا بدأت المعركة الثورية المفتوحة في المواجهة مع إرهاب الدولة التركية المُنظم، إحياءً لذكرى مقاومات السجون التي امتدت إلى يومنا هذا لتكون هي اللّبِنة الأساسية لمقاومات اليوم.

تستند الشعوب المضطهدة سواء العربية أو الكردية والسريانية في روج افا وشمال سورية إلى تلك المقاومات، نستمد منها العزيمة والقوة والفكر والفلسفة والإرادة الصلبة والتي حطمت جبروت الدولة التركية.

الجبروت الذي كان يحمل تاريخاً أسوداً على مدى أربعمائة عام تتمثل في سيطرته على المنطقة والدول العربية عبر السلطنة العثمانية والتي لها تاريخ طويل في ارتكاب المجازر وأبشع الجرائم بحق مكونات المنطقة، منها على سبيل الذكر: استخدام شباب  في الحروب كوقود لمجابهة الخارج ومطامع استعمارية لأطماع السلطنة العثمانية في أيام “سفر برلك” وأيضا الإعدامات على الخوازيق أيام جمال باشا السفاح في دمشق والمجازر التي ارتُكِبَتْ بحق الشعب السرياني الآشوري الكلداني والأرمني.

هذا كان تاريخ تركيا, أحفاد العثمانيين المليء بالمجازر في سجون “آمد” وغيرها تم التصدي لهذا التاريخ وهذه العقلية وكسر جبروتها بفضل المقاومات هذه، ولهذا نعتبرها بداية مقاومة عظيمة في وجه الفاشية التركية آنذاك، إلا أننا لم نَنْتَهِ حتى هذه اللحظة من المداخلات التركية ولم ننتهِ من أعمال السلطنة العثمانية الجديدة .

في هذه المرحلة التي نحن فيها وبالضبط في شمال وشرق سوريا عندما أردنا أن نعيش بكرامتنا وأن نظهر للعالم أجمع بأننا أصحاب إرادة حقيقية وحرَّة نستطيع أن نعيش مع بعضنا متكاتفين ومتحدين متكاملين “اجتماعياً، ثقافياً، اقتصادياً وسياسياً” إدارياً وفي كافة المجالات أصبحنا في مواجهة الحكومة التركية وأصحابِ النهج الطوراني .

هذا الفسيفساء الجميل الذي جمع العربي والكردي والسرياني معاً في مجابهة “التنظيمات الإرهابية، داعش، جبهة النصرة” وغيرها من الكتائب التي ظهرت بعباءة الإسلام والإسلام منهم براء.

الارهاب الداعشي الذي  بهذا الاسم أراد أن يخلق تاريخاً جديداً للمنطقة، أراد أن يضرب المكونات بعضها ببعض لخلق فتنة في المنطقة نحن بغنىً عنها عدا عن ذلك التغيير الديمغرافي للمنطقة إضافة إلى التغيير في العادات والتقاليد والثقافةً والقيم، أرادوا أن يعيدوا المنطقة إلى الوراء لمئات السنين  لزمن السلطنة العثمانية وغيرها من الإمبراطوريات التي مارست كافة أساليب الظلم والإرهاب والإنكار على المجتمعات التي حولتها إلى حقل تجارب لممارساتهم العدوانية الإنكارية؛ خدمةً لأطماعهم اللامشروعة ولهذا لم تُخلّف سِوى الدمار والخراب، ادّعُوا بأنهم سيؤسسون الدولة الاسلامية في العراق والشام، ولكن ما شاهدناه لا يرتقي إلى أي مستوى من الثقافات ولا يحمل أي نوع من النماذج التي يستطيع المجتمعات العيش بموجبها إذ لم تكن سوى مزيج من ثقافة “الكره، الحقد، القتل، الدمار والإبادة”.

كل الدول التي قامت على الأسس القومية وأنكرت التنوع الثقافي، الديني، اللغوي تحولت إلى دكتاتوريات وانهارت لأنها ابتعدت عن القيم الكونية المتمثلة في العدالة، المساواة، السلام والمشاركة والتعددية، باعتبارها أسُساً لا يمكن التنازل عنها، وهذا ما يجعل هذه القوى العدوانية بما فيها داعش، وحتى إن كانت دولاً مثل “تركيا خارج إطار العصر ومحكومة بالانتهاء والفناء.

هؤلاء الذين حوَّلوا الساحة السورية إلى مرتع للإرهاب وساحة للصراعات الدولية، أرادوا بذلك وضعها في خدمة أجنداتهم الخاصة، ولم يكن اختيار سوريا لهذا الهدف اعتباطياً، إنما مخططاً ومدروساً ولهذا فإن توجه الإرهابيين إلى مناطق سري كانيه وكوباني وغيرها كان مدروساً وهادفاً لخلق صراعات حقيقية بين المكونات المختلفة وضرب قيّم التعايش الأخوي والعيش المشترك عَبْرَ أحقر الأساليب وأكثرها ظلماً وعدوانية وظلاماً، وليس سراً إنه هناك حتى الآن من لايزال يُراهن على داعش وغيره من الدول الإقليمية والقوى المحلية.

