تقاريرمانشيت

كيف استغل الكرملين الأزمة في سوريا…؟

تتكبّد روسيا نفقات بمليارات الدولارات منذ تدخّلها في الأزمة السورية  خاصة على الصعيد العسكري مستغلة حالة الضعف التي انتاب النظام والدولة السورية عموماً، وهذا ما فاقم من وضعها الاقتصادي الحرج؛ فهي تواجه أيضاً عقوبات أمريكية وأوروبية قاسية على خلفيّة احتلالها لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، ما أثّرت سلباً في اقتصادها الذي يعتمد بشكل رئيس على السوق الأوروبية.

وكل تلك النفقات والدعم العسكري والسياسي واللوجيستي لا يتحمّلها موسكو من أجل منع سقوط النظام في سوريا فحسب؛ بل وضعت كل امكانيتها ومقدراتها وثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي لحماية مصالح الامبراطورية الروسية التي كانت قد فقدت مكانتها ونفوذها في الشرق الأوسط والعالم وهي تحاول اليوم استعادة مكانتها في الصراع الدولي على مناطق النفوذ وذلك على حساب الشعب السوري والدولة السورية.

في نهاية شهر سبتمبر 2015، تدخلت روسيا بشكلٍ مباشر في سوريا عسكرياً، وذلك بعد أن فقد النظام الحاكم في سوريا قوته تماماً أمام المجموعات المسلحة “المعارضة” المدعومة من تركيا ودولٍ عربية آنذاك مستغلة بذلك الحالة التي وصل إليها النظام السوري، وذلك لتتحكم بالنظام وبالقرار في سوريا من أجل تحقيق مصالحها الاستراتيجية.

 وبالرغم من تكبدها لخسائر كبيرة منذ ضلوعها في الصراع والأزمة    في سوريا إلا أنها استطاعت أي روسيا أن تحقق جزءاً من أهدافهم ومصالحهم وطموحها متخذة من سوريا وأزمتها قاعدة لرسم استراتيجيتها على كافة الصعد.

وبحسب تقرير للمعهد البريطاني للدفاع “أي.إتش.إس جينز”، أصدره في 26 أكتوبر 2015، ونشرته صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، فإن موسكو أنفقت حينها ما بين /2.3/ مليون دولار و/4 / ملايين دولار يومياً على عملياتها العسكرية في سوريا.

ويشمل الإنفاق تكلفة الأسلحة والصواريخ والقنابل المستخدمة في القصف، إضافة إلى الخدمات التقنية وصيانة المعدّات المشاركة في العمليات، ونفقات المورد البشري.

وقدّرت الدراسة تكلفة عمل الطائرة الحربية الروسية في الساعة الواحدة بقرابة 12 ألف دولار.

وخلصت الدراسة أيضاً إلى أن روسيا تنفق قرابة 440 ألف دولار على الرواتب الشهرية والمكافآت للضباط الروس العاملين في قاعدة “حميميم” في سوريا، وعلى الطعام والخدمات الأخرى التي تقدمها لهم.

وفي تقدير آخر لتكلفة الحملة العسكرية الروسية، قالت صحيفة “جازيتا” الروسية، في 9 يناير 2016، إن موسكو أنفقت 4 ملايين دولار يومياً منذ 30 سبتمبر 2015 وحتى منتصف نوفمبر من نفس العام.

ولم تكن التكلفة الرسمية المعلنة لمعركة موسكو في سوريا مشابهة لتوقعات مراكز الدراسات والصحف، سواء الروسية أو الغربية، فقد أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 17 مارس 2016، أن تكلفة عمليات بلاده في سوريا بلغت 478 مليون دولار.

وفي تقدير آخر تبِع تصريحات بوتين قالت مؤسّسة (IHS) الدولية، التي تعدّ مصدراً مهمّاً للمعلومات والتوقّعات العالمية في مختلف القطاعات، في تقرير نشرته بـ 18 مايو 2016، إن تكاليف مشاركة روسيا في الحرب السورية اقتربت من 700 مليون دولار، خلال الـ 167 يوماً الأولى من العمليات العسكرية.

وعند جمع كل الأرقام الصادرة المتعلقة بنفقات سلاح الجو الروسي بطلعاته وغاراته الجوية في سوريا خلال عامين ( 2015- 2016) ستكون النتيجة قرابة مليار و471 مليوناً و760 ألف دولار حسب مراكز الدراسات الأوروبية والأمريكية والروسية.

وتفسّر هذه الأرقام ارتفاع الإنفاق العسكري الروسي خلال العام 2016؛ فبحسب بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) فإن موسكو أنفقت عسكرياً سنة 2016، 69.2 مليار دولار، مقارنة بـ 66.4 ملياراً عام 2015.

