مقالات

معايشة لواقع مذابح الكرد في تركيا

خلال تصفّحي لوسائل التّواصل الاجتماعي قبل أيامٍ قليلةٍ وجدت أنّه قد فاتتني أخبار أسرةٍ أعرفها, فقد قُتلت ابنتهم هاجر أصلان حرقاً بينما كانت تختبئ في قبوٍ خلال العمليّات العسكريّة التّركيّة بمدينة (جزير) ذات الأغلبيّة الكرديّة الواقعة في جنوب شرقي تركيا في يناير عام 2016, وما زالت والدة هاجر تبحث عن جثّة ابنتها, وتعتقد أنّها تحت الكتل السّكنية الحكوميّة الجديدة الّتي تمّ بناؤها, وتتساءل السيدة: أليس هذا عذاباً؟

وخلال حظر التّجول الّذي فرضه الجّيش في جزير عَلِق مئات الأشخاص في الأقبية, وبعض هؤلاء كانوا أعضاءً في (وحدات حماية المدنيّين) لكن الأغلبيّة كانوا مدنيّين وطلاب جامعات جاؤوا تضامناً مع سكّان المدينة, وكان من بينهم جرحىً.

وبلغ العدد الإجمالي للضّحايا الّذين سقطوا في أقبية جزير خلال العمليّات العسكريّة الّتي نفذّتها الدولة التّركيّة (288) قتيلاً، ومن بينهم أشخاصٌ حُرقوا أحياءً. وفي السابع من فبراير عام 2016, وبعد ذلك ذكرت مؤسّسة الإذاعة والتّلفزيون التّركيّة (تي.آر.تي) أن قوّات الأمن في جزير دخلت الأقبية الخاضعة لسيطرة الإرهابيّين.

وفي الحادي عشر من فبراير وبعدما أعلن وزير الدّاخليّة (أفكان آلا) انتهاء العمليّات، نشرت فرق العمليّات الخاصّة صوراً على مواقع التّواصل الاجتماعي لجثثٍ ممدّدةٍ على الأرض في جزير, وأظهرت إحدى الصّور جثتين لامرأتين عاريتين.

وبعد رفع حظر التّجول زرت جزير عدّة مرات, وفي سبتمبر 2016 زرت أسرة هاجر أصلان الّتي كانت تتألف من ثمانيةً أبناء وبنات, منهم اثنان (سعيد 23عاماً وهاجر 18 عاماً) كانا قد فقدا حياتهما في أقبية جزير, وأحد الأبناء ويدعى محمد انتقل للجّبال وكان يبلغ من العمر وقتها 13 عاماً فقط, ولا يعرف أحدٌ ما إذا كان محمد ما زال حيّاً أم لا, وأيضاً لقي خالهم سليم الأب لثلاثة أبناءٍ حتفه في منزله عندما أُصيب بشظيّةٍ خلال حظر التّجول.

تحدّثت إلى أمّهم (حِزنة أصلان) الّتي قالت لي: “إنّ سعيد كان مقاتلاً وإنّه سُجن بسبب مشاركته في اجتماعٍ صحفيٍّ وتعرّض للتّعذيب في السّجن, عندما بدأت الاشتباكات في جزير انضمّ إلى وحدات الحماية المدنيّة, وبعد يومٍ اتّصل بي وقال: “أمّي أنا لن أعود إلى المنزل بعد اليوم وسأقاتل من أجل حماية شارعنا, وكان هذا آخر حديثٍ لي معه”.

وتابعت الأمّ: بعد ذلك بأسابيع قليلةٍ سَمِعت أنّ سعيد قد أُصيب, فتوجّهت هاجر الّتي كانت طالبةً بمدرسة التّمريض إلى الأقبية لمساعدة أخيها, وعندما ذهبت هاجر إلى الأقبية لكي تجد شقيقها شعرتُ أنّها ستُقتل, كانت هاجر مدنيّةً وكانت طالبةً, ولم تكن تعرف كيف تقاتل وكيف تنجو بنفسها, ولم تستطع هاجر أن تجد شقيقها في الأقبية، فقد كان سعيد قد غادر القبو قبل أن تأتي, وأثناء مغادرته لجزير سمع سعيد بأنّ هاجر أتت إلى الأقبية بحثاً عنه فقرّر العودة, ولكن القوات الخاصة كانت قد أمسكت بها وقتلتها, لقد حُرقت هاجر حيّةً في الأقبية.