الدولة التركية منذ البداية كانت الداعمة الأساسية لهذا الإرهاب، وهي بهذا المعنى أو ذاك استمرار لمجازرها ضد العرب والكرد والأرمن والسريان، وإن كان  بأشكال وألوان مختلفة مثل “مجازر آمد وديرسيم وزيلان” بحق الكرد أو مجازر العثمانيين ضد الأرمن أو السريان وكذلك مجزرة جمال باشا السفاح في وسط دمشق وغيرها ــ وغيرها.

ومع بدء الأزمة السورية كان دور تركيا واضحاً في دفع جماعات الإرهاب بكافة أشكالها نحو الشعب الأرمن وقواته التحررية الحقيقية، إذ أن الدولة التركية لم تترك فرصة إلا واستخدمتها للهجوم على الشعوب الأخرى للتحكم بها والسيطرة عليها حتى وإن كان ذلك عبر المجازر، ولهذا أصرّت تركيا على استخدام داعش والنصرة في معركتها ضد كل مكونات الشعب السوري لتأمين الخلاص منها ولو عبرَ المجازر الحمراء أو البيضاء.

لقد حاربت كل المكونات وأبادت قسماً منها واستمرت الدولة التركية ولا تزال حتى الآن في إصرارها على رفض الواقع الكردي شكلاً أو مضموناً وفي كل مكان، وهي تصرَّح علناً أن أفضل كردي هو الكردي الميت، وهو إرهاب موجه للكرد في كل مكان، وتحجها بذرائع وحجج من قبيل أنها ليست ضد الكرد كشعب بل هو ضد بعض الأحزاب السياسية، إنما هي محاولة يائسة لإخفاء حقيقتها التي ظهرت على أكثر من صعيد كعداء سافر ضد الكرد، كما كان يوماً ضد السريان أو الأرمن أو العرب.

كلنا شاهدنا تهديدات أردوغان الوقحة للإقليم عند إعلان الاستفتاء العام، وهي تكاد تكون استمرارية لممارسات السلاطين السابقة بحق الشعوب والأمم.

تركيا تدخلت في الأزمة السورية منذ اليوم الأول عبر فصائل تابعة لها ومن خلال التنسيق مع العديد من الفصائل والقوى الإقليمية وغالباً ما استندت إلى الفصائل الاسلامية حتى كانت آخرها داعش والنصرة في ممارسات تدل كل علاماتها على رغبة تركية واضحة في تعميق الأزمة لرسم مُستقبل ينسجم مع سياساتها في سوريا، وعندما فشلت تركيا في مراهناتها على تلك الفصائل تدخلت مباشرة وعبر صفقات دنيئة لاحتلال مناطق واسعة امتدت من جرابلس وحتى الباب حتى كانت نهايتها في عفرين في حرب إبادة وتغيير ديموغرافي ضد الكرد في عفرين إثر توافقات دولية مع الروس وسط صمت دولي ومحلي.

ونظرة سريعة إلى واقع عفرين الراهن يظهر بوضوح السياسة والمواقف العدائية التركية ضد الكرد وايغالها في الإبادة والانتقام.

لكل هذا فأن التاريخ يبدو إنه يكرر نفسه من جديد وإن بشكل آخر، وبتوازن جديد للقوى بين محاولات تركيا الرامية لإبادة الشعوب ورغبتها في الحياة والتمسك بها عبر مقاومات مجيدة أثمرت وستثمر عن وطن حُرٍّ سيّد لشعوب سوريا في مواجهة كل أنواع الإرهاب والإنكار.

من هنا تنبع أهمية ثقافة المقاومة التي وصلت إلى إحدى ذراها في الرابع عشر من تموز عام 1982 لتكون مسيرة وأسلوباً لنضال كل شعوب المنطقة، ولكن هذه المرة بطريقة عصرية تطورية وبتشاركية عظيمة وجادة وحقيقية تضع ملامح جبهة شعبية ديمقراطية بمواجه المد الإرهابي العالمي المدعوم من دول إرهابية.

تلك المقاومة العظيمة داخل سجون الاحتلال الفاشي كانت الميراث الحقيقي الذي استند إليه شعبنا في ملء شمال – شرق سوريا لتطوير مقاومة أسفرت عن كل هذه المكتسبات العظيمة المُزيَّنة بقيم الحياة الحُرَّة.

هؤلاء هم صُنَّاعُ الانتصارات في منبج والرقة والدير وقبلها في كوباني وسري كانيه، الخلود لأرواح مقاومي الرابع عشر من تموز تلك الأرواح التي انبتت مقاومة شعبية باتت أيقونة الحرية ورمزاً لمكافحة الإرهاب وهزيمته واستسلامه.

زر الذهاب إلى الأعلى