ما المقابل …؟

لكن السؤال الأبرز ما المقابل الذي يوده الكرملين من سوريا وإلى ماذا تسعى روسيا من وراء كل هذه النفقات التي تزيد من معاناتها الاقتصاديةأصلاً، وهل حقاً تسعى روسيا لحل الأزمة في سوريا إلى جانب تركيا وإيران اللتان تشاركها وتنافهسا في الاطماع والنفوذ…؟

 على الصعيد الاقتصادي:

موقع “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” نشر، في سبتمبر الماضي2018 ، تقريراً مطوّلاً حول “أهداف روسيا في سوريا”، أكّد فيه أن شركات الطاقة الروسية تتطلّع إلى تجديد استثماراتها في قطاع الطاقة السوري وتوسيعها، لكنها لا تسعى إلى التنقيب عن احتياطيات النفط السورية المحدودة واستخراجها، فهي تختزن كميات هائلة، بل تحاول الاضطلاع بدور فعال في إعادة إعمار البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا وتشغيلها.

وذكر المعهد الأمريكي أن شركات النفط الروسية مدركة لقيمة سوريا كمركز لنقل النفط والغاز أكثر من أنها دولة مزوّدة، وسعت إلى إيجاد وسيلة للمشاركة في مشاريع الطاقة السورية وليس التنافس معها.

وتابع أن من نتائج السطوة الاقتصادية الروسية على قطاع الطاقة في سوريا أنها ستطالب بالقسم الأكبر من الحصص في الاستثمارات المغامرة التي تمدّها بالقوى البشرية والإمدادات المطلوبة. وبهذه الطريقة سيضمن قطاع النفط والغاز الروسي أن أي بلد يدرس احتمال شحن منتجاته النفطية عبر مرافئ وخطوط أنابيب سوريا سيرغم على التماس رضا روسيا، إن لم يضطرّ إلى التفاوض معها مباشرة.

وفي الإطار الاقتصادي أيضاً، فإن موسكو تملك استثمارات في سوريا وصلت قبل الأزمة 2011 إلى 19 مليار دولار، بحسب بيانات الغرفة التجارية السورية.

وارتفعت الاستثمارات الروسية بقيمة مليار دولار إضافية حتى نهاية العام 2015، لتصل إلى 20 مليار دولار.

وإضافة للاستثمارات الروسية فإن صادرات موسكو إلى سوريا تبلغ 2.1 مليار دولار سنوياً، وهو ما يعادل 13% من إجمالي الواردات السورية، بحسب بيانات رسمية سورية.

ناهيك عن الاستثمارات والصفقات التجارية والاقتصادية في كل المجالات مع تركيا، بعد أن تقاطعت المصالح والاجندات بينهما على الأرض السورية في حدث تاريخي يعد الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بين الدولتين، وذلك أيضاً على حساب الشعب السوري.

على الصعيد العسكري :

يعد النظام السوري من أهم المشترين للمعدّات الحربية والأسلحة الروسية في الشرق الأوسط، و يليه النظام تركي حالياً بعد أن تطورت العلاقات ببينهما.

 وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وفي تصريحات سابقة له، قال إن مبيعات بلاده من الأسلحة لسوريا تهدف إلى تعزيز الاستقرار والحفاظ على الأمن في المناطق القريبة من الحدود الروسية.

و بحسب بعض الصحف التي تناولت هذا الموضع في وقتٍ سابق فقد بلغت قيمة عقود سوريا مع روسيا عام 2011 أربعة مليارات دولار.

هذا وتمتدّ مصالح روسيا في سوريا إلى قاعدتها الاستراتيجية البحرية المتمركزة في طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

وهذه القاعدة تستخدمها روسيا في إمداد سفنها الحربية لوجستياً افي المحيط الهندي، وتسعى موسكو إلى توسيع وتطوير هذه القاعدة حتى تزيد من حضورها في البحر المتوسط، وقد وافق رئيس النظام السوري عام 2008، على تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة ثابتة للسفن النووية الروسية في الشرق الأوسط.

وعلاوة على المصالح الاقتصادية والعسكرية فإن الدبّ الروسي يسعى بقوة لتعزيز نفوذه في منطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط في مواجهة النفوذ الغربي والأمريكي خاصة، وليعد قطباً عالمياً منافساً وتعتبر سوريا بوابته الرئيسية لتحقيق ذلك.

قاعدة للمرتزقة

كشفت شبكة “بلومبيرغ” الإخبارية الأمريكية في وقتٍ سابق، أن الغارات التي شنّتها الطائرات الأمريكية في13 فبراير2018 على موقع قريب من مدينة دير الزور، قتلت نحو 200 مرتزق روسي، وهم يعملون لصالح شركة فاغنر،  حيث أكدت موسكو أن هؤلاء لا ينتمون إلى “الجيش الروسي”.