وكانت حِزنة تبتسم حين تتذكّر أبنائها في صباهم وهي تقصّ عليّ حكاياتهم بينما بدت هادئةً في بعض الأوقات, لقد ظلّت تبحث عن جُثث أبنائها لأشهرٍ, وتقول حزنة: “لم أكن أتصّور أبداً أنّ سعيد سيموت، لكنّني كنت أعرف أن هاجر ستلقى حتفها, وبعد أشهرٍ كثيرةٍ اتّصلوا بي من المشرحة في غازي عنتاب, فذهبت إلى المشرحة وأبلغوني بأنّهم وجدوا جثّة أحد أبنائي, اعتقدت أنّها جثّة هاجر, لكن عندما فتحت الكفن الأبيض رأيت وجه سعيد, شهور وسنوات تمرُّ ولم تأتني بعدُ خصلةٌ من شعر هاجر, أبحث عن خصلةٍ من شعر ابنتي”.

والآن وقد مرّ عامان ونصف العام منذ العملياّت في جزير ولم يُعثر بعد على 18 جثّةً مفقودةً, وبعض الجّثث الّتي لم تتحدّد هويتها دُفنت في مقابر الأطفال في جزير وعلى شواهد القبور توجد أرقامٌ فقط.

وأنا رأيت بالأمس منطقة حظر التّجول (سور) في مسقط رأسي, لقد استمرّ حظر التّجول لأكثر من عامين ونصف العام, كانت الأمطار تهطل بقوّةٍ، وكانت هناك حواجز أمنيّةٌ وضعتها الشّرطة أمام منطقة حظر التّجول.

مررت من الحاجز خلسةً ودخلت المنطقة على الرّغم من علمي بأنّ هذا ممنوعٌ, ورأيت مدرسةً ومسجداً وقد تعرّضا لدمارٍ كاملٍ خلال الاشتباكات, فتحرّكت بسرعةٍ صوبهما، فقد اتصلت بي أسرة أرسلان الّتي تنحدر من أرزروم الشّهر الماضي وأبلغتني بأنّ ابنهم حقان أرسلان (17 عاماً) قد دُفن في مكانٍ ما هناك, وكانت الأسرة قد تقدّمت بطلباتٍ لحاكم آمد وإدارة الشّرطة عدّة مراتٍ للدّخول إلى منطقة حظر التّجول لكي تتمكّن من استخراج جثّة ابنها, لكنّها لم تحصل على تصريحٍ بذلك.

مشيت ببطءٍ في المنطقة, وحاولت أن أعثر على أيّة علامةٍ تُظهر أنّ شخصاً ما قد دُفن هناك, لكن بعد ذلك غلبتني دموعي، ما الّذي أفعله؟

في السّنوات الثّلاثة الأخيرة ظللت أكتب باستمرار عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في منطقتي, حاولت أن أرفع وعي الناس بشأن الحرب الدّائرة والدّمار الّذي لحق بمسقط رأسي, وشأني شأن جميع الكرد, أشعر أنّني منهكةٌ للغاية وبلا أملٍ, فكلّ يومٍ نستيقظ صباحاً على المزيد من الأخبار السّيئة الّتي لا تتوقّف أبداً.

لم تكن تلك الفترة عاماً أو اثنين، بل هي 40 عاماً من الحرب والموت الممارس على الكرد في هذه المنطقة.

جزءٌ منّي يشعر بأنّ عليّ أن أستمر في الكتابة وتسجيل التّاريخ، حتّى وأنا أعلم أنّ هذا لن يغيّر في الأمر شيئاً, لكنّني عندما أفكّر في المقابر ذات الأرقام في مدافن جزير أسأل نفسي: “ما الفائدة من أن أكتب..!

زر الذهاب إلى الأعلى