 وفي تقرير نشتره الغارديان في وقت سابق حول هذا الحدث فقد أكدت ومن خلال مقابلات مع أقارب المرتزقة الذين قضوا حتفهم بأن “الراتب الشهري في شركة فاغنر يتراوح ما بين 90.000 روبل (1132 جنيهاً) للمقاتل إلى 250.000 روبل (3147 جنيهاً) للعسكريين المتخصصين، وهذه أرقام حسب رسلان ليفييف، مؤسس شركة «كونفليكت إنتلجنس تيم» في موسكو والتي تقوم بمتابعة الضحايا الروس في سوريا”.

وفق تقارير صحفية فان هؤلاء المرتزقة ينتمون لـ”القوزاق الأرثوذكس الروس” ذهبوا إلى سوريا للدفاع عمَّا يسمونها “روسيا الأم من البرابرة المجانين”، وذلك على غرار إيران التي جندت هي الأخرى مرتزقة من أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان للدفاع عمَّا يسمونه “المراقد المقدسة” في سوريا، والأمر كذلك بالنسبة لتنظيم داعش المدعوم من تركيا والذي جند الآلاف من المتطرفين السنة تحت شعار إقامة الخلافة الاسلامية في سوريا والعراق.

 هذا وليس لمجموعة المرتزقة التي أطلق عليها اسم “فاغنر” أي وجود قانوني، كما أن الشركات الأمنية الخاصة محظورة في روسيا، لكن تقارير تقول إن عدد عناصر مجموعة “فاغنر” وصل إلى 1500 في مرحلة من المراحل.

 لكن وبحسب وكالة “رويترز” تأسست الشركة على يد العميد السابق في الجيش الروسي ديمتري أوتكين، صديق الرئيس فلاديمير بوتين.

ورغم النفي الرسمي لوجود علاقة للمرتزقة بالجيش الروسي فإن الوقائع تؤكد أنهم يعملون بالتنسيق الكامل مع القوات الروسية، ويتلقون نفس امتيازات عناصر الجيش الروسي، ويتم نقلهم إلى سوريا بواسطة طائرات عسكرية روسية تهبط في القواعد الروسية هناك، ويتلقون العلاج في المستشفيات العسكرية الروسية أسوة بالجنود الروس.

وقد نشر موقع محطة ABC التلفزيونية الأمريكية أواخر العام الماضي، تقريراً مفصلاً تحت عنوان “جيش فلاديمير بوتين السري: آلاف من المقاولين الروس يقاتلون في سوريا”، جاء فيه أن مجموعة “فاغنر” قد نشرت في سوريا 3 آلاف مقاتل منذ 2015.

وتحدث التقرير عن دوافع روسيا من إرسال هؤلاء المقاتلين، وأولها أن بوتين الذي يتوقع أن يفوز في الانتخابات الرئاسية قريباً يمكنه القول إن انتصار روسيا في سوريا جاء دون خسائر تذكر في صفوف الجنود الروس، إذ إن المرتزقة يموتون دون ضجيج وليسوا على قيود وزارة الدفاع الروسية.

والسبب الآخر، وفق التقرير، أن المقاولين الروس يتولون حماية المنشآت النفطية والغازية التي يتم استردادها من الجماعات المسلحة، بموجب عقد بين النظام السوري وشركة “ايفرو بوليس” الروسية، حيث  كانت ستحصل الشركة على نسبة الربع من عائدات الحقول التي  تسيطر عليها الجيش الروسي .

باختصار هدف روسيا ليس حل الأزمة في سوريا أو الحفاظ على النظام السوري بقدر حفاظها على مصالحها الاستراتيجية، حيث يبعث الرئيس فلاديمير بوتين رسالة للعالم مفادها أن روسيا لا تزال قوة يعتد بها على الساحة الدولية. كذلك قتال الجماعات الإسلامية الروسية المتطرفة “الشيشان” ، على الارض السورية والتخلص من قاداتها الذين جاءوا إلى سوريا، حيث يوجد قلق في الكرملين من تنامي هذا الخطر الذي أدى لاستهداف روسيا بعدد من الهجمات نفذها الشيشان منذ العام 1990.

ورفع الدعم للرئيس بوتين داخليا، حيث أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وتدني أسعار النفط دفع الملايين من المواطنين الروس للدخول في الطبقة الفقيرة، وأن العمليات في سوريا تشغل الناس عن الأوضاع الداخلية وترفع “الاعتزاز بالوطنية”.

كذلك بيع الأسلحة السلعة الروسية الأكثر رواجاً ورخصاً من الأمريكية والغربية، حيث أن العمليات الروسية في سوريا وعمليات استعراض الأسلحة من طائرات وصواريخ وأنظمة عسكرية يعتبر دعاية للتصنيع العسكري الروسي.

 ويبقى السؤال من سيدفع فاتورة الكرملين في سوريا…؟

 المصادر:  وكالات، ومراكز دراسات وأبحاث

زر الذهاب إلى الأعلى